عبدالناصر رجل من أزمنة أخرى

يصعب على المرء مثلي لو قرر أن يكتب مقالة حول عبدالناصر في ذكرى مئوية ميلاده.. فماذا سيكتب عنه؟ ومن أي الأبواب سيطرق أبوابه الواسعة المتنوعة الإنسانية والأخلاقية والسياسية والفكرية والاقتصادية؟ ففي كل خطب عبدالناصر طوال فترة حكمة الثمانية عشر عامًا (1952-1970) هناك سياق تاريخي مرحلي داخلي في مصر وفي الشرق الاوسط والوضع العالمي، حيث لا يمكننا فصل تلك التجربة الناصرية كظاهرة سياسية عن ملامح مرحلة نهوض حركة التحرر الوطني العالمية، كان فيها الزعيم عبدالناصر عاموداً من أعمدة تلك الطاحونة الثورية المناهضة للاستعمار والقوى الرجعية يومذاك.

ولا نستطيع فصل الشخصية التاريخية ودورها عن مسارها التاريخي المتعرج والمعقد في ظروف الفوران والغليان التحرري في العالم الثالث والمنطقة العربية. ولن تسمح مساحة الصفحات في الجرائد بتناول عبدالناصر من جوانبه الغنية كتجربة مصرية أولاً وتجربة عربية ثانية وتجربة ثالثة في العالم النامي، فهي تجربة لها تميزها التاريخي في تجاوزها السياق النظري الماركسي التقليدي بأن من يحقق الانتقال الثوري من نظام الى نظام جديد يحمل سمات الثورة السياسية والاجتماعية فإن ذلك يقع على عاتق الطبقة العاملة وحزبها الطليعي، فيما التجربة الماوية قدمت منظورها بأن الفلاحين بإمكانهم ان يقودوا المجتمع والشعب من أجل التغيير وإزالة البرجوازية وبقايا الاقطاع.

ولكن التجربة الناصرية التي سبقت تجربة كوبا وفيتنام من حيث فرادتها، قدمت نموذجاً جديداً لم تكن البونابرتية العسكرية وحدها في التاريخ أول من قدم نموذج دور الجيش في المجتمع في التغيير والانقلاب الاجتماعي، ففي الوقت الذي نكص بونابرت في ذلك الدور التاريخي الاجتماعي للجيش أصبحت جيوش العالم الثالث مشروعاً للتنظير والنقاش العميق لعلماء السياسة والاجتماع وللاحزاب الشيوعية، التي وجدت ان التخلف الاجتماعي والاقتصادي في تلك المجتمعات وغياب الوعي السياسي وضعف الاحزاب والطبقة العاملة في تلك البلدان لا يمكنها ان تحقق التغيير المجتمعي، وقد ساهم هذا الجانب النظري الايديولوجي في مسألة امكانية الانتقال في دول لم تتطور بشكل كاف الى طرح «نظرية طريق التطور اللارأسمالي» بالانتقال من مجتمعات اقطاعية ما قبل راسمالية الى مراحل انتقالية – دون الحاجة للتشكيلة الراسمالية – للعبور نحو طريق التطور الاشتراكي، كان فيه الرهان على بنية جيوش وطنية احد المرتكزات الممكنة، وكانت تلك العناصر في الجيش في جوهرها الوطني معادية للاستعمار ومعادية لوجوده، وكانت تتوق اجيال من الشباب العربي لنيل حريتها.

في تلك المناخات التحررية سيخرج جيل عبدالناصر الشاب من بنية المؤسسة العسكرية ليقود انقلابا عسكريا حمل معنى وتعبيرات «ثورة يوليو» لأن الانقلاب كان تحررياً ضد الاقطاع والاستعمار وجاء بخطوات ثورية جذرية مست أسس المصالح الاقطاعية والاجنبية، فكان تمليك الفلاحين لملكية الارض تعبيرًا نحو التغيير الثوري داخل طبقة الفلاحين وتأميم قناة السويس ضربة قاصمة لهيمنة الرأسمال الاجنبي، وترحيل الجيش البريطاني مؤشرًا على التحرر الكامل من الوجود الاجنبي في مرحلة صاخبة عالمية في كل اقطار العالم، حيث التحولات والاستقطابات بين معسكرين شاخصة للعيان، يخرج فيها عبدالناصر كشخصية عربية، محلية وعالمية مؤثرة وفعالة مع كوكبة من زعماء تلك المرحلة كنهرو وكاسترو وسوكارنو ومكاريوس ولومومبا وتيتو، هذا التكتل الثالث بوادره أقلقت الدوائر الغربية خاصة بريطانيا والولايات المتحدة، فقد كان دور عبدالناصر منذ البدايات محرضاً للدول العربية والافريقية والآسيوية وقد دعمها في مشاريعها التحررية والتنموية. وكان يرى ان تلك الجبهة مهمة في مواجهة الرأسمالية العالمية وهيمنتها على خيرات الشعوب وسيادتها.

توفي عبدالناصر عن عمر ناهز الثانية والخمسين، ولو عاش زمناً أطول لربما السياق التاريخي العربي تحرك في اتجاه آخر، فقد تمتع عبدالناصر بكاريزما فاقت قدرتها في التأثير على الجماهير العربية، زعيم لم يحظَ أي زعيم عربي لا قبله ولا بعده بتلك الجاذبية السياسية، التي كانت مفزعة لأعداء حركة التحرر الوطني. الحزن المدمي والدموع والبكاء عليه في يوم وفاته في الشوارع والبيوت العربية كانت شاهدة على حقيقة عصره ومكانته في قلوب الملايين.

يستحق عبدالناصر كشخصيةٍ عروبيةٍ أن نكتب تجربتنا معه وعنه، نحن الجيل الذي ولد ما بين عام 44 -52، جيل ولد خلال الحرب وتقسيم فلسطين ونكبتها وقدوم فارس الحلم العربي في انقلاب الثالث والعشرين من يوليو في عام 1952، كانت طفولتنا معه ونحن متراصون في خطب «راديوهات الدكاكين الصغيرة» في الأزقة والمقاهي المتناثرة على أطراف أحياء مدن كالمنامة والمحرق والحد والرفاع، حيث يخترق ذلك الصوت المصري المرح القوي المؤثر بيوت قرى البحرين من شمالها حتى جنوبها ومن شرقها في الزلاق حتى غربها في سترة، يومها كانت مجلات وصحف مصر صباح الجمعة تنفذ كالخرافة الممكنة، حين يعرف الناس أن المجلة تقدم صورة لعبدالناصر ضمن مبيعاتها كهدية مجانية، وعلى الناس أن «تبروز» تلك الصورة النادرة التي كانت تغيظ الانكليز والأنظمة، ولكنها وجدت من الصعوبة ان تناهض تلك الرغبة الجماهيرية العارمة في عشق مجنون بزعيمها، زعيم اخترقت محبته واحترامه نخبا متنوعة، حكاما وشعوبا، متعلمة وأمية، المهم ان يحفر في ذاكرته نقشًا تاريخيًا «لابوخالد».

في هذه المرحلة الناصرية تفشت كالفيروس أسماء من نوع ناصر وخالد وجمال كلها ثلاثية «ناصرية» ولا يمكنني أن أنسى تلك الحادثة الغريبة لشعبنا المسكون في قلبها عبدالناصر، عندما غنت فايزة أحمد ونحن في وسط مقاعد السينما أغنية «يا حلوتك يا جمالك !» فما أن نطقت عبارة واسم جمال/‏‏ك حتى هب الجمهور تصفيقًا وتصفيرًا واصواتًا متعالية، جمهور كنا نعجب من حماسه المفرط وجنونه السياسي الأكثر إفراطًا في هيامه بشخصية عبدالناصر. ما أجمل «سنبل» الأفلام يومذاك فوحدها فرجة أخرى مختلفة عن الفيلم نفسه، هكذا طلت فايزة أحمد بصوتها في «السنبل وليس الفيلم». وإياك أن ينزلق لسانك في كلمة معادية او إساءة لعبدالناصر فإنك خائن وبن جوريون وأكثر مما تتخيل، فللزعيم عبدالناصر قداسة خاصة، بلغت حد تقديس الايقونة عند المؤمنين.

عبدالناصر في مرحلتنا وزمننا زعيم تخطى حدود بلاده، بل ويشاركني طلبة مرحلتي اننا كنا نحب المدرسين المصريين لأنهم جاؤوا من بلد ذلك الرجل العظيم، فمن منا لن يحب شعبه، يومها لا يمكنك تجد نظرة سلبية إطلاقًا حول «الشخصية المصرية» فهؤلاء جاؤوا من كوكب مختلف يحكمه عبدالناصر.

هذا الشعور لم يكن يراودنا نحن الطلاب تجاه مدرسينا المصريين بل باتت الشخصية المصرية يومذاك شخصية عروبية للغاية بفضل المشروع الناصري، الذي قلب موازين الاشياء في عالم «السياسة البحرينية الشعبية».

يراودني حين أختلي مع نفسي شريط واسع، ما الذي كان يملكه هذا الإنسان السياسي وهو في البعيد ان يجذبك نحوه ونحو خطاباته، إن لم يكن هناك شعوران مختلطان في داخلك وهما يتمازجان كخلطة سحرية، الأول هو شعورك القومي العربي، والشعور الثاني أن هذا الإنسان بات محركًا لنزعتك الوطنية المعادية لعدو مشترك هو الاستعمار ومدافعًا عن كرامة العرب، وزعيمًا يخطب ليلًا نهارًا محركًا لكوامن روحك المستنفرة، لهذا تجد نفسك كل عام تركض في شوارع المنامة والمحرق هاتفًا للوحدة العربية وللجزائر واليمن وبغداد وفلسطين، تهتف لكل مشاريع الهم العربي المختزنة في داخلك تهتف للحلم البعيد. كان من ضمن هتافات انتفاضة 1965 ما زلت أذكر بعض الشعارات الكثيرة والأهازيج، ولكن ما لا يمكن نسيانه في المحرق، حين خرج من بيننا شاب ضمن الحلقات المتفجرة حماسًا وهو في ذروة نشوته هاتفًا: «الوحدة الوحدة يا عمال.. الوحدة الوحدة يا جمال !» يومها لم أتوقف عند تلك العبارة سريعًا إلا بتعجبي واستنكاري ما دخل جمال في الانتفاضة ؟!! أما اليوم وحين تخلو مع نفسك وتذهب بعيدًا في تحليل كل ظاهرة ومؤشر، تجد أن ذلك الشاب كان جمال مسكون في لا وعيه، ويهيمن على مشاعره كزعيم ومنقذ ومخلّص، هو لا يعي ما يردده، ولربما جذبته إيقاعات شعرية أن مفردة العمال يناسبها جمال وبعضهم كان مستعد أن يردد اسم «السلال» الذي حتمًا لا يعرفه جيل كامل من أجيال الشباب في البحرين، فجيلنا كان عروبيًا وهمومه ليست «قطرية» فهي إما عربية او عالمية وإنسانية.

لا زلت أستمتع بأغاني قديمة هي نوستالجيا جميلة، لكبار المغنين المصريين، فمرحلة عبد الناصر الذهبية فرزت فنًا وثقافةً وأدبًا غنيًا، يتسق وينسجم مع نهوض المرحلة وثرائها الفكري والثقافي، قمم الأغنية المصرية يومها كانوا يحقنونا دون توقف بذلك «الغناء الثوري» وتستشري عدوى تلك الساعات والكلمات فينًا، فلا نجد أنفسنا إلا جزءًا لصيقًا بجدران طين البيوت لنكتب فوقها «عاش جمال عبدالناصر.. عاش جمال مؤمم القنال !» لا يهم كيف تكتب لغتك وليس مهم كيف تكون منسقًا ومتناغمًا، بقدر ما يهم أن تنقش مشاعرك هناك على الجدران حتى وان حصلت عليها كف «راشدي» في مركز الشرطة، فشقاوة الأطفال تحولت الى لعبة سياسة خطرة، لعبة امسكوا أولادكم عنها. هكذا يودعك عادة مأمور مركز الشرطة وانت في براءة طفولة ناصرية تجهلها وتجهل قشعريرتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى