المنهجية الإسرائيلية في التعامل مع مسيرات العودة والغزيين

وثقت مسيرات العودة صلة الأجيال الجديدة بماضيهم وأرضهم وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة العالمية وإلى أذهان الشعوب من جديد  – بعد أن غيبتها الأحداث العالمية ولاسيما في الشرق الأوسط لبرهة من الزمن  – بصورة حاضرة وقوية، شكلت تلك المسيرات ذات الطابع السلمي مأزقاً حقيقياً للاحتلال ليس على المستوى الميداني وطريقة التعامل معها فحسب، بل على المستوى العالمي والدولي الذي انتقد وأدان الموقف الإسرائيلي أكثر من مرة، بل وتطور الأمر إلى طرد السفير الإسرائيلي من بعض الدول مثل تركيا ، لم تكن تلك المسيرات السلمية بصورتها العامة ضرباً جديداً من ضروب المقاومة، بل كانت نواة العمل المقاوم إبان فترة الإنتداب البريطاني، لكن مسيرات العودة ميزتها سمات خلت منها سابقاتها جعلت منها حدثاً ذات قبول شعبي و دولي وتمثلت في التالي :

أولاً : الإستقلالية في المبادرة والقيادة، ويقصد هنا البعد عن القيادة والتبني التنظيمي والفصائلي لهذه المسيرات مما أكسبها الترحيب والتأييد العالمي، فعلى الرغم من محاولة ” إسرائيل ” إلصاق المسيرات بحركة حماس إلا أنها لم تنجح الى حد بعيد، وشكلت مشاركة جل الفصائل وقادتها دافعاً هاماً في استمرارها.

ثانياً : السلمية، تعتبر هذه الميزة الأهم في مسيرات العودة، فلم نشهد في قطاع غزة أي خطوة سلمية بهذا الكم والنوع لذلك فهي أربكت “إسرائيل” التي تصور قطاع غزة على أنه بؤرة إرهابية يجب القضاء عليه من خلال التعاون الدولي.

ثالثاً : التنوع في التحرك على الأرض والأساليب، حيث لم تقتصر تلك المسيرات على صورة أو هيئة معينة أو على شعار بحد ذاته، وهذا عمل على جعل مستقبلها أكثر غموضاً وضبابية من الناحية العملية على “إسرائيل” والتي دخلت في حالة خوف وذعر شديدين.

رابعاً : المهنية والجهد الإعلامي الذي مكنها من النجاح، وذلك بإيصال رسائلها واهدافها الى العالم مما قوض الدعاية الاسرائيلية وأظهر الجيش – الذي يسوق على أنه الجيش الانساني – على حقيقته من خلال كشف طريقة تعامله مع المتظاهرين السلميين.

لهذه الأسباب التي ذكرت سابقاً ومن خلال الوقائع والأحداث الميدانية على الأرض ومتابعة الماكنة الإعلامية الإسرائيلية التي ترصد المسيرات لحظة بلحظة، وباتت تعطيها إهتماماً كبيراً وتخصص لها موجات مفتوحة على شاشاتها المرئية، يمكن لنا أن نسنتج المنهجية والآلية الإسرائيلية في التعامل مع تلك المسيرات مع التنويه الى أن المسيرات لازالت قائمة ومستمرة، لذلك فمن الممكن أن نلمس سياسات جديدة تبتكرها “إسرائيل” في التعامل معها ومواجهتها:

أولاً : التبخيس والتقليل من شأن المسيرات سواء من حيث الأعداد المشاركة أو من حيث المقاصد والأهداف، فمنذ اللحظة الأولى حيث عولت “إسرائيل” على قلة المشاركين، كأحد أهم أسباب فشلها وقدمتها على أنها تخدم أهداف حزبية وشخصية لبعض قيادات الفصائل في القطاع، وسلطت الضوء على الحصار وأهمية تحسين الوضع الإقتصادي خيار أفضل بكثير من تلك المسيرات وأنه لن يتم ذلك إلا من خلال الهدوء الميداني.

ثانياً : الإستهداف المباشر للمتظاهرين ومحاولة إيقاع أكبر عدد من الضحايا، ويهدف من ذلك ردع المتظاهرين واظهار بأن كلفة الأمر الذي لا جدوى منه باهظاً جداً، راجية في ذلك العزوف الجماهيري عن تلك المسيرات وبدا ذلك واضحاً وجلياً في الجمعة الأولى ومسيرات ذكرى يوم النكبة في 14 من أيار.

ثالثاً : التهديد والوعيد بعودة منهجية الإستهداف والإغتيال، فلم يقتصر الأمر على قادة الفصائل بل شمل سائقي الباصات وأصحاب شركات النقل محذرين إياهم من نقل المتظاهرين إلى الحدود، ولكنها ورقة بالية باهتة لم يبقى لها أي فاعلية أو تأثير في الشارع الفلسطيني.

رابعاً : المناورات العسكرية وتمثلت في قصف بعض المواقع الحدودية ومواقع التدريب الفارغة في محاولة لجر المقاومة إلى مربع المواجهة العكسرية المباشرة، والبدء بمرحلة عسكرية جديدة فعلى الرغم من أن “إسرائيل” لا تحبذ ذلك لكنها تعتبر بأن أي مواجهة عسكرية مباشرة تكن بمثابة بداية نهاية المسيرات.

خامساً : الوساطات الدبلوماسية وذلك من خلال الاستعانة بالعرب والغرب، حيث شهدنا في الأيام القليلة الماضية دعوة مصر لوفد من حركة حماس وتقدم بعض العروض من أجل وقف تلك المسيرات، وما كشفه الدكتور موسى أبومرزوق في تغريدة له عبر ” تويتر” عن اتصال العديد من المسؤولين الغربيين به لحثه على وقف المسيرات وهذا يدل على عمق الأزمة التي تمر بها “إسرائيل” بسبب تلك المسيرات.

سادساً : تضخيم الماكنة الإعلامية لإستعدادت الجيش والسيناريوهات المحتملة في التعامل مع المتظاهرين في سعي للحد من محاولات إختراق الحدود، والإقتصار على التظاهر فقط دون المس  بها، وذلك بعد أن فشلت واستنفذت جمع الوسائل في إخماد التظاهرات.

سابعاً : الإشاعة والدعاية الموجهة، وبرز ذلك من خلال الأفلام القصيرة المسجلة لبعض الشخصيات العسكرية الإسرائيلية، والتي تبث عبر وسائل التواصل الإجتماعي حيث تدعو الغزيين لمراجعة حساباتهم والنظر في مستقبلهم، بالإضافة الى المنشورات والبيانات التي كان ينشرها الجيش على حدود القطاع.

ثامناً : محاولة تعميق الإنقسام والتحشيد على المنهجية التي يدار بها قطاع غزة، وتقصد “إسرائيل” في هذا المقاومة وسلاحها، بالإضافة الى إتباعها اسلوب المقارنة بين الضفة وغزة من الناحية الإقتصادية والحياتية خصوصاً على أنه النموذج المتقدم ويكأن الضفة الغربية معدومة البطالة لاتشهد عمليات إقتحامات وإعتقالات ومصادرات يومية.

ختاماً ساهمت مسيرات العودة في تكريس مفهوم حق العودة في ظل ما تعانيه الساحة الفلسطينية من إنقسام سياسي حاد، ومحاولات إسرائيلية وأمريكية تهدف إلى شطب هذا الحق وإنهاء ملف القدس كلياً، لذا يتطلب من الهرم السياسي الفلسطيني دعم تلك المسيرات من خلال رفع العقوبات المفروضة على قطاع غزة، كخطوة أولى والإتفاق على برنامج عمل وطني لمواجهة صفقة القرن والمؤامرات الرامية إلى إنهاء القضية الفلسطينية.

* مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي والفلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى