اسباب لجوء امريكا لمشاركة فرنسا وبريطانيا في العدوان على سوريا

في غارة صاروخية لمدة 50 دقيقة، استهدفت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا فجر الأمس ثلاثة مواقع عسكرية ومدنية في العاصمة السورية دمشق وريفها، استخدم فيها حسب تصريحات لمختلف المصادر أكثر من 110 صاروخ متنوع ما بين الجوالة والمحمولة جواً، وحسب نفس المصادر فإن الدفاعات الجوية السورية تمكنت من التصدي لأكثر من 70 صاروخاً، فيما لم تخلف الغارة خسائر بشرية نظراً لإخلاء هذه المواقع قبيل استهدافها حسب مصادر روسية وسورية.

وفيما أكدت وسائل إعلام بريطانية وفرنسية وجود علم لدى موسكو بالغارة إلى حد التنسيق، نفى وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس وجود تنسيق مع الجانب الروسي بخصوص هذه الضربة، مؤكداً أنها “ضربة لمرة واحدة”

وتأتي هذه الغارة بعد أيام من تغريدات الرئيس الأميركي التي هدد فيها بضرب سوريا بالصواريخ وانتظار القوات الروسية في سوريا لها، وأيضاً قبيل وصول لجنة تحقيق منظمة حظر الأسلحة الكيماوية إلى مدينة دوما التي بحسب الدول الثلاث تم استهدافها بأسلحة كيماوية.

الحد الأدنى من التوافق

تأتي هذه الضربة بكل حيثياتها تفعيلاً لخطاي إثبات القوة والتأثير على مستوى دولي وإقليمي من خلال الساحة السورية، وذلك بعد أكثر من 3 أعوام من تثبيت اليد الطولى لموسكو هناك بواقع التحولات الميدانية التي رجحت كفة الأخيرة وحلفائها هناك على مختلف الجبهات، ولكن الملاحظ أن هذه الضربة ومحدوديتها لم تأتي كبداية لإستراتيجية الهدف منها موازنة تفوق روسيا وحلفائها في سوريا والمنطقة بشكل عام، ولكن كبديل عن الصدام المباشر معها الذي سيفضي بالضرورة لتحول الصراع بين هذه القوى الكبرى من صراع سياسي يدار جزء منه عبر عمليات عسكرية في محيط جغرافي محدد إلى صراع عسكري يرجئ فكرة السياسة ككل.

هنا يمكن القول بأن اشتباك فرنسا وبريطانيا في هذا المسار وبعيداً عن دوافعه الداخلية أو المتعلقة بالأزمات المتوالية لهاتين الدولتان مع روسيا، قد يكون بداية لتوافق أميركي أوربي بديل عن خطوة الانسحاب آحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني ومآلات ذلك في مستقبل المنطقة وعلاقة القوى الأوربية بواشنطن التي تأثرت بشكل غير مسبوق منذ انتخاب ترامب، ويبقي أيضاً مبدأ العقاب لهذه القوى الكبرى قيد التفعيل، وهذا الأمر بحد ذاته يلقى ترحيبا من إدارة ترامب التي لا تريد الذهاب منفردة في أي عمل عسكري في سوريا، خاصة بعد إجهاض إصدار قرار أممي أو من مجلس الأمن يعطي الغطاء الشرعي لمثل هكذا خطوات “عقابية” ترتئيها واشنطن وحلفائها حداً أدنى من رد يحفظ ماء الوجه، وكذلك يؤكد لروسيا عدم نية التصعيد إلى حد الاصطدام العسكري المباشر مع روسيا في سوريا.

في المقابل، تورد صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية في افتتاحيتها اليوم أن هذا السيناريو ليس في صالح أحد خاصة واشنطن وحلفائها، ويبتعد في الوقت نفسه من فكرة “حفظ ماء الوجه” بعد التوعد الأميركي الفرنسي البريطاني في الأيام الأخيرة، لمآلات مستقبلية تجعل من هذه الغارة بداية لتدهور في موازيين القوى في سوريا والمنطقة تضر بمصالح حلفاء واشنطن وعلى رأسهم إسرائيل، أبسطها اقتناص موسكو حق توريد منظومة دفاع جوي متقدمة للجيش السوري مثل منظومة إس 300، وهو الأمر الذي يعني انسداد أفق أي عمليات جوية إسرائيلية في المستقبل سواء داخل العمل السوري أو عبر قصف صاروخي.

بنك أهداف هزيل بمعزل عن الحلفاء

تقنياً، فإنه على المستوى الميداني والعسكري فإن هذه الضربة الثلاثية لم تؤثر بأي حال على الخارطة الميدانية في المعترك السوري، ناهيك عن تسريب بنك الأهداف وإخلاء المواقع المستهدفة قبل الغارة، والذي يجعل الجدال حول فاعليتها على مستوى تكتيكي واستراتيجي في غير محله، ويبقى الأمر في سرديات دعائية وإعلامية والتي كانت بدورها متواضعة بسبب خلوها من استهداف صريح لأي من التواجد العسكري الروسي أو الإيراني، وتأكيد المسئولين الأوربيين والأميركيين أنها ضربة موجهة لدمشق بذريعة الكيماوي وليس ضد موسكو أو طهران، وهو الأمر الذي يناقض تغريدات ترامب الأسبوع الماضي الخاصة بانتظار روسيا وصول الصواريخ الأميركية لسوريا.

ويتبقى هنا السبب المعلن وهو ردع دمشق عن استخدام أسلحة كيماوية كما ترى واشنطن وباريس وبريطانيا، وبعيداً عن تفنيد هذه الادعاءات الحالية أو السابقة حول ذريعة الكيماوي، فإن استباق لجنة التحقيق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية التابعة للأمم المتحدة يعني أن هناك نية فرض خطوط حمراء ميدانية بهذه الغارة، لكن في واقع الأمر إن حجم الغارة وإخراجها بشكل عقابي ينافى وأنها تنفذ بنية التدخل العسكري لتعديل موازيين القوى على الأرض.

النقطة السابقة طيلة سنوات الحرب في سوريا كان المعني بها القوى الإقليمية المتماسة جغرافياً مع سوريا مثل تركيا وإسرائيل، والذين حاولوا خلال الأيام الماضية الاندماج مع التهديدات الأميركية لصالح أجنداتهم الخاصة بقيادة أميركية لعملية عسكرية موسعة في سوريا الهدف منها إنهاء النفوذ الروسي والإيراني هناك؛ فعلى العكس عمدت واشنطن إلى عزل الحلفاء الإقليميين عن هذه الغارة وتأكيد ماتيس على أنها “غارة واحدة” وليست بداية لعملية عسكرية طويلة الأمد كالتي تورطت فيها واشنطن اواخر2013 –والتي أجهضت بتوافق روسي أميركي بعد اعتراض موسكو للصواريخ الأميركية وقتها- ومن ثم انزلقت بهؤلاء الحلفاء لمزيد من التصعيد الميداني الذي أفضى لهيمنة روسيا الميدانية والسياسية منذ2015، وذلك بخلاف عدم الانزلاق من مجرد “غارة واحدة” إلى حرب مفتوحة، وهذا أيضاً يتكامل مع فكرة التقاطع الثلاثي التكتيكي ذو الحدود الدنيا بغارة لمرة واحدة أهدافها دعائية إعلامية في المعظم، وبعيداً عن استراتيجية أياً من هؤلاء الحلفاء مثل إسرائيل وتركيا، والتي تهدف إلى ما أبعد من السابق إلى اقتلاع لنفوذ موسكو وطهران وهو ما يتطلب تصعيد للحرب في سوريا إلى مستوى حرب عالمية.

ماذا بعد؟

على المستوى الميداني فإن حدود القوة الأميركية في سوريا تم اختبارها عبر هذه الغارة وغارة مطار الشعيرات من العام الماضي، واللتان تتقاطعان في أن الفعل العسكري الأميركي في سوريا –باستثناء شرق الفرات- لم يفرض ردع أو خسائر تجعل الأوضاع الميدانية أو السياسية تنحرف عن مسارها الذي يصب حتى كتابة هذه السطور في مصلحة موسكو وحلفائها، والأهم لم يقوض هذا الفعل العسكري الأميركي النفوذ الروسي أو الإيراني في سوريا، بل على العكس أتى بتصريح أن التمركز العسكري الروسي والإيراني في سوريا ليس ضمن بنك أهداف الغارة الثلاثية، بما يعني أن التوقعات الكبرى وخاصة من حلفاء واشنطن مثل السعودية وإسرائيل التي ارتفعت بعد تغريدات ترامب أضحت مجرد أمنيات، حتى أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تتحدث في أن مردود هذه الضربة سلبي بالنسبة لأمن إسرائيل، التي أضحت وحيدة في وجه مدفع رد الفعل، سواء على غارة مطار التيفور وغيرها، أو الغارة الثلاثية الأخيرة.

إذن أسباب ودوافع للضربة الثلاثية تتجاوز فكرة الرد على استخدام الأسلحة الكيماوية بعمل عسكري يوازي الحملة الدعائية الضخمة التي سبقته – بمعزل عن حقيقة من استخدمها في دوما وقبلها خان شيخون بعد تفكيك الترسانة السورية في 2014- وهي بطبيعة الحال تتجاوز أيضاً مسألة تعاطف ترامب وإدارته مع ضحايا الحرب في سوريا، وأيضاً تتجاوز فكرة انتزاع صلاحية دولية وأممية لدور عسكري أكبر للولايات المتحدة في سوريا؛ فمن نافلة القول أن الوجود العسكري الأميركي على الأراضي السورية منذ 2013 بشكل علني تزايد على مدار الأعوام الأربع الماضية ليصل في تقديرات إلى حوالي ألف عنصر من القوات الخاصة ومشاة البحرية والقوات الجوية، وهو ما يتنافي حال زيادتها مع ما رفضه ترامب إبان حملته الانتخابية بتوسيع التواجد العسكري للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفي سوريا وخاصة مسألة إرسال قوات برية وقراره الأخير بتمديد تواجد هذه القوات لفترة قصيرة ورهن لأموال السعودية وطمأنة مخاوف إسرائيل. ومن ناحية أخرى ليس هناك داعي لأن يتم تفويض الولايات المتحدة أممياً للقيام بعمل عسكري في سوريا سواء من مدخل الكيماوي أو من مدخل فرض هدنة على جميع الأطراف المتحاربة بتدخل مباشر يتنافى مع إستراتيجية التعاون بين واشنطن وموسكو وبعض القوى الإقليمية لتسوية الأزمة السورية بشكل سلمي، وإن كان إجراء ترامب الأخير يرشح فرص الصدام العسكري بين موسكو وواشنطن على الأرض السورية للتصاعد أكثر من أي وقت مضى.

أيضاً احتمالية استثمار هذه الضربة الصاروخية لتثمين أوراق تفاوضية على مستوى البُعد السياسي لتسوية الأوضاع في سوريا مستبعد، لبديهية بسيطة وهي سحب واشنطن ليدها من أي عملية تفاوضية خاصة بسوريا، كما انتفاء نفوذ فرنسا وبريطانيا على المسار التفاوضي الذي يتم بترتيب روسي بالأساس، وهذا الأمر ينقلنا بالضرورة إلى مسألة إمكانية تكرار مثل هذه الغارة في المستقبل القريب؛ فأولاً إذا ما انتهى تحقيق اللجنة الأممية بأن السلاح الكيماوي لم يستخدم من قبل الجيش السوري بشكل مؤكد مثل الغوطة 2013 وخان شيخون 2017 ودوما 2018، فإن ذريعة الكيماوي التي كانت الحجة الأهم لأي عمل عسكري بقيادة واشنطن في سوريا ذهبت بغير رجعة. وثانياً وهو الأهم أن التعويل على واشنطن لقلب الأوضاع في موازيين القوى بسوريا أضحى مشكوك به سواء من أجل مصالحها المباشرة، أو من أجل حلفائها مثل إسرائيل التي باتت الأن في انتظار رد فعل مضاعف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى