الاحتلال ومسيرة العودة

حتى قبل تدفق الجماهير الغزية المزمع إلى السياج الحدودي بين القطاع المحاصر والمحتل من فلسطين في العام 1948، وبمجرّد الإعلان عن “مسيرة العودة الكبرى” احياءً للمناسبة الثانية والأربعين لذكرى يوم الأرض، ونية استمرارها حتى ذكرى النكبة بعد شهر ونصف من بدئها، حققت سلفاً واحداً من هام اهدافها، وهو كشفها لمدى الإحساس بالهشاشة المستحكمة، الملازمة للكيان الاحتلالي في فلسطين، ذلك بحكم طبيعته ككيان استعماري غاصب، رغماً عن كونه المدجج بكل ما توصلت إليه آلة الموت الغربية فائقة التطور من تقنيات القهر ووسائل الموت الفاتكة.
هذه الهشاشة مردها عقدة متأصلة لا تفارق كيان غازٍ مدرك لكونه الدخيل المفتعل، ويعلم بأنه المرفوض من قبل جغرافيا تلفظه وتاريخ لا يقبله. لذا فإن هذه العقدة سرعان ما تبدت فور الإعلان عن المسيرة، ولتصوره الاضطرار للصدام مع الجماهير الزاحفة نحو وطنها المحتل. ليس من غزة فحسب، وإنما من الضفة الغربية، وربما من الشرقية أيضاً، وشمالاً من الجنوب اللبناني، ناهيك عن تحرّك فلسطينيي الداخل المحتل في العام 1948.هذا إذا ما تحققت شمولية المسيرة المرادة، واحتدم الصدام مع جماهير عزلاء وكانت له بالضرورة اصداءه المتوقعة.
هم يدركون أن المسيرة هي لجماهير عزلاء، أي ليس بمقدورها الحاق كثير أذى باحتلالهم، أو بجنودهم المدججين بترساناتهم، والمحصّنين بأبراجهم وخلف اسوارهم الألكترونية، والمتخمون بشتى سبل القوة المتوفرة لهم. كما وعلى المدى القريب، قد يكون بمستطاعهم احتوائها، ولا من ما يمنعهم من الولوغ في دماء الفلسطينيين والاستفراد بهم في هذا الزمن العربي والكوني بالغ الرداءة، والأنسب لإفلاتهم وحشيتهم حتى حدودها القصوى دونما من خشية حتى من مجرَّد لائم في مثل هكذا زمن.
لكنما مجرَّد وقوع هكذا صدام هو كفيل بإعادة الصراع إلى مربعة الأول، ومن شأن ارتداداته الزلزالية أن تفجّر مكبوت غضب لدى أمة بكاملها، وأن يُذكّر العالم مُكرهاً بأن هناك وطناً محتل وشعباً لا يرضى عن العودة لوطنه بديلاً…إن هذا هو السر في كل ما تبدى لديهم من “هلع” وفق توصيفاتهم هم، والذي بات ضارباً اطنابه في مؤسستهم الأمنية قبل السياسة، ومن مظاهره:
شن المحتلون في الماضي بين الإعلان عن المسيرة ويوم انطلاقها حرباً نفسية متعددة الأوجه أسهمت فيها كافة المستويات الإعلامية والسياسية والأمنية، والقت الطائرات المسيَّرة اكداساً من المنشورات التحذيرية المتوعّدة ب”يوم جمعة أسود” على امتداد الجهة المقابلة للسياج الحدودي مع القطاع، ليس أملاً في منع المسيرة، وإنما بهدف التخويف محاولة للتقليل ما أمكن من كثافة الحشود المشاركة فيها.
ومن مفارقاتهم الدعائية التي لا تساور سوى عقلية استعمارية تتعامى عن فهم ما يكنه أصحاب الأرض المحتلة من مشاعر اتجاه محتليها، كلاماً عن تفكيرهم بتزويد جنودهم بوجبات غذائية لتقديمها للمتظاهرين بغية تهدئتهم، الأمر الذي يذكِّرنا بإلقاء الأميركان الدجاج المشوي على مقاتلي طالبان أملاً في تحييدهم ابان غزوهم لأفغانستان!
ما تقدم كان مقترناً بجملة من الاحترازات الأمنية العاكسة لإحساسهم بخطورة المسيرة لما ترمز إليه وبما سيتأتى عنها من تداعيات، وهو حشدهم لوحدات عسكرية كبيرة إضافية للمتواجدة فيما يسمونه غلاف غزة، لواء “غولاني”، ولواء “ناحل”، و”قوات خاصة” تابعة للواء “جفعاتي”، و”فرقة الفولاذ”، ووحدات قنَّاصة، وحرس الحدود، والشرطة الخاصة، والكلاب المدرَّبة، معززين كل هذه المسميات، بدعوة المستعمرات لحمل السلاح، وبالطائرات المسيَّرة الحاملة لقنابل الغاز، وإذ ألغوا إجازات عيد فصحهم، وضعوا حشودهم هذه تحت إمرة قيادة قائد “الجبهة الجنوبية”.
“هلع” المسيرة بلغ مبلغه بإطلاق “القبة الحديدية” صواريخها الاعتراضية باهظة التكلفة دونما توفُّر هدف تعترضه، ما  جرَّ انتقادات منددين منهم بكل هذا الهلع، والسخرية من تحوّطاتهم المبالغ فيها، والتي لم تمنع ثلاث شبان غزيين من اختراق سياجاتهم ذات التقنيات الأعقد والأحدث والتوغَّل داخل الوطن المحتل مسافة عشرين كيلو متراً، والتجوُّل في احدى المستعمرات، قبل ان تكتشفهم هذه التحوُّطات قرب “تسيئيليم” أكبر قواعدهم العسكرية في النقب المحتل!
الحرب النفسية، والتحوّطات الأمنية، والحشود العسكرية، أردفت باتصالات سرّية مكثَّفة، لإحباط مسيرة العودة، أجرتها تل ابيب مع القاهرة وعمَّان ورام الله، وفقما أوردته صحيفة “إسرائيل هيوم”، ناهيك عن ما نمي لاحقاً حول اتصالات أوروبية موازية مع حماس.
وبالتوازي مع ما تقدَّم، كانت الجهود والمحاولات الحثيثة لتصوير معاناة الغزيين كمشكلة محض إنسانية، وهي مكيدة للقفز على قضية شعب وطنه محتل، ويواجه حصاراً إبادياً لأكثر من عقد ونيّف لإسقاط بندقيته المقاومة ، ولهذا عقد الأميركان واسرائيلهم مؤتمراً لوزراء الخارجية ضم 19 دولة اجنبية ومن بينها عربية، تقول مصادر الاحتلال أنه تمخَّض عن لجنة ثلاثية مشكَّلة من الولايات المتحدة ومصر والكيان المحتل لبحث تخفيف الأزمة الإنسانية في غزة، بمعنى، وفق تعبير للجنرال ايزنكوت، “ألا يصلوا للإنهيار”!
…مسيرة العودة، وبغض النظر عن حجمها، ومدى المواجهة، وتواصلها واتساعاها، وهذه السطور كتبت قبل تبيُّنه، إن هي لم تجد صداها المباشر والرديف في كامل الوطن والشتات الأقرب، فلسوف، ومن أسف، يقتصر إنجازها على ذاك الهدف الوحيد الذي قلنا أنها قد أنجزته حتى قبل انطلاقها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى