مشروع الحداثة السعودي ينهزم في اول معاركه وعند ابسط اختبار

تنفذ عمليات الإصلاح في المملكة العربية السعودية، نوعا ما كما في فرنسا، من الأعلى إلى الأسفل، فما على ولي العهد إلا أن يقترح وعلى الرعايا الخضوع. لكن الفرق يكمن في أنه على أرض الذهب الأسود، لا يُسمح للأفراد من طبقة العامة بالاحتجاج أو حتى إبداء أي رأي. وفي حال أقدموا على ذلك، سيكون مصيرهم السجن من دون شك. كان هذا المعطى فحوى الرسالة التي صاحبت عمليات اعتقال الناشطات في مجال حقوق المرأة ومحامين في الأيام الأخيرة في المملكة. قد تبدو هذه الاعتقالات من الوهلة الأولى متناقضة مع ما يتوقعه الجميع، خاصة مع سماح المملكة للنساء السعوديات بقيادة السيارات والتحرر من بعض قيود اللباس والمحظورات الدينية المسلطة عليهن.

لكن في الواقع، لا يمكن اعتبار مشروع التحديث العظيم الذي يرفع لواءه ولي العهد محمد بن سلمان، الرجل الأقوى في البلاد، مرادفاً للتحرر أو الديمقراطية. وفي هذا السياق، قال أحد المطلعين على أسرار أروقة السلطة في الرياض، إنه “على عكس ما هو مرجو، يعد الأمر بمثابة مشروع لتعزيز الملكية المطلقة”. ففي الحقيقة، لا يرغب بن سلمان في منح الانطباع بأن الإصلاح الذي فرضه هو نتاج تعبئة شعبية. ونظرا لأن موجة الربيع العربي قد أثرت بشكل كبير على المنطقة، حيث نجحت في سنة 2011 في الإطاحة بالعديد من الديكتاتوريات وهز عروش أخرى، لا يريد النظام الملكي السعودي فتح الباب أمام احتجاجات جديدة.

اعتقال ما لا يقل عن 10 ناشطات ومحاميهن

حين قرر محمد بن سلمان السماح للنساء بقيادة السيارة، فذلك لأسباب اقتصادية في المقام الأول، حيث يعتبر استقلال المرأة مهما جدا حتى تتمكن من العمل بسهولة أكبر. في الأثناء، تبلغ الميزانية الشهرية اللازمة للاستخدام اليومي للمركبات التي يقودها سائق من “أوبر” أو منافسها المحلي “كريم” قرابة 400 يورو، ما يجبر العديد من النساء على البقاء في منازلهن.

يرغب ولي العهد السعودي في أن تقتحم النساء مجالات العمل من أجل تعزيز النمو الاقتصادي، وتسريع التحول الديموغرافي. فضلا عن ذلك، يمكن أن يسمح ذلك للاقتصاد باستيعاب الشباب الذين يرغبون في دخول سوق العمل كل سنة، خاصة وأن حوالي 70 بالمائة من السعوديين هم دون سن 30 سنة. كما يهدف بن سلمان من خلال هذه الإجراءات إلى منع انفجار القنبلة الديموغرافية في وجهه، والاستعداد لما بعد نفاذ النفط، في الوقت الذي تعد فيه العائلة المالكة في أمس الحاجة إلى اقتصاد حديث وسوق عمل مرن.

وفقاً لمنظمة العفو الدولية، تم اعتقال خمس ناشطات في مجال حقوق المرأة ومحاميين لناشطتين منهن في المملكة العربية السعودية، وذلك في 18 أيار الجاري ، الموافق لأول أيام شهر رمضان. ومنذ ذلك الحين، تواصلت سلسلة الاعتقالات لتطال ثلاث ناشطات أخريات على الأقل، مما رفع العدد الإجمالي إلى 10 معتقلين. وقد ذكرت بعض المصادر أن عدد المعتقلين بلغ 12 معتقلا.

تعتبر معظم هؤلاء المعتقلات من الشخصيات المشهورة في المملكة العربية السعودية، على غرار لجين الهذلول البالغة من العمر 28 سنة، الناشطة بشكل مكثف على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد ظهرت الهذلول في إحدى صور مؤتمر منظمة “وان يونغ وورلد” الذي عقد في سنة 2016 في أوتاوا إلى جانب الممثلة الأمريكية ميغان ماركل، التي تزوجت للتو من الأمير هاري. وقد اعتقلت الهذلول مع غيرها من الناشطات بسبب تمسكهن بمعارضة مسألة وصاية الذكور ونصرة المرأة ضد العنف الأسري.

حقيقة ولي العهد

لا تدع الدعاية التي رافقت الاعتقالات، وكذلك قسوة التهم الموجهة إلى هؤلاء الناشطات مجالاً للشك حول مدى وحشية القمع الذي يمارس في المملكة في الوقت الراهن. وفي خضم حملة الاعتقالات، ادعت وزارة الداخلية السعودية أنها ضبطت “خلية تجسس” على اتصال “بعملاء أجانب”، في حين استخدمت الصحافة الرسمية مصطلح “الخيانة” لوصف المعتقلين. بناء على ذلك، قد يواجه هؤلاء المدافعين عن حقوق المرأة أحكاما بالسجن قد تصل إلى 20 سنة.

وفقاً للكاتب الصحفي المنفي، جمال خاشقجي، الذي يعيش في الولايات المتحدة، أماطت هذه الاعتقالات اللثام عن استراتيجية ولي العهد الفعلية، في حين ساهمت في تعزيز قوته. وفي تقرير له نشر في صحيفة واشنطن بوست، أورد خاشقجي: “إنهم يطلبون منا التخلي عن كل أمل في الحرية السياسية…. كما يتوقع منا أن نصفق بحماس للإصلاحات الاجتماعية ونتغنى بمجد الأمير، دون أن نتجرأ على ذكر هؤلاء النساء السعوديات اللاتي تجرأن على الدفاع على هذه القضايا لعدة عقود”. عند إعلان قرار السماح للنساء بقيادة السيارات في المملكة في أيلول من سنة 2017، قالت بعض الناشطات إنهن تلقين مكالمات هاتفية من موظفين حكوميين، الذين أصدروا أوامر لهن بعدم التحدث للإعلام ونسب هذا النصر لهن.

من خلال مثل هذه القرارات، أقحم محمد بن سلمان نفسه ضمن تقليد طويل من التحديث الاستبدادي في العالم العربي. ففي الستينات، ظهر جمال عبد الناصر في مصر وبورقيبة في تونس، وفي السبعينات، برز صدام حسين في العراق حتى يجسدوا جميعهم نماذج لحكام مستبدين يسعون إلى تطوير اقتصاد دولهم، داعمين ظهور طبقة وسطى، مع سلب شعوبهم أبسط حقوقهم السياسية.

لكن هل يسيطر ولي العهد السعودي حقا على الوضع في البلاد؟ لقد تزامن صعوده البارز، الذي توج بتعيينه ولي عهد المملكة في 22 من حزيران 2017، مع اتخاذ عدة قرارات غير متوقعة ومتهورة قد يكون لها نتائج عكسية. فعلى أرض الواقع، لم تكن حربه ضد ميليشيا الحوثي في ​​اليمن ناجحة، كما كللت محاولاته الوحشية لإخضاع قطر بالفشل.

فضلا عن ذلك، تحول اعتقال رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في الخريف الماضي إلى فشل مرير، كما لم ينجح بعد مشروعه في اكتتاب شركة النفط الوطنية، أرامكو السعودية. وأظهر قراره باعتقال حوالي 400 فرد منتسب للعائلة المالكة ومن بينهم رجال أعمال في فندق فاخر في الرياض، ليتم الإفراج عن معظمهم في وقت لاحق، تحت شعار محاربة الفساد، ولكن أيضا لتعزيز قوته، أنه لم يكلف نفسه عناء ترصد الوقت المناسب للقيام بمثل هذه الخطوة الجريئة.

جعل امتناع الأمير محمد بن سلمان عن الخروج للعلن منذ 28 من نيسان ، البعض يتساءلون عن سبب هذا الاختفاء. ومع ذلك، يحيل غياب ولي العهد غير المعتاد، بعد جولة طويلة قادته في آذار ونيسان الماضيين إلى الولايات المتحدة وأوروبا، في حين تناول الغداء مع إيمانويل ماكرون في 9 من نيسان الماضي في متحف اللوفر، إلى أنه يشعر بالثقة التامة في أنه يمسك بزمام الأمور في المملكة العربية السعودية بشكل يسمح له بالاختفاء لعدة أسابيع عن بلده.

حقق ولي العهد نجاحًا دبلوماسيًا كبيرًا إثر قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، الذي كان ينظر إليه باستياء كبير من قبل النظام الملكي السعودي. وفي الأثناء، يقترن تصميم بن سلمان على فرض السعودية على اعتبارها قوة إقليمية مهيمنة برغبته في إحكام السيطرة على الشأن الداخلي. وقد أورد المدون رائف بدوي، المسجون لما يقرب من أربع سنوات بتهمة الردة والإساءة إلى الإسلام، أن المجتمع السعودي ليس لديه رأي، وبالتالي، سيقتصر التغيير الحالي في البلاد على هذا الحد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى