كما كان متوقعًا، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الثلاثاء 8 آيار/مايو 2018، الانسحاب من الاتفاق النووي ، الذي وقعته الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع القوى العظمى الست:الدول الخمس دائمةالعضوية في مجلس الأمن (أميركا ،فرنسا، بريطانيا،روسيا ، الصين) إضافة لألمانيا ،في 15حزيران/يونيو2015.ولعبت العوامل الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط دورًا في تغيير وتيرة مجريات الأحداث بالنسبة للاتفاق النووي ، الذي وقع في عهدالرئيس السابق الديمقراطي باراك أوباما،وجاء ترامب مختلفًا اختلافًا شاسعًا عن سلفه،وأيضًا عن الرؤساء الجمهوريين السابقين، إذ رفض ترامب منذ البداية عدم نص الاتفاق النووي ، على حظر برنامج إيران للصواريخ الباليستية، كما رفض تحديد جداول زمنية لرفع الحظر عن أنشطتها النووية، فضلا عن امتعاضه من سكوت الاتفاق عن ما يسميها أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط ودعمها الإرهاب.
وقد تجاهل الرئيس ترامب نصائح وزارتيّ الدفاع والخارجية بعدم الإقدام على هكذا خطوة، لا سيما أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، المخولة التحقق من التزام إيران ببنود الاتفاق، أكّدت امتثال إيران التام، وبشكل دوري. هذه العودة إلى لغة العقوبات والتهديد، لم تثبت في تجارب سابقة فشلها في الحد ّمن طموحات إيران النووية وحسب، بل أعطت طهران حافزًا للمضي قدمًا في تطوير برنامجها النووي. وحسب المطلعين على تفكير ترامب، فإنّ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي جاء في سياق تنامي الانتقادات للسياسات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط،لا سيما في عهد أوباما،إذ حمّله الأميركيون المتشدّدون و المعارضون لسياسته ،وحلفاؤهم من الصهاينة والرجعيين العرب من دول الخليج مسؤولية عدم وضع «استراتيجيا سورية»، واتهموه بتسهيل ما يسمونه بالتوسع الإقليمي الإيراني.
وفيما كان الرئيس السابق باراك أوباما، يرى أنّ الاتفاق النووي مفيد لإيران و للعالم ولأمن المنطقة ،حين اعتبر أنّ ذلك يفتح الباب أمام البحث في إنهاء حرب سورية ،وإعادة الاستقرارإلى المنطقة (العراق،واليمن ولبنان) ، ثمة محور رجعي عربي تتزعمه المملكة السعودية، ومعها كل من الإمارات والبحرين، يقرعون طبول الحرب مع الكيان الصهيوني والدائرة الضيقة المحيطة بترامب، بسبب تنامي الدور الإقليمي لإيران في منطقة الشرق الأوسط، بسبب العلاقة الاستراتيجية ، التي تربط طهران مع دمشق بالنسبة لسياسة إيران الإقليمية.
فسوريا ليست فقط الحليف العربي الأقرب لها، ولكن تتيح لإيران الوصول إلى حلفائها : حزب الله، وحماس وتعزز وجودها في لبنان. فقد وفرت سوريا ممراً آمناً للدعم المالي والعسكري لحزب الله في لبنان. وعلى هذا النحو، عندما تصاعدت الحرب الإرهابية الكونية على سوريا، ساندت إيران الدولة الوطنية السورية سياسيًا وعسكريًا .أما المملكة العربية السعودية، فقد تحمست لإسقاط النظام السوري لتفكيك المحور السوري الإيراني المناوئ لها، ومحاولة إضعاف النفوذ الإيراني في لبنان، وأخيراً، محاولة استعادة قدر من توازن النفوذ إقليمياً، وهو التوازن الذي اختل لمصلحة إيران بدرجة كبيرة، بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في عام 2003.
وفضلاً عن ذلك، كانت القيادات الصهيونية وعلى رأسها رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو يرسل إلى الإدارة الأميركية تقارير يزعم أن الكيان الصهيوني حصل عليها بعملية استخباراتية من إيران، توفر «تفاصيل جديدة ومقنعة» بشأن البرنامج النووي الإيراني ،وبشأن جهود إيران لصنع «أسلحة نووية يمكن إطلاقها عن طريق صواريخ».ولم يتردّد نتنياهو، بعد ساعاتٍ من العرض الذي قدمه، في أن يؤكد لصحفيين ثقته بأن ترامب «سيفعل الأمر الصحيح من أجل الولايات المتحدة، وسيفعل الأمر الصحيح من أجل إسرائيل، وسيفعل الأمر الصحيح من أجل السلم العالمي».
بعيدًا عن المبررات الإقليمية التي دفعت ترامب باتخاذ قراره المتعلق بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني،هناك الخوف الحقيقي الذي أصبح ينتاب الإدارة الأميركية بشأن مأزق النظام الدولي أحادي القطبية الذي أسسته الولايات المتحدة الأميركية بعد نهاية الحرب الباردة ،وسقوط الاتحادالسوفياتي،والذي يمر بمرحلة من التحول مع انتقال مركزالقوة العالمية في الغرب، ممثلاً في الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الغربية، إلى الشرق،ممثلاً في القوى الصينية والروسية بصفة أساسية، ومعها القوى الإقليمية الصاعدة مثل إيران والهند.
لقد باتت إدارة ترامب تدرك أنّ هناك تحديات إقليمية ودولية جديدة ،لا سيما الإرهاب ، وبروز قوى كبرى مثل روسيا والصين ،وقوى إقليمية مثل إيران والهند، وجنوب إفريقيا، والبرازيل ،والتي أصبحت تسمى بالقوى المتوسطة،إضافة إلى المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة، والشركات العابرة للقارات،والمؤسسات المالية المانحة، وهي جميعها، ترى أن معالجة القضايا المعاصرة يجب أن تتم في نطاق نظام دولي متعدد الأقطاب، الشيء الذي ترفضه الولايات المتحدة الأميركية، التي لا تزال تصر على انتهاج نفس السياسة الخارجية التقليدية في منطقة الشرق الأوسط،والتي تقوم على الحفاظ على تقديم الدعم العسكري والتكنولوجي والاقتصادي للكيان الصهيونيى ،لكي يظل متفوقًا على جميع الدول في الإقليم،و الهيمنة على النفط العربي كمصلحة قومية أميركية بامتياز،وإبقاء الدول العربية ، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط والخليج في مرحلة ما قبل الوطنية،لكي تحافظ على البنى التقليدية ما قبل الوطنية،كالدين،والقبيلة،والعشيرة،والطائفة،والعرق، والأيديولوجيا الوهابية المولدة للتنظيمات الإرهابية،ومواجهة إيران،كي لا تتحول إلى قوة نووية وإقليمية كبيرة في المنطقة.
وفي ضوء التغيير الذي حصل في قيادة وزارةالخارجيةالأميركية بقيادة مايك بومبيدو، وفي مؤسسة الأمن القومي مع وصول مستشاره الجديد للأمن القومي، جون بولتون، الذي يعتقد أنّ على الولايات المتحدة عبء القيام بإقناع المجتمع الدولي أن الانسحاب من الاتفاق النووي يخدم السلام العالمي، ويهدف لتحقيق مزيد من الاستقرار في الشرق الأوسط، من خلال:
إقامة التحالف العضوي بين الكيان الصهيوني والدول الخليجية بقيادةالمملكة السعودية اللذين يعاديان بإطلاقية إيران، وضرورة استبعاد روسيا والصين من هذه المرحلة، نظرا لموقفهما المتشدد من فكرة الانسحاب من الاتفاق النووي.وفي ضوء كل هذا،ازدادت إدارة ترامب عدائية للجمهورية الإسلامية الإيرانية،ما مهد الطريق للانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي،وإطلاق العنان للكيان الصهيوني للتصعيد العسكري المباشرة مع إيران فوق الأراضي السورية كما حصل في العدوان الصهيوني الجديد فجر الخميس 10آيار/مايو2018،ووضع منطقة الشرق الأوسط على أبواب حرب إقليمية جديدة ،بذريعة انتهاك إيران التزاماتها في الاتفاق النووي، الأمر الذي تؤكد الوكالة الدولية للطاقة الذرية وأوروبا، بل والمؤسستان العسكرية والاستخباراتية الأميركيتان عدم صحته.
يعتقد المحللون الاستراتيجيون في أوروبا أنّ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني ، يشكل رعبًا حقيقيًا للاتحاد الأوروبي ، بعد أن أخفقت دوله المؤثرة، مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، في إقناع ترامب بمزايا الاتفاق، ولأن لا بديل منه.وتتخوف الدول الأوروبية من قيام حرب إقليمية في منطقة الشرق الأوسط بين إيران وحلفائها من جهة،والكيان الصهيوني و أميركا وحلفائها الخليجيين من جهة أخرى ،يمكن أن تتطور إلى حرب عالمية، تكون فيها أوروبا ضمن مدى الصواريخ الإيرانية، ما يشكل ضربة قوية للاتحاد الأوروبي الذي يعارض الانسحاب الأميركي من الاتفاق، ويدعو للحفاظ عليه أو إعطائه المزيد من الوقت لصيانته وإجراء التعديلات عليه. فقد حذّر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أن إقدام نظيره الأمريكي، دونالد ترومب، على سحب الولايات المتحدة من الصفقة النووية مع إيران قد يؤدي إلى نشوب حرب حقيقية. وقال وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، الإثنين الماضي ،إنّ «فرنسا وبريطانيا وألمانيا ستبقي على الاتفاق النووي مع إيران، بغض النظر عن قرار الولايات المتحدة، لأنّ هذا هو السبيل الوحيد لحظر الانتشار النووي».
رغم اتفاق الدول الأوروبية مع الولايات المتحدة الأميركية إزاء المحدّدات الرئيسية تجاه منطقة الشرق الأوسط، فقد ظهرت التباينات واسعة بينهما في الرؤية والتنفيذ،بعد تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحكم في واشنطن،فقد انزعج الاتحاد الأوروبي من قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس،على الرغم من عدم اختلافه الفعلي مع الهدف الأميركي بحفظ أمن الكيان الصهيوني –لا سيما أن اللوبي الصهيوني يمتلك أيضًا نفوذًا واسعًا في القارة الأوروبية.كما أن هناك مصلحة مباشرة للقوى الأوروبية في منع انتشار الأسلحة النووية في منطقة الشرق الأوسط، لما في ذلك تهديد للكيان الصهيوني،ولمصالحها في المنطقة، ولشركائها في منطقة الخليج ، وأيضا للقوات العسكرية العاملة هناك.ورغم ذلك، فهناك تمايز بين الجانبين الأميركي و الأوروبي حول الملف الخاص بالاتفاق النووي الإيراني.
وفي أول رد فعل إيراني على قرار إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، قال الرئيس حسن روحاني، في كلمة له نقلها التلفزيون الإيراني الرسمي ليلة الثلاثاء 8آيار/مايو 2018، إن بلاده عليها انتظار «رد فعل الدول الكبرى» على خطوة ترامب، وإنه «سنسير وفقاً للأمن الإقليمي والعالمي، وسنتخذ خطوات تبعاً لمصلحتنا».وأوضح روحاني، أن بلاده ستبقى ملتزمة بالاتفاق النووي رغم إعلان ترامب، مشددا: «إذا حققنا أهداف الاتفاق بالتعاون مع الأعضاء الآخرين به فسيظل ساريا… وبالخروج من الاتفاق تقوض أميركا بشكل رسمي التزامها تجاه معاهدة دولية».وهدد روحاني بقدرة بلاده على «استئناف التخصيب من دون أي قيود، إذا ما اقتضت الحاجة، وهو ما ستقرره طهران بعد حوارها مع بقية أطراف الاتفاق».وحاول روحاني طمأنة الإيرانيين بقوله إن «على الشعب الإيراني ألا يقلق على مستقبل بلاده»، مشددا على أن الحكومة الإيرانية اتخذت «جملة من القرارات الاقتصادية تحسبا للقرار الأميركي كي لا يتأثر شعبنا».وأكد الرئيس الإيراني أن «الحكومة لن تسمح لترامب بأن يمارس أي ضغوط نفسية أو اقتصادية على الشعب الإيراني».
فمن المحتمل أن تكون لخطوة ترامب تداعيات مهمة مثل خسارة الولايات المتحدة للمصداقية في أية مفاوضات مستقبلية مع إيران أو أي بلد آخر. لكن الخسارة الأهم تكمن في ردة فعل إيران المتمثلة بعودتها عن القبول بالعمل بإجراءات الشفافية وبالسماح للمفتشين الدوليين بفحص منشآت عسكرية وعلمية حساسة. فعلى صعيد آخر، من شأن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني أن يؤدي إلى حالة تململ بين الأطراف الموقّعة على الصفقة، والتي لا ترى سببًا مُقنعًا للتخلي عنها. وتكمن مشكلة البعض مع الاتفاق النووي في عدم تضمينه شروطًا متعلقة بتغيير سياسات إيران في الشرق الأوسط، لا سيما شأنيّ التدخل العسكري في سوريا ودعم حزب الله في لبنان. لكن هؤلاء يتجاهلون أن الجمهورية الإسلامية، قبل توقيع الاتفاق النووي، كانت بالفعل قاب قوسين أو أدنى من الحصول على السلاح النووي، إذا أرادت ذلك.
إنّ هذه العودة الأميركية إلى لغة العقوبات والتهديد، لم تثبت في تجارب سابقة فشلها في الحد من طموحات إيران النووية وحسب، بل أعطت طهران حافزًا للمضي قدمًا في تطوير برنامجها النووي. فسياسة عزل إيران وإعادة وضع العقوبات الاقتصادية عليها سوف تجعلها أقرب إلى خيار التسلح النووي من أي وقت مضى. قد تكون حالة الارتباك الأميركي في معالجة ملف كوريا الشمالية النووي، حافزًا إضافيًّا للمتشددين في طهران لتبني خيارات المواجهة والتصعيد، والتي ليس من المستبعد أن تكون تحت غطاء شعبي نتيجة حالة الإحباط الداخلي من فشل الدبلوماسية الدولية، على حدّ قول الخبير علي أحمد، مدير برنامج الطاقة والأمن في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت .