دم غزة ليس عبثاً فلسوف يكون له ما بعده في المستقبل القريب

قد يظن المتابع أنّ الأحداث الجارية، على الحدود مع غزة، هي روتين قاتل، يودي بحياة الفلسطيني، دون حدوث حراك أو تحريك على الساحة الإسرائيلية، وإن كان حجم الألم الفلسطيني، كبيراً وظاهراً للعيان، فإن الطرف الآخر، يعاني بما لا يقل عن معاناة الفلسطيني، مع فارق حقيقة أن الفلسطيني، هو صاحب الحق، ومن واجبه الدفاع عن أرضه.

في المشهد المقابل إسرائيلياً، الفلسطيني المنتفض، لا يمثل حالة من التهديد الأمني فقط، بل الأبعد من ذلك، هو التهديد الفكري للمشروع الصهيوني ككل، فقد أطل الفلسطيني الذي لم ينسَ حقه من جديد، مذكرا العالم أجمع بأن حقوقه في يافا وعكا وحيفا، لا تقل أصالة عن حقوقه في غزة والضفة، وأن تنوع السحنات اليهودية، الذي يُميز سكان المناطق المحتلة، لهو خير دليل على غرابة هؤلاء عنها، ولربما رفض هذه الأرض لهم، حرمهم من أن يحملوا صفاتها.

هذا المشهد، الذي قد يكون بنظر بعضنا، مشهداً غير مؤثر، في ظل نفاق الحكومات الفاعلة عالمياً لصالح الاحتلال الإسرائيلي، لكنه بلا شك، فاعل ومؤثر على مستوى الشعوب، ويكفيك للاستدلال على ذلك رفض الكثير من اليهود في بريطانيا التعريف عن أنفسهم على أنهم يهود، إلى جانب أن استمرار تمسك صاحب الحق بحقه، سيبقى العامل الأهم، في حرمان “إسرائيل”، من أحقية الوجود، والشرعية التي لا زالت تبحث عنها، منذ قرابة السبعة عقود.

من الناحية العسكرية، لم تعد غزة، مجرد منتفض يحمل حجارة، على أهمية ذلك، أو روتين من النضال المعهود، بل باتت تمتلك قوّة عسكرية، هي بالتأكيد ليست بفاعليتها كتلك التي يمتلكها الاحتلال، ولكن وقعها أعظم وأشد، فهي مدعومة بحاضنة شعبية، باتت ترى بها أمراً ذا قدسية، وبذلت غزة في سبيل الوصول اليها، دماءً كثيرة زكية، جعلت من ذلك السلاح ممزوجاً بالدم، تفوح منه رائحة المسك، في مقابل جمهور، يُقيم لحكومته الدنيا، اذا ما تعرض للخطر، أو شعر بتهديد أمني، وهنا يكمن سرّ الفارق في الاستعداد للتضحية، بين صاحب الحق المستعد لتقديم نفسه قربان لذلك، وبين من يرى نفسه غريبا عن أرض، يشعر أنّ الفرار منها لحظة الخطر، هو الخيار الأكثر صوابية.

استراتيجيا غزة هي جزء تاريخي من الأراضي المحتلة، فهي تهديد من البيت بالمفهوم الإسرائيلي، الأمر الذي لم يكن بالوارد العسكري الصهيوني في يوم من الأيام أن يحدث، ففي الوقت الذي حصنت تل ابيب نفسها من أي تهديد خارجي، سواءً بوسائل دبلوماسية أو عسكرية، خرج لها من بين عينيها، من يحفر ويُصدّع جُدُر قوّتها، التي ظنت أنّها مانعتها أمام أي تهديد.

على مستوى العقيدة القتالية، فمن نافلة القول أنّ غزة أبانت عوار خصمها في هذه الجزئية، ففي الوقت الذي يحمل فيه الشبل الغزي، روحه بمعنوية عالية، مقدماً إيّاها في سبيل تراب جُبل على حبه، فإنّ الجندي المدجج بالسلاح على الطرف الآخر، يرفض الخدمة البرية، ويرفض سلاح المدرعات، وتوعز قيادته العسكرية للمستوى السياسي أن لا حاجة لنا بحرب شاملة على غزة، ولو علموا في قدرتهم، سحق غزة، وولوجها برياً لما توانوا للحظة.

الجانب الفكري في العقيدة القتالية، والتي تميل لصالح غزة بوضوح، لا تكمن خطورته في تلك البقعة، بل باتت غزة، منارة فكرية، وباعث عقائدي مهم، يكشف لدى الكثيرين، نبتة التضحية في سبيل الوطن، وما كلمات محمد طارق، الشبل الذي روت دماؤه جزءاً من أرض فلسطين المحتلة، إلّا تأكيداً على أنّ دماء غزة، فكراً يتقد، في محيط أوسع، ومن نافلة القول أيضاُ أنّ غزة، التي ترى فيها الحكومات خطراً، كونها شرفا في زمن الدناسة، تحظى بقدسية أيضاً في قلوب الأحرار عربيا وعالمياً.

ختاماً، ما يُمكن قوله، أنّ غزة المنبعثة من تحت الركام، باتت تخطو إلى الأمام في الوقت الذي تتراجع فيه قوّة الدولة العبرية الأقوى في المنطقة وفق تصنيفها، ولربما ما ترنو اليه غزة، على المستوى التكتيكي من رفع للحصار، ووقف لهدير الدم النازف، ستحقق أبعد منه قريباً في ظل تعنت الاحتلال واستعلائه، فغزة التي باتت تُعري زيف قوّة الاحتلال، تُرى على أنّها باتت أقرب من أي وقت مضى، لقطف ثمرة الصبر، رغم محاولات فرملة ذلك.

* مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي والفلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى