حكم التفاهة ..الميد يو قراطية

 

منذ أواسط القرن الماضى , وخاصة بعد أن حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها ,صارت الأجادة فى كل شىء هى المعيار والمقياس وتفضيل الأشياء على بعضها , والأشخاص كذلك , وتطورت حركة المجتمعات تطوراُ خطيرا وصار البحث العلمى يدرك كل الظواهر , فصارت الفضائيات وثورة الأتصالات وبدى النت هو المحرك كل النواحى الآن , وماكان ذلك ليحدث لولا أن هناك حكومات جاده وشخصيات على قمة أجهزة اتخاذ القرار( وجدت من زمن ) فى دول العالم من الموضوعية بمكان , حتى فى بلاد العالم الفقير الذى كان يئن تحت براثن الأستعمار , غدت الثورات ورياح التغير تأتى برجال أشاوس جادين صارمين لأجل حكم موضوعى لايرى فى مواقع العمل والفعل اِلا شخصيات تدرك بجديتها اتخاذ القرار الصائب من اجل الصعود – وحتى لو كان هناك من يرى فى الحكومات أنها فى سبيل الديكاتورية وتثبيت حكمها , كانت تروض المروضين وتأتى بمن هم يروجون للحكام, اِلا أنهم فى جميع الأحوال كانت لهم مقومات تبرهن على قدرتهم على الأقناع والتشخيص ولاتتدنى الى تافة ما يحدث الآن من أصنام يضعها الحكام لاتفقه للعقل عنوان وانما هى على التفاهة بمكان .

فظواهر الأمور وبواطنها أيضا تدلل كلها على أن الوضع الحالى والآنى فى كل مناحى الحياة السياسيةوالأجتماعية والأقتصادية والفكريه تحركها شخصيات جُبِلت على التفاهة فصارت هذه الصفة قرين القيادة وبدت سيطرة التافهين على مقاليد الحكم فى كثير من المجتمعات, واِن بدت أشد وضوحا فى رئيس الولايات المتحدة الأمريكيه ” ترامب”.

وفى عالمنا العربى صارت سيطرة التافهين سمة العصر الحاضر فتجلى حكم التفاهة .

فَحين يستعين النظام براقصة من نوع ( الغوازى)لتبرير سياسته فى رفع الأسعار , ومن دواعى المسخرة أن الغازية تحصلت على الأم المثالية وهى والأمومة لايتقابلان وعلى التضاد يسيران – أذن فنحن فى نظام يتخذ من التفاهة عنوان .

وحين يستدعى النظام , من أطلق عليه الشعب ” العكش” وينتشله من تحقيقات بالتزوير والتعامل مع سفير العدو الصهيونى , لينجيه من أحكام بالسجن بفعل من بيده القرار – ليقود حملة لصالح مافيا الرأسمالية , والهجوم على الزعيم جمال عبد الناصر نصير الفقراء , وقد ثبت بلا جدال ان العكش هذا وقد أدعى الحصول على الدكتوراه بالتزوير , ليخاطب الجماهير من خلال قنوات تليفزيونية ويكون ذلك بأمر وتقدير جهات رسمية فى الدولة , فنحن أمام نظام من التفاهة بعنوان .

– وحين يتخذ من أثير الفضائيات منابر لبث سخاف الأقوال , وتهديد أعراض الأسر وفضح المستور , والسب بأقذع العبارات من جانب رئيس احد أكبر الأندية فى مصر , ويتم التغاضى عن تلك الجرائم فى حق الرأى العام , فذلك تأكيد على سيطرة التافهين والمندسين لتشويه أفكار الشعب السوية وتحويلها الى تفاهة وتسلية .

وحين يتضارب مذيع البرامج الرياضية مع آخر ويقذفه بالأكواب وبأقذع العبارات ليضع شابورة فتغيم الصورة , ورغم أن ما آتى به يشكل جريمة يعاقب عليها القانون بالحبس , فقد كافأه تليفزيون الدولة الرسمى وصعد به الى مقدم برامج رياضية لتدنى الرياضة , كمعيار لأخلاق الأمم الى معيار لأنحدار أخلاق وقيم البلد – وهذا يُعد دليل على أن مافيا التافهين يعظمون كل تفاهة وأنحدار ويأتوا بصاحبها الى صندوق الفضائيات لعلها تطير عقول الراشدين فتنحدر الى التفاهة والجنون وتغرس فى الوحل وتصارع الظنون .

وعلى مستوى الحكومة … فهنا الوزارة وكيف تمتثل للعبارة .. والعبارة صريحة ” يمتنع العلماء وأصحاب الفكر وكل من يدرك التقدم والأنتصار للشعب ” – ومن يمتثل لمافيا رجال الأعمال وشروط الصندوق والبنك الدوليين ,هو أثير المنصب الوزارى – وحين يتدنى الوزراء وأصحاب المناصب العليا الى الفساد , فالرد جاهز ومن أين سنأتى بأصحاب الكفآت والمحترمون أنهم يمتنعون وبالتالى فليس أمامنا بديل اِلا الموجود من التافهين وصناع الفساد .

وعلى ذلك تشكلت حكومات الأوطان ,ممن يُسيرون الأمور لمافيا رجال الأعمال عملاء الصهيونية العالمية والأستعمار- قِس على ذلك كل المناصب السيادية – وحتى فى المواقع التى تشكل وجدان الشعب سارت المافيا تدفع بالتافهين من الكُتاب وأدعياء الفن والأخراج والموسيقى والغناء , وبدى التمثيل تمثيل على الشعوب , فسادت الفوضى فى كل النقابات , وبدت النقابات الفنية والفكرية ناهيك عن المهنية , تتولى أمرها شخوص من التوافه التى أتت على الوجدان فصار عديم الوجود وعلى الأنسان فأنتهكت الأنسانية , وتصارعت الأشخاص كمصارعة الثيران بديلا عن الصراع الفكرى الذى يثرى الحياة والوجدان , فصارت التفاهة أبداع .

وقد وصل الأمر الى حد أن شرعنت التفاهة , لذا صُنِعت برلمانات التفاهة التى تكونت من شخصيات تافهة ,أتت عن طريق المال السياسى , ومول حملاتها الأنتخابية مافيا رجال الأعمال ممن مصوا دماء الأبرياء – فغدت كل القوانين الصادره عنها تبرر غسيل الأموال وجرائم الأعتداء على مال الشعب وتجرم الأبداع وحب الوطن وأعتبار أسرائيل عدو وجودى , وغدت التشريعات الصادرة عنها تبيح المحظورات وتغذى التفاهة , فصار القانون بمعناه الحقيقى أنه” مجموع القواعد التى تقيم نظام المجتمع ,فتحكم سلوك الأفراد وعلاقاتهم منه” فى أجازة – وغدى القضاء الى تطبيق تشريعات تبتعد بسلطة القضاء الى غير ذلك مما يجدر بالقضاء تطبيقه .. فسيطر التافهين وبدى حكم التفاهة .

وبحثاً عن الأسباب التي جعلت التافهين يمسكون بمواقع القرار في العالم، سياسياً، واقتصادياً، وفى كل المناحى … كلمات رائعة قيلت في كتاب الفيلسوف الكندي (ألان دونو )عنوانه: «Mediocratie»، أو نظام التفاهة وعنه، تستحق أن يقال أكثر منها عن شرقنا و وعالمنا العربى .

يقول ألان دونو :السياسية نصيحة فجّة لأناس هذا العصر: «لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً. فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة. فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة وكن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب. لقد تغير الزمن. فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة»!

وحين يسأل عن أسباب هذا التحول، يعيد ذلك إلى عاملين اثنين، في السوسيولوجيا والاقتصاد، كما في السياسة والشأن العام الدولي

السبب الأول يعزوه دونو إلى تطور مفهوم العمل في المجتمعات. يقول إن «المهنة» صارت «وظيفة». صار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير. يمكن أن تعمل عشر ساعات يومياً على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك. يمكن أن تنتج غذاء لا تقدر على شرائه. أو تبيع كتباً ومجلات وأنت لا تقرأ منها سطراً. انحدر مفهوم العمل إلى «المتوسط». وصار أشخاصه «متوسطين»، بالمعنى السلبي للكلمة. صار العمل مجرد أنماط. شيء ما من رؤيوية شابلن في «الأزمنة الحديثة» أو فريتز لانغ في رائعة «متروبوليس».

السبب الثاني مرتبط وفق دونو بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام. هنا بدأت سيطرة التافهين يقول، أو ولدت جذور حكم التفاهة مع عهد مارغريت تاتشر. يقول انه يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم. استبدلوا السياسة بمفهوم «الحوكمة»، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بمقولة «الشريك». في النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا. وصارت الدولة مجرد شركة خاصة. صارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد. وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة «زمرته».

من هذين المنطلقين، تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم. وصارت قاعدة النجاح فيها أن «تلعب اللعبة». حتى المفردة معبرة جداً وذات دلالة. لم يعد الأمر شأناً إنسانياً ولا مسألة بشرية. هي مجرد «لعبة». حتى أن العبارة نفسها راجت في كل لغات عالم التفاهة: «أن تلعب اللعبة». وهي قاعدة غير مكتوبة ولا نص لها. لكن يعرفها الجميع: انتماء أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والغداءات والانتقامات. بعدها يصير الجسم فاسداً بشكل بنيوي قاطع. حتى أنه ينسى علة وجوده ومبادئ تأسيسه ولماذا كان أصلاً ولأية أهداف… أفضل تجسيد لنظام التفاهة، يقول دونو، صورة «الخبير». هو ممثل «السلطة»، المستعد لبيع عقله لها. في مقابل «المثقف»، الذي يحمل الالتزام تجاه قيم ومثل. جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء، لا للمثقفين! حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة ان «على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات». لا مكان للعقل النقدي ولا لحسه. أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة، من أن وظيفته هي أن يبيع للمعلن، الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين. صار كل شيء، والأهم أن الإنسان صار لاكتفاء، أو حتى لإرضاء حاجات «السوق».

هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام حكم التافهين. نظام يضع ثمانين في المئة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم. ويسمح لخمسين في المئة من خيرات كوكبنا بأن تكون حكراً على واحد في المئة من أثريائه. كل ذلك وفق نهج نزع السياسة عن الشأن العام وعن التزام الإنسان.

كيف يمكن مواجهة حكم التافهين هذا؟ يجيب دونو: ما من وصفة سحرية. الحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين. جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية. بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها. إنه خطر «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة. المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق. ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا. بل المفاهيم الكبرى. أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام… وأن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل. فلا فصل بينهما.

الأساس أن نقاوم!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى