مطلوب حماية آثار فلسطين من الضياع

يقول ابن خلدون في تعريفه للتاريخ إن ” التاريخ في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون ألأول، تنمو فيها الأقوال، ويضرب فيها الأمثال، وتطرق فيها الأندية إذا غضها الاحتفال، وتؤدي شأن الخليقة كيف تقلّبت لها الأحوال .. والتاريخ في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير أن يعد في علومها وخليق يوقفنا عن أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياساتهم. ”

يعتبر علم التاريخ من أهمّ العلوم الإنسانيّة التي تحافظ على ذاكرة وميراث الشعوب، لأنّه يقدّم نماذج حيّة لإخفاقاتها ونجاحاتها وإنجازاتها العلميّة والأدبيّة والسياسيّة من خلال الوثائق والدراسات والآثار التي تعتبر جزأ هاما من تاريخ كل شعب. توجد الآثار في قارات العالم ودوله؛ فبالإضافة إلى كونها دلائل ثابتة على عظمة الأمم وابداعها، فإنّها تساعد الباحثين والمتخصّصين في فهم الماضي ومعرفة انماط حياة وعادات وتقاليد الأمم البائدة، وتلقي الضوء على التطوّرات المتعلّقة بالأمور الوجوديّة والمشاعر الإنسانيّة التي اختبرها ومارسها الإنسان عبر تاريخه، وتعزّز مكانة الدولة التي توجد فيها من الناحية السياحيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، ولهذا فان الكثير من دول العالم تعتمد على معالمها الأثرية لجذب السياح، ومن أجل تثبيت نفسها على الخارطة السياحيّة والحضاريّة العالميّة.

تتفاوت الآثار في كميّاتها وأنواعها وأهميّتها من منطقة إلى أخرى تبعا لتفاوت حجم وعدد الحضارات التي تعاقبت عليها؛ ولهذا فإن الدولة التي تتوفّر فيها كمّيات كبيرة ومتنوّعة من المعالم الأثريّة تعتبر دولة حضاريّة ذات تاريخ عريق ساهمت مساهمة فعّالة في تطوّر الحضارة العالمية، وكانت محطّ أنظار الأمم الغابرة نظرا لما تحتويه من ثروات وموارد طبيعيّة، ومراكز علم وثقافة وتحضّر.

الآثار تشمل الوثائق الخطيّة الشخصيّة والحكوميّة، والكتب والمخطوطات، والأبنية والأزقّة والقلاع والهياكل والأحجار المنقوشة، والمسكوكات الفضيّة والذهبيّة والحديديّة، والرسومات، والمقامات، والكهوف التي ترك فيها الإنسان شيئا من بقاياه المتعلقة بوسائل حياته وتفكيره وإبداعاته، والأدوات المنزليّة، والأزياء، والعادات والتقاليد، والحوادث والأخبار المرويّة، وكل ما تناقله الخلف من السلف عن طريق المشاهدة والمشافهة والممارسة والمحاكاة.

فلسطين تحتضن كل ما سبق ذكره، لكنّها تمتاز عن غيرها بكونها الوحيدة بين أمم العالم القديم والمعاصر التي يوجد في مدنها وبلداتها وقراها آثار فينيقيّة، ورومانيّة، وإغريقيّة، وكلدانيّة و تضم أقدس المعابد والكنائس والمساجد، والمباني القديمة، ومعاصر الزيتون الأوليّة، وأضرحة عدد كبير من الأنبياء والرسل والقدّيسين، ومقامات أولياء ومفكّرين مبدعين، ولهذا تعتبرها الموسوعة الحرّة ويكيبيديا من أغنى دول العالم بآثارها، حيث تتنافس مع مصر على المرتبة الأولى في الوطن العربي، وهي أشهر بلد في العالم قامت بها حضارات تجاوز عددها العشرين حضارة مختلفة تمثّل معظم زوايا كوكبنا الأرضي؛ وبناء على معلومات المركز الفلسطيني للإعلام فإن فلسطين بتاريخها القديم والحديث جوهرة أثريّة حيث ” يبلغ عدد المواقع الأثرية في الضفة الغربية وقطاع غزة 944 موقعا رئيسيّا فيما يصل عدد المعالم الأثريّة إلى 15000 معلم، وهناك ما يزيد عن 350 نواة لمدينة وقرية تاريخيّة تضمّ ما يزيد عن 60000 مبنى تاريخي.”

اهتمام إسرائيل البالغ  بالآثار الفلسطينية، والبحث والتنقيب عنها في كل مكان، وسرقة محتوياتها ليس مستغربا لأنّه يندرج ضمن سياسة انتهجتها منذ قيامها عام 1948 ، وبعد احتلالها للضفة وغزة عام 1967 هدفها تزوير تاريخ فلسطين وتهويده. ولهذا لم تتوقّف سلطات الاحتلال الصهيوني عن سياساتها الرامية إلى سرقة الاثار التاريخيّة الفلسطينيّة ومحاولة تهويدها، وما زالت تبذل جهودا كبيرة، وتصرف ملايين الدولارات في البحث والتنقيب عن أي أثر يمكنها استخدامه في دعم مزاعمها المتعلّقة بتاريخ فلسطين إلى درجة أن متخصّصيها في الآثار وعملاءها كانوا يجوبون المدن والبلدات والقرى الفلسطينية بحثا عن أي أثر يجدونه، ويشترون كل ما تقع عليه أيديهم من فخاريات وحجارة ومعادن ومسكوكات وأواني منزلية.. بثمن بخس، وينسبونها إليهم، ويعرضونها في متاحفهم، ويستخدمونها في تضليل العالم، وفي تزوير تاريخ فلسطين وشعبها العريق.

إضافة إلى ما سبق ذكره، نحن كفلسطينيين ندمّر ونطمس الكثير من آثارنا بأيدينا ! اننا نهدم البيوت والأزقة القديمة التي بلغت أعمارها آلاف ومئات السنين والتي تشهد على ما قدمته أجيالنا السابقة من جهود وتضحيات، ونبني مكانها بيوتا حديثة، ونهمل الكثير من معالمنا التاريخية ونتركها بلا عناية وبلا ترميم لتندثر وتنتهي من الوجود. إن حماية الآثار الفلسطينية والمحافظة عليها جزء من معركتنا المستمرة مع الصهاينة؛ ولهذا يجب على الوزارة الفلسطينية المعنيّة بآثارنا أن تضع القوانين اللازمة، وتشكّل لجان آثار فاعلة من المتعلّمين في كل قرية وبلدة ومدينة فلسطينية وتدعمها قانونيّا وماديّا وعلميّا، وتكون مهامها تنظيف آثارنا واظهارها بالمظهر الذي يليق بها وبصنّاعها، وترميمها وصيانتها وحمايتها ومنع هدمها.

لا توجد قرية أو بلدة أو مدينة فلسطينيّة إلا وفيها كنوز أثرية متنوعة يجب علينا كفلسطينيين أن نحميها، وننقّب عن تلك التي مازالت مدفونة تحت ترابنا الطاهر، ونفشل المحاولات الصهيونيّة التي تهدف إلى تزوير وطمس تاريخنا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى