عانى الوطن العربي منذ استقلال أقطاره من أنظمة الرجل الواحد الدكتاتوريّة الاستبداديّة التسلطيّة الفاشلة التي أذلت الأمة، وربطت مصيرها بدول استعمارية لها اطماعها المعروفة في وطننا، وصادرت الحريات العامة، وتحكّمت بوسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمقروءة، فكانت النتيجة التي نراها الآن جهل وتمزّق ونفاق، وحروب وحمامات دم ودمار، وتدخّلات أجنبيّة، واحتلال اسرائيلي، وتعطيل دور الإرادة والمشاركة الشعبيّة في توجيه حياة الأمة ومستقبلها.
من المفترض أن تمثّل وسائل الإعلام المجتمع تمثيلا حقيقيّا، وأن تكون مرآة تعكس صورته ومكوّناته، وقيمه ومشاكله وحوافز ومعوّقات تقدّمه، وأن تتفهّم هموم المواطن وطموحه وآلامه وآماله وتوصلها للمسؤولين في الدولة لإيجاد حلول لها. ولهذا فإن وسائل الإعلام بصورة عامّة تلعب دورا محوريا في تثقيف أو تجهيل المواطن، وفي تقدّم وتخلّف الوطن، وتختلف في مصداقيتها وشفافيتها.
في الدول الديموقراطية، تتمتّع وسائل الاعلام بالحرية والحماية القانونيّة، وتمثل تيّارات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة ودينيّة وفلسفيّة ومؤسّسات مجتمع مدني مختلفة ومتناقضة، وتقودها وتشرف على نشاطاتها شخصيّات تختلف في فلسفاتها السياسيّة وانتماءاتها الفكريّة، وتتنافس فيما بينها بحريّة وبأساليب حضاريّة سلميّة لخدمة المصالح العامّة أو الخاصّة، وتراقب بنزاهة تصرفات وأداء رأس الدولة والوزراء وكبار الموظفين؛ وتقوم بدور محوري في مراقبة التطوّرات وإطلاع المواطنين على المستجدات السياسية والاقتصادية والأمنية والمعرفية في بلدانهم وبلدان العالم الأخرى، وتدافع عن الحرية والعدالة وحقوق المواطنين، وتساهم في نشر القيم والأخلاق، وتحارب الفساد والاستبداد، وتعزّز الثقافة الديموقراطية الجمعية في المجتمع.
أما في دول حكم الفرد المطلق السلطة والتسلّط، ومن ضمنها معظم الدول العربية، فإن وسائل الإعلام الرسميّة ليست نقديّة أو تحليليّة توضّح الشيء ونقيضه، ولا تذكر إلا ما يوافق عليه النظام؛ إنها أحاديّة الاتجاه تأتمر بأمر الحاكم المطلق، وتركّز جلّ اهتمامها على دعم نظامه، وتلميع صورته، وتملأ الدنيا نفاقا وكذبا عن حكمته ونزاهته وإنجازاته وانتصاراته الوهميّة؛ أي إنها في الحقيقة مؤسّسات .. إعلان .. تخلقها الدولة، وتزوّدها بالمال والرجال لتساعدها في التحكم بعقول الناس عن طريق التضليل وتشويه الحقائق.
لقد ظهرت في الساحة الإعلاميّة العربيّة خلال الثلاثين عاما الماضية مئات قنوات التلفزة ومحطات الإذاعة والصحف والمجلات الخاصّة في الداخل وفي دول المهجر؛ لقد قام بعضها، وخاصة الصحف والمجلات التي تصدر في دول المهجر بدور تشكر عليه في دفاعها عن قضايانا، وفي تشخيص الواقع، وقول الحقيقة، وكشف المستور ومحاولة إنهاض الأمّة، لكن للأسف فإن قسما كبيرا من وسائل الإعلام الخاصة مرتبطة بدول عربية، أو بمنظّمات وأحزاب سياسيّة أو دينيّة لها أجندة مشبوهة، أو بدول أجنبية معينة هدفها إضعاف أمتنا وزيادة خلافاتها للتحكم بها والهيمنة على ثرواتها.
من يراقب وسائل الإعلام العربية الرسميّة التي تملكها وتتحكّم بها الدولة، ومعظم وسائل الإعلام الخاصة التي تصدر في الداخل والخارج، والإعلاميين الذين يسيطرون عليها، يدرك عمق المأساة التي يعاني منها وطننا؛ الحاكم العربي أحاط نفسه بجيش جرّار من الصحفيين والمثقفين ورجال السياسة والدين الفاسدين والمفسدين والمرتشين الذين يظهرون على شاشات التلفزة، ويكتبون وينافقون في محطات الإذاعة والصحف والمجلات، ويلقون الخطب الرنانة الداعمة له ولنظامه؛ لقد باعوا ضمائرهم، وخانوا شعوبهم، وأمعنوا في الكذب على الناس، وتباروا في الانبطاح وكيل المديح لحكام فاشلين متآمرين تنازلوا عن فلسطين والقدس، وأغرقوا وطننا بالدماء، وأفقروه وأذلوه ومزّقوه. إنهم ليسوا رجال إعلام ودين وفكر في أمة تبحث عن مثقفين وقادة شرفاء لإنفاذها من واقعها الأليم، بل إنهم شركاء في الجرائم التي يرتكبها الحكّام العرب ضدّ شعوبهم وأمتهم.