بالوثائق، أول وأهم كتاب عن مجزرة حلبجة

منذ ثلاثة عقود يتردد اسم “حلبجة”، تلك المدينة العراقية الوادعة في حضن جبل جبل هورمان في حافات وتخوم سهل شهرزور بمحافظة السليمانية في شمال شرق العراق.

ولا يعود الاهتمام بهذه المدينة إلى ما تجود به ترتبتها الخصبة من ثمار العنب والتين والجوز، ولا إلى طبيعتها الخلابة، بل إلى شيء مختلف تماماً!

إنها المجزرة البشعة التي شهدتها هي ما جعل إسم هذه المدينة يتردد على كل لسان، كلٌ حسب دافعه وغرضه وما يريد الوصل إليه!

ففي 16 آذار من العام 1988، وقعت جريمة بحق الإنسانية ذهب ضحيتها، بحسب التقديرات الشائعة، نحو 5000 مواطنٍ بريءٍ من سكان هذه المدينة، بينهم عددٌ كبيرٌ من النساء والأطفال والشيوخ.

وطيلة العقود الثلاثة، كان الاهتمام الاعلامي والسياسي بهذه القضية يعلو ويخفت تبعاً للظروف السياسية المحيطة بالعراق، وعلى وفق ما تقرره العوامل الإقليمية والدولية التي تريد استغلال هذه القضية لأغراضها التي لا تمتُّ إلى معاناة الضحايا بصلةٍ على الإطلاق.

كما كانت الأطراف السياسية الكردية ترفع صوتها بالحديث عن هذه المجزرة، ليس من بابِ الانتصاف لضحاياها الأبرياء، وإنما في مسعى رخيصٍ لاستغلال معاناة الضحايا وأسَرِهم، استجلاباً لموقفٍ سياسي أو مكسبٍ مالي، حتى وإن كان مغمَّساً بدماء الأبرياء ممن يدّعون تمثيلهم والدفاع عنهم! ولا بأس، ما دام هؤلاء الساسة هم الذين تسببوا بسقوط هؤلاء الضحايا الأبرياء، فقط ليجعلوا من خصمهم، وهو دولة العراق الواحد، شيطاناً ينتقمون منه!

وليس أدلَّ على ذلك من موقف أبناء حلبجة من المسؤولين الأكراد، حينما علَّقوا ، على النصب التذكاري المقام بدعوى تخليد ضحايا المجزرة، لافتة تحمل عبارة “ممنوع دخول المسؤولين” ورموا، بالحجارة، أولئك الساسة الذين يحاولون الرقص على جراح أهل المدينة المكلومة، بل وقاموا في الذكرى الثامنة عشرة للمجزرة عام 2006 بحرق النصب التذكاري بكامل محتوياته، احتجاجاً على الاستغلال السياسي لقضيتهم من قبل المنتفعين والمتكسّبين.

ومن خلال عملنا الإعلامي، وجدنا خللاً كبيراً لدى الرأي العام العربي والأجنبي، فضلاً عن العراقي، في فهم ما حدث هناك يوم 16 آذار 1988، وهو نقصٌ كبيرٌ وخطيرٌ يشترك فيه القارئ العادي، والمتابع والاعلامي والسياسي بل وحتى الباحث المتخصص، بسبب حجم التضليل الإعلامي الذي يرافق الحديث عن المجزرة والمدينة، وبسبب استسهال بعض المتلقّين في ترديد عباراتٍ جاهزة يكرّرها الإعلام الدولي في هذا الشأن، وهو مغرضٌ في الغالب، دون بذلِ جهدٍ في التمحيص والتدقيق!

وبالتأكيد فإن الخلل والنقص في المعلومات والترديد الببغائي للروايات المضللة يستلزم الإسراع بترجمة هذه الوثائق والشهادات المهمة التي سنعرضها في هذا الكتاب، وأهمّها وثائق وكالتي المخابرات المركزية واستخبارات الدفاع الأميريكيتين، وتقرير قيادة قوات المارينز في الجيش الأميركي، وما نشرته الصحافة الأميركية عن الموضوع، وغيرها، إلى العديد من اللغات، إنصافاً للضحايا الأبرياء وتشخيصاً للجناة الحقيقيين والمحرّضين والمتسترين.

وسيرى القارئ الكريم أن الوثائق الرسمية الأميركية، المخابراتية منها والعسكرية والعلمية، هي أول وأهم من فضح الفاعل الحقيقي لمجزرة حلبجة، ولا داعي للإفاضة في القول إن الجهات التي أصدرت هذه الوثائق ليست معنية بالدفاع عن نظام الحكم في العراق وتبييض صفحته، إنما هي معادية له تماماً، لكننا نزيد فنقول إن تقرير الجيش الأميركي عن القدرات العسكرية العراقية، الذي سيجده القارئ لأول مرة بين يديه في هذا الكتاب، جاء في وقتٍ كانت الولايات المتحدة تتأهب للقتال مع العراق بعد أزمة الكويت، وهذا له أكثر من دلالة ومغزى، إذ ان الجيش الأميركي لم يكن ليضلِّلَ قياداته وجنوده عبر تقرير داخلي خاص محدود التداول.

إن حملة التضليل التي ترافق الحديث عن حلبجة لم تتوقف منذ ذلك الحين، وما تزال الكثير من وسائل الاعلام العراقية والعربية والدولية تتحدث عن المجزرة، بمعزلٍ عن الحقائق التي تداولها العالم عندما كان بعيداً، إلى حدٍ ما، عن التأثيرات السياسية المغرضة، سواءً الإيرانية منها أو تلك التي تصدر من الساسة الأكراد الذين سعوا إلى استغلال هذه المأساة الإنسانية لصالح مشروعهم بالانسلاخ عن العراق، وقبله شيطنة الحكم الوطني فيه تمهيداً لغزو البلاد واحتلالها، كما حدث في ربيع العام 2003، وهي المجزرة التي يتعكَّز عليها ساسة فاسدون لإقامة دولتهم المنسلخة عن جسد الوطن الذي حماهم ووفَّر لهم كل الحقوق، وهي دولة يريدون إقامتها لا بهدف تأمين مستقبل أفضل لأبناء شعبنا الكردي الذي عانى الكثير والكثير، بل بهدف إفقار هذا الشعب المسكين وإذلاله والاستيلاء على خيراته، كما فعل هؤلاء الساسة، ويفعلون، منذ عقود طويلة، وهي حقائق باتت أكثر وضوحاً لدى الجميع الآن.

إننا في هذا الكتاب لا نهدف إلى تبرئة ظالمٍ أو اتهام مظلومٍ، من خلال رفع التهمة عن طرف واتهام آخر، فلسنا في إطار المحاكمة التاريخية لهذه الجريمة البشعة، التي تتداخل فيها قضايا السياسة والإعلام والحقائق العلمية،بل إنَّ كلَّ ما يعنينا هو عرض الحقائق،وإطلاع العالم الذي ملأت مسامعه أحاديث التضليل الهائلة، طيلة ما يقرب من ثلاثة عقود، إطلاعه على شهادات موثَّقة ووثائق يجري تغييبها عن عمد، استغلالاً لدماء الضحايا الأبرياء الذين سقطوا في حلبجة، وهو هدف سيؤدي إلى إنصاف الضحايا من خلال عرض الحقائق، التي يُصرُّ الإعلام المغرض والساسة الفاسدون المتكسّبون بالقضية، على تغييبها، ليس عن الرأي العام العراقي والعربي والدولي فحسب، بل عن ذوي الضحايا أولاً، ليواصلوا مهمة التكسّب الرخيص منها باعتبارها (هولوكوست الأكراد)، ومساعيهم في الانتقام الخبيث من الدولة العراقية التي منحت مواطنيها من أبناء القومية الكردية ما لم تمنحه أية دولة مجاورة.

ولا أعتقد أن جهداً يُنصفُ ضحايا هذه المدينة العزيزة ويمنح السكينة لأرواحهم المعذّبة، أهم من فضح المجرمين وتسميتهم بأسمائهم الحقيقية، بعد إزاحة النقاب عن جملة من الحقائق يتعمَّد المجرمون والمغرضون إخفاءها.

إننا في الوقت الذي نأسف لوقوع هذه المجزرة البشعة ونترحَّم على ضحاياها الذين ذهبوا، كما سنرى في الوثائق والشهادات التي تضمها دفَّتي هذا الكتاب، ذهبوا ضحية مؤامرة خسيسة اشترك بها عملاء محليون وإقليميون ودوليون، فإننا نؤكد أن أهالي مدينة حلبجة هم الأقدر على المطالبة بحقوقهم وانتزاعها من الساسة الشوفينيين المتاجرين بأرواح أبنائهم، وهم وحدهم الذين يستطيعون المجاهرة بالدور الإجرامي الذي نفَّذه أولئك الساسة تلبية لشهوة مريضة بالانتقام من شعب وجيش العراق، بعربه وأكراده، أولئك الساسة الذين رقصوا على جراح حلبجة وأهلها، والذين يتحمَّلون وزر دماء الآلاف من الأبرياء من الضحايا الذين سقطوا، في صفوف العسكريين والمدنيين العراقيين، على مدى عقودٍ طويلةٍ من الاستغلال الخبيث للمطالب المشروعة للشعب الكردي، ذلك الاستغلال الذي أحرق مدن وقرى كردستان العراق كلها، وليس حلبجة الصابرة الصامدة وحدها، وسفك دماءً بريئةً لأبناء وسط وجنوب العراق كما استباح دماء أبناء أربيل والسليمانية ودهوك بمغامرات عبثية مجنونة نفّذها ساسةٌ تحرّكهم الصهيونية العالمية والمصالح الإقليمية والدولية الخبيثة ضد العراقيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى