قصة قصيرة .. جريمة شرف

 

ولد يوسف ومريم في حيّ من أحياء المدينة الفقيرة وربطتهما منذ طفولتهما علاقات جوار؛ كانا يلعبان معا ويستمتعان بطفولتهما وبراءتهما بلا قيود، والتحقا بمدارس الحي وحصلا على شهادة الثانوية العامة في نفس العام. كان والد يوسف يملك متجرا للملابس يوفّر دخله حياة كريمة آمنة لأسرته، ووالد مريم يعمل في مصنع لمشتقات الألبان ويكافح لسدّ احتياجات أسرته.

لم يجد يوسف وظيفة بعد حصوله على الثانويّة العامّة وانضم للعمل كبائع في متجر والده، أما مريم فلم تجد عملا وبقيت في بيتها، كمعظم الفتيات العربيّات اللواتي يتخرّجن من المدارس الثانويّة والجامعات، تنتظر مصيرها الذي سيقرّره والدها والظروف والعادات والتقاليد التي لا تؤمن بملائمتها للعصر، لكنّها لا تستطيع أن ترفضها أو تتمرّد عليها.

كان يوسف طيّبا خلوقا محبّا للحياة وراضيا عن عمله مع والده، وكشاب في مقتبل العمر يحلم بأن يجد ” بنت الحلال”، ويتزوج ويستقرّ ويبني بيتا ويكوّن أسرة، ويعيش حياته كما يعيشها أبناء جيله وبيئته الاجتماعيّة. أما مريم فكانت شابّة جميلة تعشق القراءة، قويّة الشخصيّة، منفتحة على الحياة، حسنة السمعة تحبّ أسرتها، وتطيع أوامر والديها، وتحترم أقاربها وجيرانها.

وبما أن صداقات الطفولة والجوار لا تمحى من الذاكرة، استمرت علاقات الصداقة التي ربطت يوسف بمريم منذ طفولتهما؛ وكانت تمرّ على متجر والده لتشتري بعض ما يلزمها من ملابس، وتتحدث معه عندما يكون وحيدا في المتجر، أو عندما يلتقيان صدفة في الشارع أو في مكان عام. ولأنهما كانا صديقين في بداية شبابهما ويعرف كلاهما الآخر جيّدا، بدأ كل منهما يشعر بالانجذاب للآخر، وتحوّل ذلك إلى مشاعر وأحاسيس جميلة صامتة يشعران بوجودها من خلال شوقهما الدفين للقاءاتهما العفويّة.

في إحدى الأمسيات ذهبت مريم لشراء فستان من المتجر لارتدائه في حفل زفاف إحدى صديقاتها. كان يوسف وحيدا وعندما دخلت شعر بسعادة غامرة؛ أخبرته بما تريد ولماذا؛ وساعدها في اختيار الفستان الذي كانت تبحث عنه وبادرها بالقول:

” هذا فستان ممتاز سيزيدك جمالا يا مريم.”

احمرّ وجهها خجلا ونظرت إليه برقّة وشكرته على إطرائه واستجمعت شجاعتها وسألته:

” هل تعتقد بما تقول؟ ”

” إنك أجمل فتاة عرفتها.”

” توقف عن المبالغة؛ أنت تعرفني منذ الطفولة؛ أنا إنسانة عاديّة لا أختلف عن الأخريات في شيء.”

” أنت عندي أجمل ممّا تتصوّرين؛ إنّني أرى فيك ما لا ترينه؛ إنني أرى فيك جمال الجسد والروح والطيبة والوفاء.”

” شكرا لك.”

” ما رأيك في فنجان من القهوة في إحدى المقاهي؛ إنني استمتع بالحديث معك، وبيننا الكثير من الذكريات الجميلة المشتركة، وأود أن أطلعك على أمر شخصي مهم. هذا رقم هاتفي، هل يمكنني الحصول كذلك على رقم هاتفك وسأتصل بك لنتّفق على المكان والزمان إذا كنت ترغبين في ذلك.” أعطته رقم هاتفها بتردّد مصطنع وغادرت المكان وقلبها يخفق من شدّة الانفعال، لكنها لم تفاجأ بما قاله لها لأنها كانت تعلم في أعماقها بأنّه كان يميل إليها، ويندمج في الحديث معها، ويحرص على إرضائها.

وفي اليوم التالي قرع جرس هاتفها وكان يوسف على الخط؛ دعاها إلى فنجان من القهوة في مقهى معيّن واتفقا على أن يلتقيا بعد عصر يوم الجمعة. كان كلاهما متحمّسا للقاء ويفكّر في الطريقة التي يكشف فيها عن مشاعره للآخر؛ لكن المهم في الأمر أن كلاهما كان صادقا في مشاعره، ونظيفا في نواياه، وغيورا على سمعة وكرامة الآخر، ومستعدا للتضحية من أجله.

كان والدا مريم شبه أميين لم يحصلا إلا على القليل من التعليم، وشقيقها مطيع فشل وترك المدرسة الابتدائية، وشقيقها الآخر وشقيقتيها ما زالوا في المدارس؛ كانت العائلة فقيرة بسيطة محافظة جدّا لا تسمح لمريم بلقاء شاب على انفراد حتى إذا كان ذلك في مكان عام؛ وعندما اقترب وقت اللقاء، اضطرت مريم أن تخبر والدتها أنّها ذاهبة للسوق مع بعض صديقاتها؛ ثمّ ودّعتها وخرجت من البيت وقطعت الشارع  ووقفت تنتظر سيارة أجرة؛ كان هذا لقاءها الأول مع شاب في مكان عام؛ ولهذا كانت منفعلة ومتردّدة وخائفة أن يراها أحد وفكّرت في عدم الذهاب، لكن شعورها وأحلامها وميلها إلى يوسف انتصرت على مخاوفها.

وصل يوسف المكان قبل مريم بدقائق، وبدأ قلبه بالخفقان عندما رآها قادمة؛ استقبلها بالترحاب ومشاعر الود، وطلبا فنجانين من القهوة.

” أنا سعيد جدا أن أراك هنا يا مريم.”

” وأنا كذلك.”

” طمئنيني عنك! كيف أحوالك وأحوال الأسرة؟ عساكم جميعا بخير، وهل حصلت تطوّرات جديدة؟”

” الحمد لله؛ لا جديد! الأمور صعبة، وحياتنا رتيبة تسير بسرعة السلحفاة، نكافح من أجل البقاء، وأنا أدمنت على القراءة من قلّة الشغل.”

” إنني أعرف ظروف عائلتك وأقدّر التضحيات التي يبذلها والدك، ويسرّني أن أعلم أنك تقرئين كثيرا وتعملين على تثقيف نفسك باستمرار.”

” وأنت كيف أحوالك؟ ”

” عملي جيد ومربح؛ إنني أمضي أيامي في تنظيم وتنظيف المحل وفي التعامل مع شرائح مختلفة من الزبائن واستفيد من تجاربي الجيدة والسيئة معهم، والأسرة بخير وكما يقولون مستورة والحمد لله.”

وبدآ الحديث عن أيام طفولتهما والأوقات الجميلة التي أمضياها معا؛ وأخبرته بأن شقيقها مطيع، الذي ترك مقاعد الدراسة بعد أن رسب في الصف الرابع الابتدائي، وجد عملا كسائق حافلة في شركة، وإنه يساعد والدها في تحمّل جزء من نفقات وأعباء الأسرة.

وفجأة بادرها يوسف بالقول ” مريم! إنني أفكّر فيك معظم الوقت؛ أنت إنسانة جميلة جدّا ورائعة، وقادرة على أن تكوني مثالا للزوجة والحبيبة والأم، وأشعر أن كلانا يفهم الآخر، وإن الله خلقنا لنكون معا حسب أوامره وعلى سنّة رسوله، ولهذا أقول لك إنّني أحبّك من أعماق قلبي، واشعر بأنّك الإنسانة القادرة على مشاركتي حياتي، وأتمنّى أن تحبّيني كما أحبّك لنفكّر معا، ونكافح معا، ونخفق وننجح معا، ونبكي ونضحك معا، ونكوّن اسرة سعيدة ناجحة معا، ونستمتع بكل دقيقة من حياتنا معا، ونهرم معا، ونغادر هذا العالم مرتاحا البال بعد أن استمتعنا بوجودنا وحقّقنا ما نريد.

ازداد وجهها احمرارا، لكنّها لم تفاجأ بما قاله لأنها كانت تبادله نفس الأحاسيس والمشاعر. وبعد تردّد واضح أجابت باستحياء: ” لم أتوقع ان تفاتحني بهذا الموضوع في لقائنا الأوّل لكنني لم أفاجأ؛ إنني أكن لك الكثير من التقدير، وأثق بك، وأشاركك مشاعرك؛ لكنّني لا أفهم ماذا تقصد بالضبط، ولا أعرف ما هي خطّتك للمستقبل.”

” إنني أحبك كما قلت وأرغب أن أتقدم لخطبتك في الوقت المناسب وأن نتزوج خلال عام من الآن.”

” هل اخبرت والدك بنواياك؟ وهل تعتقد بأنّه سيوافق على زواجك من بنت عائلة فقيرة؟”

” الفقر ليس عيبا ومعظم الناس في هذا الحي فقراء؛ والدي ميسور الحال وليس غنيا، لكنّه رجل ناضج اختبر الناس والحياة ويريدني أن أكون سعيدا وينعم بمشاهدة أحفاده؛ ولهذا أعتقد أنّه سيوافق.”

” هل فكّرت في نفقات الزواج، واستئجار شقة، وفتح بيت، ومتطلبات الحياة الزوجيّة الأخرى؟”

” نعم فكرت في كل ذلك؛ إن وضعي المالي جيد وأستطيع أن أقوم بتلك الأعباء؛ ولكن هل تعتقدين أن أهلك سيوافقون؟”

“أعتقد أنهم سيوافقون، لكنني أقترح أن نتريّث قليلا حتى يعرف كل منا الآخر أكثر، وانشاء الله بصير خير.”

اتّفقا على اللقاء يوم الجمعة القادم في نفس المكان، وغادرا المقهى وهما في قمّة السعادة؛ لقد تأكد كلّ منهما أن مشاعرهما كانت مشتركة، وان روحاهما تعانقتا بعلاقة حبّ طاهرة ستتوّج بالزواج وتتحقق أحلامهما في بناء عش سعيد.

التقيا في الأسبوع التالي في نفس المكان، وبينما كانا منسجمين في الحديث ظهر واصف، أحد أبناء الحي، وبادرهما بالتحية وانصرف. كان واصف بغيضا حقودا فاشلا يتدخل في شؤون الآخرين ويهوى اختلاق الاشاعات وبثّها؛ وفي إحدى الأمسيات كان في مقهى الحي مع ثلة من أصدقائه السيئين الفاشلين مثله وبادرهم بالسؤال:

” هل تعرفون ما هي آخر أخبار الحي؟

” لا ” قال أحدهم وسأل ” ما هي؟ ”

” يوسف ومريم متورّطان في علاقة حب.”

” ماذا تقول؟ انت كذّاب! كيف عرفت؟ ”

” لقد رأيتهما معا في عدد من الأماكن.”

” وما العيب في ذلك؟ الكثير من الشباب والشابات يخرجون معا إلى الأماكن العامة.”

” أنا رأيتهما مرتين في أماكن منعزلة وشعرا بالارتباك الشديد عندما شاهداني؛ إنني أعتقد أنهما مرتبطان بعلاقة غرامية”

” انت تكذب يا واصف. يوسف ومريم طيبين ومحترمين ولا يمكن أن يتورّطا بأعمال لا أخلاقيّة كما تدّعي.”

” يا جماعة، كل شيء جائز هذه الأيام والناس فقدوا الحياء.” قال آخر

” انني لا أكذب! لقد رأيتهما بعيني؛ إن ما يفعلانه شيئا معيبا يتنافى مع قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا.”

” الله أكبر! وصلت السفاله لهلحد؛ ما ظلش حيا.” قال ثالث

وخلال فترة وجيزة لا تتجاوز الشهر بدأت إشاعة وجود علاقة غراميّة محرّمة بين يوسف ومريم تنتشر، وبدأ سكان الحي يتهامسون، ويعلّقون على علاقة مختلقة لا وجود لها، ويوسف ومريم غافلان لا يعلمان بما يجري حولهما، وينعمان بلقاءاتهما البريئة، ويفكران في الخطبة والزواج والمستقبل السعيد.

لاحظت مريم نظرات بعض أهل الحي الغير مريحة لها وشعرت ان هنالك شيئا سيّئا يخصها يتداوله الناس في الحي، لكنّها لم تكن تتصوّر أن سمعتها قد شوّهت وان الأمر يتعلّق بكرامتها؛ أخبرت يوسف بشكوكها وأخبرها بدوره أنه لاحظ أيضا أن بعض الناس ينظرون اليه بنوع من الازدراء؛ وان معظم اصدقاءه قد ابتعدوا عنه.

كان ليوسف صديقا وفيا اسمه صادق؛ اتصل يوسف به تلفونيا وأخبره انه يريد التحدث معه عن أمر هام، واتفقا على اللقاء في مكان منعزل؛ التقيا في المكان المعين وبادر يوسف صادق بالقول:

” صادق انت أعزّ صديق لي وأثق بك ثقة مطلقة وأودّ أن أفاتحك بأمر مهمّ يشغلني؛ لقد لاحظت مؤخرا أن أصدقائي يبتعدون عني وان بعض الناس يتغامزون عندما يروني؛ إنني لا أعرف ما هو السبب؛ هل عندك معلومات عن أسباب تصرفات هؤلاء نحوي؟”

” يوسف يؤسفني أن أقول لك أن بعض أهل الحي يتكلمون عن علاقة غرامية محرّمة بينك وبين مريم.”

” ماذا تقول؟ علاقة غراميّة محرّمة! هل هؤلاء الناس مجانين؟ ألا يخافون الله؟ أنا أحبّ مريم واحترمها، وأحرص على كرامتها كما أحرص على كرامة شقيقاتي، وأريد أن أتزوجها، ومستعد للتضحية بروحي دفاعا عنها وعن سمعتها؛ إنني لا أصدق أن هناك قاذورات بشريّة تسمح لنفسها بتشويه سمعة أناس أبرياء بهذا النوع من البذائة الذي لا يقبله العقل؛ أنا ومريم ملتزمان دينيا واخلاقيا وعلاقتنا نظيفة وأهدافها نبيلة؛ فلماذا يلوّثونها بأكاذيبهم وافتراءاتهم وإشاعاتهم التي تدلّ على غبائهم وخبثهم وعدم قدرتهم على التفكير المنطقي السليم؟”

” إنني أعرفك أنت ومريم جيدا، واثق بكما، ولا يخامرني الشكّ بنقائكما وسموّ أخلاقكما وان علاقتكما نبيلة وطاهرة، وأعتقد ان هذه الإشاعة مبنيّة على حقد وأكاذيب ولا علاقة لها بالحقيقة؛ لكن عددا من أهل الحي يتداولونها ويشوهونها بتفاصيل مختلقة كاذبة ومسيئة، وأخشى أن تتسع دائرة هذه الشائعة في الحي وتقود إلى ما لا تحمد عقباه.”

” ما العمل إذا يا صادق؟ إنني مشوّش ومنفعل جدا ولا أدري كيف اتعامل مع هذا الظلم والافتراء.”

” أنا لا أعرف ما هو الحلّ مثلك؛ أنت تدرك اننا نعيش في مجتمع متخلّف لا يرحم وتنتشر فيه الشائعات بسرعة البرق؛ الناس هنا بسطاء لا يفهمون لغة المنطق وأهمية البحث عن الحقيقة والدفاع عنها، ويصدقون ما يقال لهم خاصة الأخبار والإشاعات السيّئة دون تفكير؛ إنني أقترح أن تخفّفا من لقاءاتكما حتى تهدأ الأمور وان تتقدّم لخطبتها في أسرع وقت ممكن.”

” أنني أتّفق معك فيما قلت، وسوف أتكلّم مع والدي وأتقدّم لخطبتها رسميّا في أقرب وقت.”

استمرت الشائعة في التفاعل ووصل خبر العلاقة إلى ” مطيع ” شقيق مريم وأخبر والديه بما يجري؛ شعر الجميع بالصدمة والإهانة والغضب الشديد؛ وسألوا مريم عن الأمر وأكّدت لهم أن العلاقة التي تربطها بيوسف علاقة نقيّة طاهرة، وانه سوف يتقدّم لخطبتها، وإنهما يخطّطان للزواج في أقل من عام. لم يقتنع والدها وشقيقها بما قالت، وانهال عليها شقيقها ضربا وتعنيفا وهدّدها بالقتل.

” صرخت المسكينة ” إنكم تظلمونني! لقد قلت لكم الحقيقة. إنني بريئة ولا علاقة لي بكل هذه الأكاذيب، أنا ابنتكم الطيّبة التي ربّيتموها تربية صالحة، وتعلّمت منكم الكرامة والاستقامة، ولا أقبل أبدا أن ألوّث سمعتكم؛ إنّني أفضّل الموت على إهانتكم والإساءة إلى شرفكم وكرامتكم.”

” انت كذابة! صرخ مطيع وتابع قائلا، انت وسختي شرفنا وسمعتنا ووطيتي روسنا إلي مش رايحين نقدر نرفعها قدام الناس بسببك؛ أنا رايح أقتلك يا سافله يا منحطة وأغسل العار إلي إلحقتيه فينا وفي عائلة .. آل شرف الدين .. الي الناس بحترموها وبقدروها.”

كان والدها غاضبا جدّا، ووالدتها تجهش في البكاء، مصدومة لا تصدق ما يجري حولها لأنها كانت على يقين بأن ابنتها الطيّبة مريم بريئة ومظلومة، لكنّها كانت عاجزة عن فعل أي شيء في مجتمع متخلّف يعيش على” القال والقيل ” ويقلّل من شأن النساء ولا يحترم رأيهنّ ويربط كرامته بشرفهنّ وسمعتهنّ!

” يا ناس اسمعوا إشو بتقول البنت! حرام عليكم، أنا مش مصدقة هيك كذب.” قالت الوالدة

” هاي السافله وسخت سمعتنا؛ أنا رايح أشرب من دمها وأغسل العار الي ألحقته في عيلتنا وعيلة شرف الدين كلها.” صرخ مطيع

أحست مريم بالخطر الذي كان يهدّد حياتها، لكنّها لم تعرف ماذا تفعل؛ دخلت الحمّام واتصلت بيوسف:

” الوضع جهنّمي في البيت؛ ضربني أخي بقسوة؛ انهم يتّهمونني بشرفي زورا وبهتانا كما تعلم؛ لقد هدّدني أخي بالقتل وأظن أنه سيفعل ذلك؛ إنني لا أعرف ماذا أفعل، ساعدني!”

” إنني مستعد أن أضحي بكل شيء من أجلك؛ لقد فكّرت في عدّة حلول منها أن نتزوّج دون معرفة أهلنا ونسافر إلى دولة أخرى، أو أن تهربي من البيت ونذهب إلى مركز شرطة ونطلب الحماية، أو تهربي وتحتمي في بيت أحد أقربائك؛ نحن في مأزق ويجب علينا أن نتصرف ونحاول إيجاد حل في أسرع وقت ممكن.”

ذهب والد مريم وشقيقها مطيع إلى عملهما، وذهب شقيقها الآخر وشقيقتاها إلى المدارس في صباح اليوم التالي وبقيت مريم ووالدتها في البيت؛ كانت والدتها موقنة ببراتها ومتعاطفة معها؛ استغلت مريم انشغال والدتها وهربت واستقلت تاكسي أوصلها إلى بيت الحاجّة فاطمة التي تربطها بها صلة قرابة بعيدة. استقبلتها المرأة الطيّبة بالترحاب، وتفهّمت مشكلتها، وأخبرتها أنها واثقة من براءتها، ووعدتها بانها ستقف إلى جانبها وتحميها.

عاد والدها وشقيقها مطيع من عملها، وعندما علما انها هربت من البيت غضبا بشدّة، واتهما الأم بالتواطؤ معها وتهريبها وعنّفاها على ذلك.

” مهما عملتي إنتي يمّه وهيّ ووين ما راحت، أنا رايح أدوّر عليها وألقاها. هاي مرّغت شرفنا في الوحل ووطت روسنا، وأنا لازم أذبحها من الوريد للوريد مثل النعجه وأغسل العار ولا ما بكون زلمه.”

بدا مطيع بالبحث عنها في كلّ مكان، وخلال فترة وجيزة راقب خلالها البيوت التي كان يشكّ بتواجدها فيها ومن ضمنها بيت الحاجّة فاطمة؛ وفي إحدى الأيام وبينما كان مختبئا في زاوية مطلّة على البيت خرجت مريم لشراء حاجة من البقالة المجاورة؛ انتظرها حتى خرجت من محل البقالة وفاجأها وهو يجري نحوها والسكّين بيده؛ هربت وهي تصرخ ” ساعدوني بدّه يقتلني “، لكنه لحق بها وانقض عليها وسدّد لها طعنة قوية واستمرّ بطعنها بجنون في أماكن متفرقة من جسدها حتى سقطت وهي مدرجة بدمها وولى هاربا. تجمهر المارّة حولها وطلب أحدهم الإسعاف، لكنها فارقت الحياة قبل وصولها للمستشفى.

ذهب مطيع إلى أقرب مركز للشرطة وهو يحمل السكين المصبوغة بلون دم شقيقته البريئة وقال لرجال الأمن بفخر واعتزاز قبليّ جاهليّ عربيّ ” قتلت أختي وغسلت العار وردّيت شرف عيلة شرف الدين”؛ القت الشرطة القبض عليه وزجّ به في السجن. لم يكن مطيع خائفا لأنه كان يعلم أن القانون يحميه ويدعم جريمته بإصدار أحكام مخفّضة على مرتكبي هذا النوع من الجرائم، وإنّه سوف يخرج من السجن ويعود الى المجتمع ليس كمجرم سابق، وإنما كمساهم في حماية شرف وكرامة الأمة!

رفض أهل مريم استلام جثتها، وتبرؤا منها ” ليرفعوا رؤوسهم بين الناس!”؛ حوّلت السلطات جثمانها للكشف الطبّي، وتبيّن أنها قتلت عذراء طاهرة نقيّة لم يمسسها أحد؛ دفنت السلطات جثمانها الطاهر بلا مشيّعين، بينما كان أفراد أسرتها وعائلة شرف الدين الكبيرة التي تنتمي إليها يحتفلون بعودة شرف عائلتهم وبالعمل البطولي الذي قام به شقيقها المجرم مطيع.

هرب يوسف من الحي خوفا من انتقام أهل مريم، وتحوّلت قصّته هو ومريم إلى حديث الساعة؛ وفي لقاء عفوي ضمّ مجموعة من أهل الحي في مقهى أبو ” الراغب” الشعبي قال أحدهم معلقا على ما حدث:

” لقد جلبت العار لعائلتها؛ إنها تستحق ما حدث لها، وشقيقها مطيع الذي قتلها .. رجّال .. لأنه غسل العار وأعاد للعائلة شرفها واعتبارها. نحن ناس لنا كرامتنا ولا نقبل بحدوث ذلك في مجتمعنا.”

وقال ثان ” يقولون بأن العلاقة بينها وبين يوسف استمرت شهورا وإنها كانت حامل عندما قتلت؛ الله سبحانه وتعالى حرّم الزنا، ولهذا كان من المفروض أن يقتلوه معها أيضا، لكن النذل اختفي قبل أن ينال جزاءه.”

وتدخل ثالث قائلا ” صدقت يا أبو .. ردّاد.. ؛ هذا الحي نظيف وسمعته ممتازة وما فعله مطيع يعيد الاعتبار لنظافة حيّنا وأصالته، وسيكون عبرة لكل من تسوّل له نفسه بارتكاب أفعال فاحشة محرّمة فيه.”

وقال رابع ” اتقوا الله فيما تقولون وتفعلون؛ كان يوسف مؤدبا خلوقا علاقاته ممتازة مع الجميع، وكانت مريم فتاة طيّبة مثقّفة كنتم تجلّونها وتشهدون لها بالاستقامة واحترام الآخرين؛ فما الذي غيّركم؟ إنني لا أتّفق معكم؛ لا تظلموا الناس؛ إنّني أعتقد بأن يوسف ومريم طاهرين وبريئين وإن علاقتهما كانت نقيّة وصادقة؛ لقد أحبّا بعضهما حبا عذريّا الهدف منه الزواج وتكوين اسرة سعيدة على سنّة الله ورسوله؛ كذلك أثبت الكشف الطبي أن مريم .. كانت عذراء .. وقتلت ظلما نتيجة لإشاعة بدأ ببثها شاب حقير عديم الأخلاق وحاقد على يوسف.”

وتدّخل خامس وقال ” وزيادة على ما ذكره الأخ .. أبو نور الدين .. أقول لكم بصراحة، نحن في هذا الحي شركاء في قتل مريم وظلمها، وفي تدمير حياة يوسف لأنّنا صدّقنا الإشاعة الكاذبة ونشرناها في الحي؛ ألم يقل لنا الله (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)؛ أضف إلى ذلك أنّنا مجتمع متناقض يسمح للشباب بارتكاب المحرّمات والموبقات دون حساب، ويعاقب الفتيات على كلّ عمل يقمن به؛ الحقيقة هي أنّنا ما زلنا نتمسّك بالأفكار والعادات المتخلّفة القبليّة الموروثة التي تعتبر المرأة ناقصة عقلا ودينا وتبيح للرجل وأدها والتحكّم بها وبمستقبلها؛ هذه الأفكار التي يرفضها الدين والعقل والأخلاق الحميدة ما زالت تعشعش في عقولنا في القرن الحادي والعشرين، وتدّل على ضحالة تفكيرنا وجهلنا، وتسبّب للمرأة العربيّة الكثير من المعاناة والمهانة وأحيانا القتل نتيجة لشائعات لا أساس لها من الصحّة.”

أزهقت حياة مريم وحطّمت حياة يوسف، ومهما اختلفت آراء الناس في مجتمعاتنا في فهم معنى الشرف والكرامة الإنسانية وفي الحكم على القاتل والمقتول، والغادر والمغدور، فإن الحقيقة المرّة هي أننا غالبا ما نفكّر بعواطفنا، ونصدق ما يقال لنا بسهولة لأننا لا نفهم معنى التفكير المنطقي الذي يستند إلى حقائق ثابتة.

نحن أمّة مهزومة متخلّفة ضائعة تعيش على أوهامها وبطولاتها الجاهليّة والخرافيّة، وتبدع في تبرير جرائمها وفشلها في التفاعل إيجابيّا مع مستجدات واستحقاقات وقيم هذا العصر. مريم ويوسف وأمثالهما ضحايا جهلنا وتخلّفنا؛ إن الشرف العربي الرفيع الضائع لا تصونه جرائم قتل النساء البريئات التي يسمّونها ” جرائم شرف”، وينفّذها جهلة مجرمون لا علاقة لهم بالأخلاق والكرامة والشرفّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى