قصة قصيرة .. العازف

شطحت بها الذاكرة.. تمددت، وهي تجلس في الصف الأخير. ترقب العازف على المسرح.. وهو يعزف على الكمان مقطوعته الموسيقية المأخوذة من أغنية معروفة. لم يكن همّها الاستماع إلى عزف الكمان.. قد مرّ نصف قرن قبل أن تدرك في لحظة فوضى أنها شاهدت هذا العازف من قبل.. وقفت للحظة عند باب الطفولة.. عند الباب المطلّ على الحديقة التي كانت  تسمى الجنينة. هي اللحظات التي تنهال من كهوف الذاكرة.. لتتوقف عند أصابع العازف الذي يقف على المسرح الآن، تقرأ النوتات وهي تنثال من كل أنحاء جسده.

ما كانت تدرك أن ذاك الذي يقف أمامها الآن، هو ذاك الطفل الذي كسرت له كمانه يوم جاء لزيارتهم مع والده في يوم العيد، يحمل كمانه. كانت طفلة، شعرت بالغيرة تجتاحها.. هذا الذي يقف أمامها الآن.. عازفا مشهورا يعزف” أنتِ جميلة”، مع كل التعبيرات الجميلة التي كانت تنتقل ما بين أصابعه ووجهه.. هل كان عليها أن تتعرف عليه أكثر.

هل التقيا بعد هذا العمر الطويل.. لا أعتقد. حين وصلتها في يوم ما رسالة تحمل اسمه، يدعوها إلى حفلة بسيطة قال إنها في ذكرى ميلاده.. كيف خطرت بباله..

أما هو.. الفنان الغامض.. الذي كان عزفه شجيا، حنونا، فقد وضعها في حيرة مربكة. أعدّ الطاولة، بشموع كثيرة ملونة.. أوعية صغيرة وكبيرة مليئة بالورد.. الأضواء الخافتة، وصوت موسيقى” أنا أحبك” يصدح في أرجاء بيته الصغير.. وأخذ يجوب المسافات القصيرة، يحدق تارة في النافذة.. الشارع يكاد خاليا من المارة.. ثم يعود ليطفئ الشموع.. ثم من جديد يشعلها..

قد مرت ساعات.. يحدق في ساعة الحائط.. ثم في ساعة يده.. ولم تأت للآن.. وقف يائسا.. ينظر من جديد عبر النافذة. وكأنه في لحظة غيبوبة، سمع قرعا خفيفا على الباب.. وقف أمام الباب يحدق مذهولا.. هل تكون هي؟؟ لم يرها منذ أكثر من أربعين عاما.. كيف هي، شكلها، روحها. ثم.. حين استعاد رباطة جأشه، مد يده ببطء وفتح الباب..

لم يكن هناك أحد.. وحين أجال بصره.. وجد على عتبة الباب.. باقة ورد صغيرة.. ثم.. علبة كبيرة. أسرع إلى الداخل، وأخذ يمزق الأوراق الملونة التي لفت بها العلبة.. صعق.. كان كمانا جديدا..

وقد كتب على ورقة بيضاء صغيرة..” تعويضا عما كسرتُهُ ذات يوم”.. ارتمى على الكنبة يحدق في.. اللاشيء.

3/6/2018

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى