وضع “الأرشيف” الوطني الفلسطيني

أعلن إيهاب بسيسو، وزير الثقافة الفلسطيني، عن قرار تأسيس المكتبة الوطنية الفلسطينية بتاريخ 28/8/2017، مشيرًا إلى أن هذه الخطوة هي الأولى لجعلها واقعًا، ورمزًا من رموز السيادة الوطنية على أرض فلسطين، وموضحًا أن قرار الرئيس محمود عباس بتحويل قصر الضيافة إلى مكتبة وطنية شكل انحيازًا للثقافة، معتبرًا المكتبة الوطنية رسالة الشعب الفلسطيني الذي يعتز بثقافته على مر العصور، ويعتبرها جزءًا لا يتجزأ من المقاومة.

منذ أكثر من 70 عامًا وفلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، ضمن مشروع السيطرة الاستعمارية الصهيونية الإسرائيلية، الذي يرتكز على تهجير السكان الأصليين واحتلال الأرض وتدمير المدن وسلب الممتلكات، بما فيها الإرث الحضاري والثقافي لهذا الشعب، في محاولة لطمس هويته وتدمير روايته التاريخية، لذلك تحاول هذه الورقة الإجابة عن سؤال يدور حول وضع الأرشيف الوطني الفلسطيني في ضوء قرار إنشاء المكتبة الوطنية؟ ومن المسؤول عن جمع هذه الأراشيف؟

تعرض الأرشيف الوطني الفلسطيني للكثير من الضياع والسرقة والانتقال من مكان إلى آخر مع الثورة الفلسطينية في الشتات، حتى العودة إلى الأرض المحتلة بعد توقيع اتفاقية أوسلو بتاريخ 13/9/1993، وبالرغم من محاولات المشاريع المختلفة للتوثيق والكتابة التاريخية، وجمع الملفات والمستندات، إلا أنها ما زالت لا ترتقي إلى مستوى أرشيف وطني جامع لكل الإرث التاريخي والثقافي الفلسطيني. فمن الصعب كتابة تاريخ وبناء سردية للسيرة الفلسطينية في ظل غياب المصادر الأولية لها.

  1948: نكبة فلسطين الثقافية

 كان لأحداث حرب 1948 وما أدت إليه من سيطرة صهيونية على المدن والقرى الفلسطينية وقتل وتهجير سكانها، أثر مباشر في الحد من إمكانات الفلسطينيين وقدرتهم على كتابة تاريخهم، إذ أفرغ الاحتلال المدن الفلسطينية من سكانها، ودمر ونهب معظم الإرث الثقافي والسجلات المكتوبة للشعب الفلسطيني، فالسيطرة الإسرائيلية لم تقتصر فقط على الأرض، بل على الإرث الثقافي المكتوب، حيث كانت المدن هي الحاضنة الثقافية للمجتمع الفلسطيني وهويته.

صودرت أغلب الدراسات الفلسطينية والثقافية والقانونية المكتوبة للشعب الفلسطيني، وسجلات الأملاك والأراضي، والمكتبات العامة، والصحافة المطبوعة وأرشيفها، وأوراق أجهزة الحكم المحلي، وسجلات المستشفيات والمصارف والمدارس ومعاهد العلم والمراكز الثقافية، وبيانات وأرشيف معظم الأحزاب السياسية، واللجان القومية، والمكتبات الخاصة والأوراق الشخصية والمذكرات لكبار المثقفين والكتاب والسياسيين.

وقد دُمر أو ضاع أو نُهب كامل الإرث الثقافي المكتوب تقريبًا في المناطق التي أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية، والتي كانت تشمل أهم المراكز الثقافية للمجتمع الفلسطيني، مثل مدينتي يافا وحيفا، وبعض الأحياء الغربية من مدينة القدس.

ركزت الجماعات الصهيونية المقاتلة التي اقتحمت المنازل الفلسطينية في المدن بعد تهجير أهلها، على جمع ما احتوته المكتبات الشخصية للسكان في المدن، فخصصت العصابات جزءًا من وقتها لجمع محتويات هذه المكتبات وإرسالها إلى “المكتبة الوطنية الإسرائيلية”.

بحسب تقرير نشره موقع “الخليج أون لاين” بعد زيارة خاصة للمكتبة الواقعة داخل حرم الجامعة العبرية في منطقة “الشيخ بدر” بالقدس، وبعد البحث في قوائم المكتبة عن بعض الكتب المصنفة بأنها “أملاك مهجورة”، وهو التصنيف الخاص بالكتب المسروقة من مكتبات البيوت الفلسطينية بعد النكبة، تبيّن أن غالبية الكتب المسروقة يُمنع أخذها خارج أبواب المكتبة، ويمكن الاطلاع عليها فقط بإرسال طلب عبر البريد الإلكتروني يحمل اسم الكاتب والكتاب، وتفاصيل عن هوية المرسل.

وقال أحد أمناء المكتبة للموقع الإخباري: “إن المكتبة الإسرائيلية تحوي عددًا يصعب إحصاؤه من الكتب التي تعود ملكيتها للفلسطينيين الذين هُجّروا في العام 1948، لأن القائمين على الفهرسة في ذلك الوقت توفوا جميعًا”. في حين أكدت مصادر أخرى وجود أكثر من 30 ألف كتاب مسروق.

تُخصص مكتبة الجامعة العبرية ثلاثة طوابق تحت الأرض، ومخازن خارجية بأماكن مختلفة في فلسطين، لتخزين أعداد هائلة من الكتب والمخطوطات العربية والإسلامية المسروقة منذ عام 1948، 30% فقط من هذه الكتب متاح في قاعات القراءة، في حين أن 70% مخبأ في المخازن. فعلى سبيل المثال ضاعت الأوراق الخاصة بمصطفى الدباغ الذي فقد مخطوطته الأولى، المكونة من 6000 صفحة، بعد أن سقطت في البحر خلال الارتباك والرعب الذي شهدته يافا في نهاية نيسان العام 1948، حتى سقطت المخطوطة في البحر وضاع معه مجهود السنوات الطويلة.

كما ضاع جزء من أرشيف “الجهاد المقدس”، وهو المؤسسة العسكرية الوحيدة شبه المنظمة للفلسطينيين خلال حرب 1948، مع سقوط القرى والمدن الفلسطينية، في حين تحفّظ الجنود الأردنيون على جزء آخر منه، خلال مداهمة مقر قيادة “الجهاد المقدس” في بلدتي بيرزيت وعين سينيا، ومن غير المعروف مصير هذا الجزء.

الجدير بالذكر أن هناك بعضًا من وثائق “الجهاد المقدس” جمع في أرشيف جمعية الدراسات العربية (بيت الشرق) في القدس بعد العام 1979. وفي العام 2001 استغل شارون وفاة فيصل الحسيني وعمليات المقاومة أثناء انتفاضة الأقصى، لإغلاق بيت الشرق ومصادرة وثائقه التي تبلغ حوالي نصف مليون ورقة، والاستيلاء على مكتبتها المتخصصة في التاريخ الفلسطيني.

إن مصادرة الوثائق والأوراق الفلسطينية عمل لا يقتصر على حالات فردية استثنائية، وإنما هو ممارسة مستمرة من دون انقطاع، وجزء من عملية الاستحواذ على المكان وهويته، حيث إسرائيل بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، وثائق وبيانات ونشرات الحركة الوطنية الفلسطينية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، التي كانت في خزائن وأرشيف الإدارة وأجهزة الاستخبارات الأردنية والمصرية. وحولت هذه الوثائق إلى الأرشيف المركزي لدولة إسرائيل (أرشيف الدولة).

  مركز الأبحاث الفلسطيني: عقل الثورة في لبنان

 فقد الفلسطينيون، خلال الغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982، جزءًا كبيرًا مما جمعوه من إرثهم المكتوب، أو مما كتب عن قضيتهم. فهناك مكتبات شخصية مهمة دمرت، كمكتبة المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، كما أحرق كثير من الأفراد والفصائل السياسية والمؤسسات الاجتماعية الفلسطينية أوراقهم تحسبًا لدخول القوات الإسرائيلية بيروت وغيرها من مدن لبنان ومخيماته، غير أن أكبر خسائر تلك المرحلة وقعت بعد اجتياح مدينة بيروت بعد خروج المقاومة الفلسطينية منها، إذ صودرت محتويات مركز الأبحاث ونقلت إلى إسرائيل.

تأسس مركز الأبحاث في بيروت، بتاريخ 28/2/1965، بقرار من اللجنة التنفيذية الأولى لمنظمة التحرير، بهدف تغطية الصراع العربي الصهيوني بدراسات علمية ومعلومات صحيحة، والعمل على جمع الوثائق المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

برز مركز الأبحاث كمؤسسة فكرية ثقافية لعبت دورًا واسعًا في ميدان البحث العلمي الخاص بالشؤون الفلسطينية والإسرائيلية بأبعادها العربية والدولية، حيث لاحقت إسرائيل نشطاء هذا المركز لفترة طويلة، وقامت بمحاولات اغتيال عدة لشخصيات مهمة، مثل أنيس الصايغ، مدير المركز في حينها، وهذا ما يؤكد أهمية المركز وتأثيره ومدى تخوف الإسرائيليين منه.

أسفرت عمليات النهب عن استيلاء إسرائيل على كامل مقتنيات مكتبة مركز الأبحاث، بما فيها مئات الكتب النادرة والمراجع والمخطوطات الثمينة، وكذلك مقتنيات الأرشيف من ملفات وأشرطة ميكروفيلم، إلى جانب مصادرة آلات تصوير وأجهزة تسجيل وأشرطة مسجلة كتاريخ شفوي، كالتسجيلات الصوتية مع ضباط فلسطينيين شاركوا في أحداث أيلول 1970 في الأردن، وتسجيلات صوتية مع أعلام الثقافة الوطنية الفلسطينية.

جرت مفاوضات بين منظمة التحرير وإسرائيل في فترة لاحقة، لتبادل أسرى إسرائيليين بأسرى فلسطينيين وموجودات مركز الأبحاث المنهوبة، وقد استجابت إسرائيل لمطالب المنظمة الخاصة بعملية تبادل الأسرى وتسليم موجودات المركز عن طريق الصليب الأحمر، إذ جرت عملية التبادل في مدينة الجزائر بتاريخ 23/11/1983، وأعيدت محتويات المركز إلى الجزائر دون أن يتسلمها أحد، دون تفقّد أو حصر، فالسفير الفلسطيني بالجزائر وقع على تسلم صناديق وكميات دون أن يحدد ما الذي تسلمه، خوفًا من محاسبة التاريخ.

مؤخرًا، أعلن مؤتمر مركز الأبحاث في آذار 2018 عن خطة لإعادة هذا الأرشيف إلى فلسطين، بعد أن عُثِر عليه في العام 2017.

الأرشيف ما بعد السلطة و”أوسلو ”

استأنف مركز الأبحاث عمله في قبرص في العام 1985 وحتى العام 1993، وبعدها صدر قرار من رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بتاريخ 22/9/1994 بنقل محتويات المركز من قبرص إلى فلسطين، حيث وصل ميناء “أسدود”، وبقيت هناك أكثر من عشرة أشهر حتى اضطر الشاحن إلى إرسال إشعار للسلطة الوطنية الفلسطينية بأنه سيحرقها في حال عدم تسلمها. وحتى اليوم غير معروف مصيرها.

بعد عودة القيادة السياسية الفلسطينية إلى أرض الوطن وعودة المؤسسات، شهدت الهيكلية الوطنية الفلسطينية إعادة بناء سريعة هدفها الأساسي إقامة الكيان السياسي. في هذه الفترة أُهمل البحث الفلسطيني ومؤسساته، مع الأهمية الفائقة له ولدوره في مأسسة الكيان الفلسطيني.

هناك العديد المؤسسات الثقافية والمكتبات في وقتنا الحالي، التي تحاول المحافظة على الإرث الثقافي وجمع الأراشيف، مثل:

  • مؤسسة الدراسات الفلسطينية: أول هيئة عربية علمية مستقلة خاصة تُعنى حصرًا بالقضية الفلسطينية والصراع العربي – الصهيوني. تأسست في العام 1963، وغايتها التوثيق والبحث في كل ما يخص القضية الفلسطينية. وأصدرت المؤسسة أكثر من 600 كتاب بلغات مختلفة، بالاشتراك مع جامعات دولية، ومراكز أبحاث في فلسطين والبلاد العربية

تضم المؤسسة مكتبة قسطنطين زريق في بيروت، وهي أكبر مكتبة متخصصة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي وبالشؤون اليهودية والصهيونية في الوطن العربي، وتحتوي على أكثر من 79 ألف مجلد ومئات الدوريات والصحف.

كما تضم مركز المعلومات والتوثيق الذي يهدف إلى الحفاظ على التراث الفلسطيني والذاكرة والنتاج الفكري الفلسطيني، ومتابعة التطورات التي لها علاقة بالقضية الفلسطينية، وجمع مختلف المنشورات والمواد الأرشيفية المتعلقة بها، وجعلها في متناول الجميع.

  • مكتبة بلدية نابلس: تأسست في العام 1969، وتضم في قسم الوثائق عددًا كبيرًا من الصحف والنشرات والدوريات العربية والأجنبية، ووثائق تاريخية، وملفات وسجلات دوائر الأوقاف في فترة الانتداب البريطاني في فلسطين، إضافة إلى العديد من الكتب العربية والإنجليزية، فضلًا عن احتوائها على مكاتب خاصة، مثل مكتبة الأسير الفلسطيني.
  • الأرشيف الرقمي في جامعة بيرزيت: أسسه معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية في العام 2011، لتوثيق حياة الفلسطينيين منذ عهد الحكم العثماني. ويحوي العديد من المواد المكتوبة والسمعية والبصرية ،ويعمل على جمع الوثائق والمواد البحثية و تصنيفها، وفهرستها، ونشرها.
  • متحف أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة: تأسس في العام 1997، وعَمِلَ على جمع وثائق الحركة الأسيرة الفلسطينية، من رسائل كراسات ومخطوطات وصور ولوحات، وكل ما له علاقة بالمنتج الثقافي والفكري للأسرى، ويعمل على استرداد هذه المواد من إدارات السجون من الأسرى التي تحتفظ بها في مبنى خاص بالجامعة العبرية.
  • مؤسسة صخر حبش للدراسات والوثائق (دار الكرامة): تضم أرشيف ووثائق صخر حبش ومذكراته التي تسرد وقائع مسيرته داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، والمهام التي شغلها. ويوثق هذا الأرشيف مراحل مهمة من تاريخ الحركة الوطنية.

تاريخ وقضية شعب بلا أرشيف

لدى الفلسطينيين كم هائل من الوثائق والمستندات غير المجمعة، وهي ليست في مكان واحد لتشكل مكتبة وطنية، فهذه الخطوة تحتاج إلى جهود من الجهات الرسمية وغير الرسمية، من الوزارات والمؤسسات الحكومية والبلديات والجامعات والقطاع الخاص، داخليًا وخارجيًا لجمع أرشيف القضية الفلسطينية داخل مكتبة وطنية.

بعد انتقال قيادة منظمة التحرير إلى مناطق الحكم الذاتي بعد اتفاقية أوسلو وحتى اليوم، بقيت مؤسسات البحث الفلسطيني والتوثيق مغيبة تمامًا، ولم تُجر محاولات جادة لإعادة الحياة لمركز الأبحاث الفلسطيني، على الرغم من إعادة إطلاقه مؤخرًا في آذار 2018.

ما زال الأمر مبكرًا للحديث عن مدى قدرة مركز الأبحاث على استعادة أهميته في توثيق القضية الفلسطينية في الظروف الحالية واستعادة الأرشيف الضائع، فهناك فجوة كبيرة في الذاكرة الفلسطينية يجب ملؤها، وخصوصًا في الفترة ما بعد 1948. وعلى الرغم من الاجتهادات الفردية في فلسطين والشتات لتدوين التاريخ الشفوي، والبحث والتوثيق لمحطات مهمة في تاريخ الشعب الفلسطيني، إلا أن هناك نقصًا كبيرًا في المصادر الأولية، إضافة إلى أن هذه المحاولات لم ترتق إلى مستوى أرشيف وطني، أو حتى مرجع، أو وثيقة تاريخية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى