لماذا تحظى كرة القدم بشعبية عالمية تفوق كل ماعداها من الالعاب ؟

هل تساءلت يومًا لماذا كلّ هذا الهوس العالمي بكرة القدم؟ وهل فكّرت بالمحفزات التي تدفع بالأفراد إلى تشجيع فريقِ معيّن وحبّه والارتباط به وبتاريخه وبلاعبيه؟ وكيف يتحوّل الأمر بهم إلى تشجيع أعمىً يقوده اللاوعي وغياب المنطق والعقل والأسباب؟ أو كيف تتحوّل الجماهير العريضة إلى حشودٍ شبه مسعورة في بعض المباريات تكسّر وتهمّش وتدمّر كلّ ما تجده أمامها وتعدي وتضرب على الطرف الآخر في الملعب؟

هذه الأسئلة لا تزال تبحث عن إجابات لها على الأصعدة العديدة، لكنّ القليل من الأبحاث والدراسات خلال العقود الماضية استطاعت تقديم تفسيراتٍ ممكنة لسلوكيات الأفراد المرتبطة بكرة القدم، سواء من ناحية اجتماعية أو نفسية أو فسيولوجية أو عصبية.

الهوية.. الفريق المفضّل كامتدادٍ للذات

قد لا نكون مخطئين حين قولنا أنّ المشجّع يرى في الفريق الرياضي الذي يشجّعه ويحبّه امتدادًا لذاته أو تعبيرًا عن إحساسه بها، ولا عجب حين يصبح الضمير المُستخدم للتعبير عن الفريق “نحنُ” وليس “هم”، أيْ أنّ المحبّ لفريقه لا يعود يرى أناه ذاتًا منفصلة، بل تتصل وتمتدّ للفريق ولاعبيه وتاريخه وإنجازاته وخساراته وتحوّلاته واحترامه وصورته.

ويمتدّ الأمر حتى يصل للفخر والهوية والانتماء، وما يتبعها من تحيّزات وتفريقات لا واعية أو قد تكون واعية لكن بصورة غير منطقية. ولهذا يظنّ كلّ شخصٍ أن فريقه هو الأفضل، أي أنه هو الأفضل، “نحنُ الأفضل”. هنا يلعب “التحيّز الضِمني” دورًا كبيرًا ويسيطر على جزءٍ كبيرٍ من المشهد.

والتحيزات الضمنية هي المواقف أو الصور النمطية التي تتشكل في عقولنا وتؤثر على أفعالنا وتصرفاتنا وقراراتنا بطريقة غير واعية، أي أنه قد يصعب علينا الاعتراف بوجودها، ومن هنا جاءت تسميتها بالضمنية، فهي غير واضحة أو صريحة، لكنها مع مرور الوقت تصبح أكثر رسوخًا ما يجعل من تجاهل وجودها أو إنكارها أمرًا صعبًا أو شبه مستحيل.

يخضع عشّاق الرياضة لهذا النوع من التحيزات تمامًا كما يخضعون، والأشخاص الآخرون، لنفس الأسباب التي تتكوّن عند أيّ فردٍ فيما يتعلّق بالناس من حوله، أو بآرائه السياسية، أو بتصوّراته عن العالم، أو بمواقفه الحياتيّة، أو بأفكاره الثقافية. ولا عجب إذنْ أنْ تتكون تلك التحيزات حيال الفريق أو اللعبة.

الانتماء.. حاجة أساسية يُشبعها الفريق المفضّل

لو جئنا إلى “هرم ماسلو” الشهير، الذي يوضّح ترتيب احتياجات الإنسان والدوافع التي تحرّكه وتحفّز أفعاله وسلوكياته، لوجدنا أنّ الحاجة إلى الانتماء والتي تنتمي إلى فئة الحاجات الاجتماعية، تتربّع في المستوى الثالث من أصل خمس مستويات في الهرم، يليها الحاجة للتقدير ثم الحاجة لتأكيد الذات.

حين يتعلّق الأمر بكرة القدم، يبحث الفرد في الفريق الذي يشجعه عن ما ينتمي له ويربط ذاته ونفسه به، أيْ أنّ الأمر أشبه بالبحث عن الهوية الممتدة كما أسلفنا سابقًا. ومع تطوّر شعور الانتماء هذا، تتطوّر الأفكار والسلوكيات المتعلقة به؛ بدءًا من الأفكار التحيّزية والعنصرية كما شرحنا، أو السلوكيات المرتبطة بحضور المباريات وارتداء لباس الفريق وحمل أعلامه، أو حتى السلوكيات العدوانية تجاه مشجعي الفريق المنافس في حالات كثيرة.

ولا تقتصر كرة القدم على العلاقة الثنائية بين الفريق والمشجعين فقط، ولكن أيضًا تمتدّ للفخر الإقليميّ أو القوميّ والعلاقات الأسريّة والانتماءات السياسية والأذواق الجمالية والمعايير الأخلاقية. فقد يصبح الحوار أو النقاش ليس حول الفريق سين أو اللاعب صاد، وإنما لموقفه السياسيّ مثلًا، أو أخلاقياته وتقاليده، مما يزيد من تبعات تشجيعه وولائه والانتماء له عند المشجّعين.

الهرمونات التي تتحكّم بسلوكيّاتنا الرياضية

فسيولوجيًا؛ ثمة العديد من التفسيرات التي قد تقدّم لنا جوابًا ممكنًا على ذلك السؤال. قد يكون إحداها هو ارتفاع مستويات العديد من الهرومات في الجسم، مثل الدوبامين الذي يعمل على تنظيم الاستجابات العاطفية والنشاط الحركيّ والفيزيائيّ، فمن ناحيةٍ يُفرز هذا الهرمون في حالات السعي لتحقيق غريزةٍ ما لتحفيز نظام المكافأة في الجسم، أيْ أنّ شعور الفوز سيكون مرتبطًا بنشوةٍ حقيقيّة تصاحب النصر المحقّق.

ومن ناحيةٍ أخرى، فيعمل الدوبامين مع المادة السوداء في الجسم على بتنظيم الحركة الفيزيائية بكلّ سلاسة وسهولة، كما أن قدرته على هذا التفعيل الحركي لها علاقة وثيقة بطبيعته التحفيزية، فهذا التحفيز يشمل الجهاز العضلي والعصبي، وربما هذا ما يفسّر النشاط الحركيّ المتصاعد الذي يصاحب مشجعي الرياضة، سواء كانوا على مدرجات الملعب أو في المقاهي أو في بيوتهم. جديرٌ بالذكر أيضًا، أن الدوبامين له علاقة بالإدمان، إذ يعمل الدماغ على حفظ البيانات المتعلقة بارتفاع مستوى الدوبامين في مركز الذاكرة، حتى يستيطع الفرد تذكّره ومحاولة تكرار الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاعه في المستقبل.

دراسات أخرى أشارت إلى أنّ مشاهدة كرة القدم أو أيّ نوعٍ آخر من الرياضة، تعمل على زيادة مستويات هرمون التستوستيرون في الجسم، الأمر الذي يؤدي بدوره زيادة الشعور بالسيطرة وتحفيز السلوك العدوانيّ، وهذا بكلّ تأكيدٍ يمكن أن يساعد في تفسير سبب حدوث الكثير من أعمال الشغب بعد انتهاء المباريات أو خلالها.

نشعر وكأنّنا في الملعب وليس بالمدرجات

قد يكون تفسير تدخّل ما يُعرف بالخلايا العصبية المرآتية أكثر إقناعًا للبعض، إذ تعمل هذه الخلايا الموجودة في الدماغ كالرادار، وتنظّم العمل بينها وبين الخلايا المرآتية الأخرى الموجودة عن الأشخاص الآخرين. فتقوم بمراقبة ما يجري في عقول الآخرين من حولها ومن ثمّ تحليل المعلومات التي تصلها، قبل أنْ تأتي بأعراض أو تصرفات ملائمة للموقف الحاصل.

كيف يمكن أنْ نفهم ذلك في ضوء الهوسَ الحاصل في المباريات إذن؟ حسنًا، يمكننا أنْ نُسقط هذا التفسير على مستويْين؛ الأول هي أنّ خلايا المتابعين والمشاهدين تُحاكي خلايا اللاعبين أنفسهم، فعندما يتعلق الأمر بمشاهدة المباراة، فإنّ هذه العصبونات المرآتية تجعل المشجعين يستوعبون الإجراءات التي يشهدونها في الميدان أمامهم، فيشعرون بالعواطف المرافقة للاعبين كما لو كانوا يفعلون ذلك بأنفسهم.

وبكلماتٍ أخرى، فالمتابعين للمباراة أو المشاهدين لها، يشعرون بالغبطة تجاه لمس الكرة من قِبل لاعبٍ ما، أو تجاه تسديد هدف. كما يشعرون بالحزن عند خسارة الفريق، أو إصابة أحد اللاعبين، الأمر الذي يمكن أنْ يكون حادًّا كما لو كانَ المتابِع هو اللاعب نفسه، على الرغم من أنه –فعليًا- لم يربح أو يفقد أي شيءٍ سوى عدة ساعات من يومه.

أمّا المستوى الثاني لعمل تلك الخلايا، فيحدث بكلّ تأكيد جراء تفاعل خلايا كلّ متابعٍ أو مشاهِد مع خلايا المتابعين الآخرين من حوله، فحماس واحدٍ منهم أو مجموعة سيؤدي لحماسه، والأمر نفسه يحدث مع العواطف الأخرى كالفرح والغضب والحزن وغيرها، أو حتى مع السلوكيات مثل الصراخ أو العدوانية أو التدافع، وما إلى ذلك. ربّما ستجد نفسكَ بين أصدقائك تشاهد مباراةً للمرة الأولى، لفريقين لا تعرف عنهما شيئًا ولا تشجع أيًّا منهما، لكنّ بمجرد أنْ يشجعَ أصدقاؤك فريقًا معيّنًا، فمع الوقت ستجد نفسك وقد دخلت في دائرة المشجعين تلك، تشعر بالحَماس حيال الأهداف وبالانتكاس ربّما حيال الخسارة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى