مراد وهبة: هناك علاقة وثيقة بين الفلسفة والسياسة منذ ارسطو وافلاطون

من دون الفلسفة تصبح الحياة بلا قيمة. هكذا يجيب الدكتور مراد وهبة، المفكر المصري المرموق، وأستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس القاهرية، على سؤال حول أهمية الفلسفة في حياتنا، ومدى جدواها، من حيث أنها وعاء الفكر الذي يفترض به أن يؤطر التفكير، ويرتب العقول، حتى تتمكن من صناعة الفارق في هذه الحياة.

ومن أسف أن العالم العربي يعاني بشدة في هذا الإطار، حيث نفتقر إلى الإسهامات البناءة في مجال الفلسفة العالمية منذ عقود طويلة، أو بالأحرى قرون كثيرة، ومن ثم نلمس تفاوتا رهيبا بين العقل العربي والعقل الغربي، ذلك الذي استطاعت الفلسفة أن تنشئه على أهمية التفكير العقلاني الذي يؤدي بالمجتمع إلى التطور والنمو، ومن ثم إلى الحداثة، وما بعدها أيضا.

توقف الاجتهادات الفلسفية العربية حال بين العرب وبين التفكير الإبداعي الذي يصنع التقدم، وأدى إلى تحكم الجمود والرجعية في تيار، أصبح يمثّل الكتلة الأكبر من أبناء هذه المنطقة؛ فظهرت بالتالي الحركات الأصولية، التي تعتنق مبادئ التكفير، ونفي الآخر، ومحاولات محوه الدَّائبة.

حول هذه الفكرة، وأفكار أخرى، يدور هذا الحوار مع المفكر مراد وهبة، مؤسس ورئيس منتدى ابن رشد، ليجيب عن تساؤلاتنا حول كيفية الخروج من ربقة الهدم، إلى آفاق البناء.

متى يصحُّ أن نطلق على شخص ما أنه فيلسوف؟

إذا كان صاحب مذهب، سواء كان المذهب مفتوحا أو مغلقا، ومن أجل أن يكون لديه هذا المذهب لابد له أن يمتلك فكرة محورية، وأفكارا أخرى ترتبط منطقيا بالفكرة الأساسية، وتدور في فلكها، هكذا يتأسس المذهب، وله أن يختار بين أن يكون مذهبه مفتوحا أو مغلقا.

ما هي الاختلافات التي رصدتها عبر تجربتك بين الفلاسفة، بغض النظر عن مسألة المذهب؟

حسب تصوري، ومعايشتي للفلاسفة، وجدت أن مقولة إن الفيلسوف يعيش في برج عاجي، تلك المقولة المنتشرة عنهم، هي مقولة خاطئة، فأغلب الفلاسفة من السياسيين، هناك علاقة وثيقة بين الفلسفة والسياسة، وبالتالي هناك انغماس كلي بالحياة، وإذا أردت أن تعرف الاختلافات بينهم انظر إلى توجهاتهم السياسية.

هناك مثال: أفلاطون، كان دكتاتورا، يؤمن بالثبات، ويرفض التغيّر، يستبعد كل من هو مختلف من الفلاسفة الآخرين، كان يناصر النظام الطبقي، كان أستاذا لحاكم في صقلية، الذي استعان به كمستشار، هناك أيضا أرسطو الذي كان مستشارا للإسكندر الأكبر، وهكذا، الاختلافات بينهم تنبع من اختلافات التوجهات السياسية في المقام الأول.

من أبرز الموضوعات التي شغلتك طويلا: مسألة الأصوليات الدينية، واليوم يعاني العالم بأسره من هذه القضية الشائكة، فما الذي استخلصته خلال رحلة البحث في هذا المجال؟

نعم، انشغلت بالأصوليات الدينية لفترة طويلة، ودعنا أولا نتعرف على معنى الأصولية الدينية، التي بدأت تظهر كتيار في أوائل القرن العشرين، منذ 1909 حتى 1915، حيث نشأ تيار بالكنيسة البروتستانتية يتناول النصوص الدينية بشكل حرفي، لا يجوز معه إعمال العقل، كانت هذه النزعة قد بدأت قبل هذا التاريخ بزمن بعيد، لكن المصطلح نفسه ظهر في الفترة التي أشرت إليها، وتشكّل داخل إطار تيار محدّد، واضح، ووزَّعتْ قيادات الكنيسة شرحا لأسس هذا التيار، وزعت من هذا الكتاب ما يزيد على ثلاثة ملايين نسخة، دعت فيه إلى إبطال إعمال العقل إزاء النص الديني، حتى أنها قالت بأنه يتحتم رفض النظريات العلمية التي يتضح معارضتها للنصوص الدينية، حتى وإن ثبتت صحتها بشكل أكيد! من هذا المنطلق، مثلا، رفضت نظرية النشوء والارتقاء، على الرغم من إيمان داروين بالله كما يذكر. رُفضت أيضا نظريات أخرى ثابتة بناء على هذا التوجه، ثم بدأت الأصوليات تتغلغل في بقية الأديان منذ منتصف سبعينات القرن الماضي.

ما هي الأسباب التي تؤدي بالبعض لاعتناق الفكر الأصولي من واقع تجربتك الفلسفية؟

إذا استمتع المرء بإبطال إعمال العقل، وإذا ارتضى بإراحة عقله، بعيدا عن إطلاق التساؤلات حول مصيره، وحياته، وجدواها، أيضا إذا استكان للتفسيرات البسيطة التي يوفرها له الحس المباشر بالأشياء، عندها يكون الإنسان أصوليا، وبالتالي هو يرضخ للتفسيرات الدينية للأشياء؛ بسبب أنها تجعله يركن لهذه التفسيرات مطمئنا، ببساطة، دونما حاجة إلى أن يبذل جهدا في الوصول إلى حقيقتها، يكفي أن يُقال له إن الله يقول كذا، حتى لو لم يتثبت من صحة تفسير النص الذي هو بصدده؛ ليريح نفسه.

وهو أمر متَّصل بأسلوب التنشئة في الأسرة نفسها، حيث يُجبر الطفل على أسلوب السمع والطاعة، دون السماح له بالنقاش والفهم، وهو ما يؤدي به في الأخير ليكون فريسة سهلة للوقوع في براثن الأصولية.

على ذكر العوامل المساعدة على وجود الأصولية، أين تكمن القوى التي تفرز الأصولية بالأساس؟

نحن نعيش في الكون، لا نعرف من أين أتينا، ولا إلى أين نذهب، يموت البشر، ولا نعرف إلى أين ذهب من مات، لذا نبحث، نحن البشر، طوال مسيرتنا في الحياة عن الأمن والطمأنينة، وفي هذا يستخدم البشر أسلوبين، هما: أسلوب الأسطورة، وردّ الأشياء إلى الغيبيات، بكل ما يعرفه هذا الأسلوب من شعارات، من مثل: القسمة والنصيب، المكتوب على الجبين، وغيرهما من عبارات مستهلكة في هذا الإطار، وهو أسلوب مريح وقتيا، يعمل بأسلوب الدواء المسكِّن، أما الثاني فهو أسلوب البحث، ومحاولة المعرفة، وهو أسلوب مزعج، يسبّب القلق، لا يمكن إزاء معتنقيه أن توقفهم عند حدود معينة للأسئلة، ويحاولون البحث عن إجابات لها.

التطوّر الحضاري مزعج، والتطوّر الحقيقي للحضارة بدأ بعد عصر الزراعة، فالحياة الزراعية حياة مستكينة، مسالمة، ليس لديها ذلك النوع من الأسئلة المقلقة، الفلاح فيها يبذر الأرض وينتظر القوة الإلهية التي تخرج له النبات والثمار، ويغلب على هذا النمط الفكر الأسطوري، والاستقرار ممتع للبشر من خلاله، الهزة الحقيقية التي حدثت كانت بسبب دخول البشر إلى عصر التصنيع، والثورة الصناعية، الذين يرغبون في الاستقرار عارضوا هذه الثورة.

ودعني أذكر مسألة موحية في هذا الإطار، سيد قطب لديه كتاب عنوانه “المستقبل لهذا الدين”، يشرح فيه أن هناك مرضا عقليا أصيبت به أوروبا، وهو الشيزوفرينيا، سماه الفصام النَّكد، ويعني لديه: الانفصال عن الحياة، يقول إن أوروبا انفصلت عن الحياة ابتداء من الإصلاح الديني، والثورة الصناعية، والتنوير بالتالي، ويرى أنه لابد من إعادة أوروبا عن هذا الطريق، والعودة إلى الزراعة مجددا؛ لكي يعتدل ميزان الكون، ولكي نتمكَّن من هداية أبناء هذه القارّة!

رغم أنك كنت معجبا بأفكار كانط إلا أنك ذكرت في كتابك “مسار فكر” أن فلسفته فلسفة مغلقة، لا تفتح مجالا للحوار والجدل، وأن من يريد أن يسبر أغوارا أعمق في مسار الفكر لابد أن يتخلى عن كانط!

حينما كنت طالبا كنت مهتمّا بالقراءة لاثنين من الفلاسفة، هما كانط وبيرجسون، والمعروف أن لكل فيلسوف مذهبا، به مجموعة من الأفكار التي تنتظم داخل إطار هذا المذهب، ولك أن تقبل تلك الأفكار مجتمعة، أو ترفضها، أيضا، مجتمعة، على اعتبار أنها اتجاهات مغلقة، لا تذهب أبعد ممّا وصل إليه صاحبها.

بيرجسون كان لديه توجّه مغاير، إذ يرى أن المذاهب الفلسفية يمكن أن تحتمل فكرة بقائها مفتوحة النهايات، فاجأني رأيه، ودفعني إلى البحث في تاريخ الفلسفة أكثر، وجدت أن كل عصر كان يحمل داخله تيارين فلسفيين: تيار يناصر الأفكار المغلقة التي أشرت إليها، ويتبنّى النظريات المنتهية، التي تضم أفكارا تم اختبارها، وتم الوصول إلى نتائج من خلالها تؤسس لهذا المذهب، ولا تسمح بمزيد من النقاش حولها، وهو ما يندرج تحت مفهوم المطلق، التيار الثاني كان على العكس، يضع أفكارا قابلة للنقاش، وتسمح بالمزيد من الحرية في التناول، وهو ما يندرج تحت مفهوم النسبي. هذا أفادني كثيرا في طريقة تفكيري، وجعلني أنتبه للعلاقة بين ما هو مطلق وما هو نسبي.

بدأت في الماجستير بكانط، صاحب المذهب المغلق، وانتهيت في الدكتوراه ببيرجسون، وهو صاحب المذهب المفتوح، وانتقلت بعدها لرصد العلاقة بين ما هو نسبي وما هو مطلق.

أخيرا، كيف يمكن الإفادة من وجهة نظرك من تطبيقات الفلسفة على حياتنا؟

الفلسفة مسألة حيويّة، دون فلسفة تصبح الحياة بلا قيمة، فالفلسفة تمنحك الوعي بالحياة، وبالمسار الذي تقطعه، وبناء على هذا إذا كنت لا ترغب في امتلاك الوعي بوجودك في الكون، وبمكانتك داخله؛ إذا أنت لست بحاجة إلى الفلسفة، لكن ستكون متخلّفا حينها، إذا أردت أن تكون متطوّرا فلابد أن تنشغل بالفلسفة؛ لذا حينما نريد أن ندرس الفلسفة فلابد أن تُدرس من خلال علاقتها بالحياة، لا كنظريات جوفاء، كما هو حادث الآن، للأسف. ومسألة الإفادة من تطبيقات الفلسفة تعود إلى المثقفين، الذين يجب عليهم أن يتحملوا مسؤولياتهم تجاه المجتمع في هذا الإطار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى