الأب الإيطالي يوسف دوسيتي نموذج للكاهن المؤمن والسياسي المقاوم

أصدر مؤخرا البطريرك ميشيل صباح والأب رائد أبو ساحلية الترجمة العربية التي أنجزاها لكتاب بعنوان ” رجل مقاومة وسياسة وناسك الأب يوسف دوسيتي”.* وينقل لنا الكتاب سيرة الأب الإيطالي دوسيتي في خمسة فصول وفي 236 صفحة من القطع الوسط. وجاء في مقدمة الترجمة العربية، التي كتبها البطريرك ميشيل صباح، اختصار لهذا الانسان في ثلاثة أسطر ” هذه سيرة رجل، إنسان مستقيم استطاع أن يوحد حياته أمام الله وأمام الناس، وقد شملت مجالات مختلفة متناقضة ومتكاملة في الوقت نفسه. فهو رجل مقاومة ورجل سياسة وباني دولة ورجل دين وناسك”.

بقدر ما تلخص لنا هذه الكلمات القليلة سيرة رجل غير معروف بالنسبة لنا نحن في المشرق، بقدر ما تصدمنا وتضعنا أمام تحد كنا نظن أنه بسيط بالنسبة لنا في الفصل بين الدين والسياسة، وإذ بنا نقف في مواجهة أحجية وهي كيف يجتمع الكاهن، بالمقاوم، بالسياسي، بالناسك في رجل واحد؟ صحيح أننا عرفنا سابقا المطران مكاريوس، الذي كان رئيس وكبير أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية القبرصية وأول رئيس لدولة قبرص المستقلة بين السنوات 1955 و1977.   وعرفنا المطران كبوتشي، أسقف مطرانية الروم الكاثوليك في القدس من 1965-1974، والذي جمع بين الكهنوت ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وهناك عدد من رجال الدين الذين جمعوا بين صفتين مثلا، لكن أن تجتمع كل تلك الصفات في رجل واحد وأن يعيش ” كل ذلك معا في شخصية واحدة منسجمة” (ص 5)، أمر لا يمكن استيعابه من اللحظة الأولى.

من هو الأب دوسيتي؟!

ولد الكاهن دوسيتي في جينوفا بايطاليا عام 1913، ومنذ شبابه تحول الى معارض للفاشية. بعد انهاء تعليمه أخذ يدرّس القانون في جامعة ميلانو، وفي تلك المرحلة اكتشف نضوج رغبته في تكريس ذاته لله. انضم الى جماعات المقاومة وصار من المسؤولين فيها، وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى انخرط في العمل السياسي، من خلال الحزب الديمقراطي المسيحي وسرعان ما أصبح نائب السكرتير في الحزب وعضوا في الإدارة. وساهم الأب دوسيتي في وضع مسودة دستور الجمهورية من خلال عضويته في الجمعية التأسيسية. في العام 1951 قرر الاستقالة من الحزب والتركيز على العمل الكهنوتي، لكن بعد فترة وجيزة تمت اعادته للعمل السياسي، بطلب من كاردينال بولونيا الذي طلب منه الترشح لرئاسة البلدية، ورغم خسارته في انتخابات الرئاسة إلا أنه أصبح عضو بلدية استقال منها بعد عامين. جاء الأب دوسيتي الى منطقتنا واستقر في الأردن وفلسطين بين العامين 1972 – 1988، مع مجموعة رهبان ” عائلة البشارة الصغيرة”. توفي في أواخر عام 1996 في إيطاليا.

مناصرته للقضايا العربية والفلسطينية بالذات

دخل دوسيتي عضوية بلدية بولونيا عام 1956، ذاك العام الذي شهد العدوان الثلاثي على مصر بعد اعلان الزعيم جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، وألقى الأب دوسيتي خطابا في المجلس البلدي، أدان فيه العدوان واعتبره ” تدخل مسلح في مصر” ( ص 69) كما انتقد التدخل السوفييتي في هنغاريا في ذلك الوقت، ورأى أن الشيوعية وصلت الى مرحلة تنقض فيها نفسها.

بدأ اتصال دوسيتي بالشرق عام 1964 حيث شارك برحلة الى بلدان الشرق ومنها الهند والأردن ولبنان وسوريا والأراضي المقدسة وعاد في عام 1969 ليقيم مع مجموعة من الرهبان في المنطقة، وعاش فترة في أريحا، وأظهر تعاطفا مع الشعب الفلسطيني وفي عام 1982 أرسل رسالة لرئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك مناحيم بيغن، يستنكر فيها مجزرة صبرا وشاتيلا التي قامت بها قوات الكتائب بدعم من إسرائيل.

وفي عام 1990 كتب مقالا ينتقد فيه الحرب الأمريكية على العراق منبها للأكاذيب الغربية لتبرير الهجوم على العراق، ومحذرا مما سيقوم به الإسلام الراديكالي الذي يبحث عن سبب ومبرر لاستغلال الدين، وهو ما تحقق في الآونة الأخيرة. كتب دوسيتي في مقاله ” حتى لو أزيل صدام، سوف يجد الغرب نفسه في مواجهة مع إسلام راديكالي مكافحته أصعب من مكافحة صدام. ومن الناحية الأيديولوجية لن يمكن استئصاله، سواء في البلدان الاسلامية أو في اوروبا نفسها” (ص 143). وهذا ما شاهدناه في المخطط الجهمني الذي نفذ على أراضي سوريا في السنوات الأخيرة. واكتشف الأب دوسيتي حقيقة السياسة الأمريكية وقال فيها عام 1970 ” إن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ستقضي على نفسها بنفسها في المستقبل”.( ص 80).

الأب دوسيتي شخصية نموذجية

نحن أمام انسان مارس الكهنوت وشارك في مجامع دينية ونقاشات ومحاضرات (لم أتوسع في هذا الجانب لضيق المجال). ومارس الحياة السياسية الحزبية والبلدية والعامة، وكان ناشطا سياسيا في مقاومة الفاشية في بلاده والسياسة الأمريكية الاستعمارية في بلدان الشرق الأوسط ووقف الى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم. ان شخصية الأب دوسيتي تعتبر نموذجية ويمكن الاستفادة من سيرته وخبرته، واذا نظرنا اليوم نجد لدينا نموذج الأب مناويل مسلم الذي خدم في كنيسة غزة وعاش آلام الشعب الفلسطيني هناك من حصار وجوع وضيق واضطهاد، ومازال يواصل رفع صوته ضد الظلم والعدوان على شعبه. واذا التفتنا الى جنسية دوسيتي نرى أن المطران بولس مار كوتسو، الإيطالي المولد أيضا، ورغم ابتعاده عن السياسة المباشرة، الا أنه عاش في فلسطين وما زال، ويعتبر نفسه فلسطينيا، بل ان من يسمعه يرى فيه عربيا أكثر من العرب أنفسهم وفلسطينيا مثل الفلسطينيين أعينهم.

وقد أكد البطريرك صباح على هذا النموذج حين قال في ختام مقدمته للكتاب ” لذلك نرى بأنه نموذج رائع لا بل مثال يحتذى، وكم نحن بحاجة لأمثاله في عالمنا وبلادنا وكنيستنا” ( ص 8).

ان هذا الكتاب يشكل دعوة لأن يأخذ المسيحيون العرب في بلادنا دورهم السياسي والاجتماعي الفاعل والمميز، كما لعب ذلك آباءهم في أيام الحكم العسكري ويوم الأرض وغيرها من الأيام المجيدة، واذا كان يتعذر على الكهنة ورجال الدين لعب دور سياسي، فانه ليس من عذر أمام العلمانيين لعدم أخذ دورهم في الحياة السياسية والعامة، خاصة وأن الكنيسة تشجعهم على التداخل والانصهار في مجتمعاتهم.

* ( شفاعمرو/ الجليل)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى