مخافة البطش بهم .. “الاخوان” يعتمدون تكتيك “القيادة من الخلف” في حراك الدوار الرابع

لم تكن احتجاجات الأردن مجرد فوران سياسي واجتماعي ضرب المملكة الهاشمية -هو الأعنف منذ اندلاع ثورات الربيع العربي فقط- ولكنها كانت كمينًا محكمًا للف حبل النهاية حول رقبة جماعة -الإخوان في الأردن؛ فتصدر صفوف الاحتجاجات والتحريض على مزيد من الإصلاحات السياسية، كان لا يعني إلا أنها “مؤامرة إخوانية بامتياز”، حسبما أشارت مئات التحليلات التي تبارات في نشرها الصحف والمواقع الإخبارية العربية، وبشكل خاص دول محور حصار الإخوان وقطر وتركيا.

آخر الأحداث.. أين انتهت؟ 

توجت انتفاضة الأردن بنجاح مبهر ضد محاولات تحميل الشارع فاتورة الحلول السهلة السائدة حاليًّا في المنطقة، عبر إثقال كاهل الشعوب بالضرائب المبالغ فيها، وقرر رئيس الوزراء الأردني عمر الرزاز قبل عدة أيام سحب مشروع القانون المعدل لضريبة الدخل الذي أثار موجة واسعة من الاحتجاجات أسفرت عن إقالة حكومة هاني الملقى.

كان مشروع القانون المثير للجدل سيتضمن زيادة الاقتطاعات من دخل الأفراد، بنسب تتراوح بين 5% وحتى 25%، مما فجر احتجاجات كبرى لم تشهدها المملكة منذ سنوات، وظلت تشتعل مثل كرة اللهب حتى انتهت إلى دفع الحكومة السابقة للاستقالة، ونقدها علنًا من الملك عبد الله الثاني.

من أول لحظات الاحتجاج، بدا ظاهرًا أن الشارع بما فيه من قوى سياسية بأوزانها كافة بالأردن لا يتحرك بشكل تقليدي، بل كان هناك هدف واضح مضمونه رفض أي محاولة للتنمر الحكومي على الشعب، وربما يفسر ذلك اختفاء الأيدلوجيات والشعارات واللافتات الحزبية بما مهد لانتقال الاحتجاجات من عمان العاصمة إلى جميع المحافظات الأردنية.

مع مطلع شمس يوم الأربعاء 30 من ايار الماضي، نفذت النقابات المهنية إضرابًا واسعًا وتفاعلت جميع النقابات مع الدعوات ومن خلفها مختلف شرائح الشعب الأردني، ولم يكن لافتًا في ذلك اليوم الذي كان ثوريًا بامتياز إلا اختفاء جماعة الإخوان المسلمين الأردن عن صدارة المشهد بشكل رسمي، بما أعاد إلى أذهان الكثيرين موقف إخوان مصر من ثورة 25 يناير فور اندلاعها.

وقتها لم تشارك الجماعة، ورفضت التجاوب مع الدعوة لإعلان العصيان الجزئي على نظام مبارك، ولم يكن هناك نقطة بيضاء للإخوان إلا تسرب شبابها دون موافقة الكبار للانضمام لصفوف الشعب الثائر، قبل أن تتضح الرؤية بعد 3 أيام ويشارك الإخوان بشكل تنظيمي فيما سمي بجمعة الغضب، لتبدأ وقتها المشاركة الحقيقية للجماعة.

وتعتبر جماعة الإخوان ـ كما هو حال العالم العربي ـ التيار صاحب الشعبية الأولى، فأفراده الأضخم عددًا في البلاد والأكثر قدرة على تنظيم الفعاليات السياسية في الساحة الأردنية، ورغم ذلك لم تر جماعة الإخوان في هذه الأحداث المشتعلة ضرورة في تصدرها للحراك، بل خرجت ببيان هو الأكثر احترافية منذ عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وقالت على لسان متحدثها الإعلامي معاذ الخوالدة، إن الجماعة ارتأت أن تبتعد عن تصدر الحراك الحاليّ وقيادته، لتقديرها أن مصلحة الحراك في هذه المرحلة تتطلب ذلك.

قرأ قيادات إخوان الأردن الأحداث بحس سياسي وأمني بامتياز، وبعد التصريحات الواضحة من الجماعة التي تزامنت مع تصاعد الأحداث في الشارع، حدث ما كان متوقعًا، إذ حصل الأردن على دعم مادي ضخم من قمة مكة التي نظمتها السعودية بمشاركة الإمارات والكويت، لدعم المملكة الهاشمية بإسعافات اقتصادية عاجلة، بلغت مليارين وخمسمئة مليون دولار أمريكي، قسمت إلى وديعة في البنك المركزي الأردني، وضمانات للبنك الدولي لمصلحة الأردن، ودعم سنوي لميزانية للحكومة مدة خمس سنوات، وتمويل من صناديق التنمية لصالح مشاريع إنمائية.

وهي فاتورة ضخمة لم تكن ستمر حال مشاركة الجماعة، إلا على شرط استئصال جماعة الإخوان من الأردن وإعلانها إرهابية في عمّان كما هو الحال في العواصم العربية الكبرى، بذريعة تأجيج الاحتجاجات والوقوف خلفها لأهداف سياسية، إلا أن القراءة الاستباقية للإخوان حصنتها من هذا الفخ.

ورغم تبرير الجماعة عدم تصدرها الساحة الاحتجاجية، بالحفاظ على التحرك الشعبي الذي بدأ بعفوية في النقابات المهنية مرورًا بمحافظات المملكة، وتأكيدها أن الأفضل للحراك أن يبقى شعبيًا، يمثل جميع الأطياف السياسية الأردنية وتنصهر فيه جميع الهويات لصالح الهوية الوطنية الجامعة من غير أن يتلون بلون سياسي معين، إلا أنها تحلت بوضوح نادر وصارحت الشعب ردًا على اتهامها بالجبن والانتهازية السياسية، أنها كانت متصدرة بشكل كبير في الحراكات السابقة، وكانت تقود الشارع إبان الربيع العربي ولكنها دفعت أثمان مواقفها تلك، وهي معروفة للقاصي والداني.

صراعات داخلية أم نضج وفهم للواقع؟

تضاربت التحليلات بشأن أسباب غياب الجماعة عن تصدر الحراك الحاليّ وقيادته، وانتقل الأمر بدوره من وسائل الإعلام الليبرالية إلى ما يوصف بالإعلام الإسلامي الموالي بالأساس لتيارات الإسلام السياسي، كان هناك شبه اتفاق على أن عودة الإخوان إلى الصفوف الخلفية لا يعبر في الغالب إلا عن ضعف الجماعة بسبب انقساماتها الداخلية واستهدافها وخسارتها كثير من مواقعها وحضورها الفاعل.

عزز هذه التحليلات ظهور عبد الحميد الذنيبات المراقب العام لإخوان الأردن، قبل أسبوعين من الآن تزامنًا مع بداية الاحتجاجات، ولم يقدم الرجل إلا نقدًا محمودًا للحكومة بشأن أدائها الاقتصادي فقط، دون أن يتحدث عن إصلاحات سياسية، مع أن الكثير من القوى السياسية طالبت بالإصلاح السياسي قبل الاقتصادي، ولكن الذنيبيات كان يرى الأحداث من منظور الجماعة العام وليس الحالة الأردنية وحدها، ولم يغب عنه ما تعرض له الإخوان في مصر وسوريا ولييبا وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، بما يعني أن كل إشارة قد يفهم منها الضغط لعمل إصلاح سياسي ستلقى بإخوان الأردن إلى الجانب الآخر من النهر.

وعلى خلاف ما تراه القوى الإسلامية التي خرجت على منابر إعلام الإخوان للحديث عن التبرع المجاني من الجماعة لغيرها، وانتقادها عدم استثمار فرصة الاحتجاجات في إعادة التيار الإسلامي إلى مكانه الصحيح، إلا أن التراجع المحمود للمعارضة الإسلامية وفي القلب منها الإخوان لصالح قوى سياسية وعشائرية أخرى، كان مهنيًا إلى حد بعيد، خصوصًا أنه تعامل مع الأحداث وفق مستجداتها، ولم يكن الخطاب الإخواني تحديدًا أبعد من مجرد تفاعل سياسي، وتلخص في الهجوم على الحكومة دون غيرها، وتحميلها نتيجة ما آلت إليه الأوضاع، وطالب كما غيرهم بتشكيل حكومة إنقاذ وطني وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة.

لم يتأثر إخوان الأردن بالأصوات الناقمة على أدائهم، حتى من داخل معسكر الإسلاميين، ولم تحركهم الاتهامات بالجبن وركوب الموجة من التيار الليبرالي، لمجرد إصدارهم بعض البيانات المؤيدة للحراك، دون أن يكون لهم وجود فعلي في الميادين والساحات إلا بشكل؛ فطبيعة الظروف التي تمر بها حركة الإخوان في العالم، بجانب تأثيم الإسلام السياسي بأكمله في المنطقة انطلاقًا من مصر والسعودية والإمارات، ترفض وحدها الاستجابه لمراهقي الإسلاميين بالدخول في صراع مع النظام الأردني لصالح اللاشيء.

من الأفضل للإخوان.. الملك أم اللاشيء؟

يرتبط الإخوان في الأردن تاريخيًا بعلاقات جيدة مع النظام السياسي الأردني الذي يتعامل مع المعارضة بأكملها بصدر رحب ويوفر لهم أرضية ملائمة للمشاركة السياسية، ويمكن استنباط ذلك بمقارنة بسيطة بين تعامل الملك عبد الله وغيره من رؤساء وملوك وزعماء المنطقة مع الاحتجاجات الشعبية، وسيتضح فورًا الفرق الشاسع في الحكمة والكياسة السياسية والتحضر الثقافي في التعامل مع المحتجين.

لم يكن في حوزة إخوان الأردن، وهم يرون الجماعة تدك وتباد في بلدان مجاورة، التحريض على تكبيل سلطات ملِكهم الذي وجه الشكر لأجهزة الأمن على التعامل الراقي مع المحتجين، بجانب استجابته السياسية السريعة لصوت الشارع، وإقالة الحكومة دون انتظار لإزالة أسباب الاحتقان، فوجود سلطة كهذه أفضل مليون مرة من مشاركة الإخوان في حكم مستقبلي، في الغالب سيلفظهم سريعًا ليفتح لهم أبواب السجون والمعتقلات على آخره.

وبجانب أهمية وجود الملك عبد الله للجماعة، والتغيرات الإقليمية والدولية تجاه الإخوان والتيار الإسلامي بشكل عام، أثر كثيرًا في موقف الجماعة بالأردن، تحول المزاج الشعبي تجاهها، بما جعلها تلقى خسارة تاريخية في الانتخابات النيابية قبل عامين، ولم تحصد إلا 16 مقعدًا من أصل 130 مقعدًا، إضافة إلى خسارة الإخوان ولأول مرة منذ ربع قرن انتخابات نقابة المهندسين بعدما كانت أهم معاقلها.

وتبقى آخر عناصر ابتعاد الإخوان عن الصورة بالحسابات المنطقية ودافعها للاحتجاج؛ فالضريبة سيئة السمعة، لم تفرض على جمهور الجماعة، وهو في معظمه من القواعد الشعبية بالمخيمات والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية، بينما كانت تداهم وبشكل أساسي الطبقة الوسطى، بما يعني أنه لا حاجة لتصدر الاحتجاج أو الدخول في صدام غير مأمون العواقب مع السلطة، ففي مثل هذا التوقيت درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، حتى لو كانت هذه الاحتجاجات ستعيد بالفعل صياغة القوى السياسية على الأرض، وتمنح آخرين الجزء الأكبر من تركة الإخوان التي بذلت في سبيلها الغالي والنفيس على مدار عقود طويلة مضت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى