حوار قديم حول الناصرية مع المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ

ياسين الحافظ مفكر سورى يساري، فى رأيى هو أعظم من مزج بين الماركسية والفكر القومى العربى، رحل عام 1978 بسبب إصابته بالسرطان.

قراءة أعماله الفكرية وحواراته لا غنى عنها لكل من يريد أن يفهم أسباب محنة العرب المستمرة.

كتاب ” الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة ” من أهم كتبه.

فى الحوار الصحفى التالى يدلى ياسين الحافظ بأراءه عن جمال عبد الناصر والناصرية ومحمد حسنين هيكل والبعث والشيوعيين العرب.

لقد كان عبد الناصر رجل فعل ولم يكن منظراً. لقد كان فعله، وهو فعل رجل تاريخي عميق الارتباط بالشعب، يتكشف عن خلفية من التصورات والمنظورات كانت تطابق الواقع من جهة، وتستشف بعض آفاق المستقبل من جهة أخرى. لقد كانت ممارسات عبد الناصر في جوانبها الأساسية، أقرب موضوعياً، إلى (أو أقل بعداً عن) ماركسية ماركس ولينين من ماركسية تسعة أعشار من ينسبون أنفسهم إلى ماركس ولينين في وطننا العربي.

لقد كان عبد الناصر رجلاً قومياً، وجاء ارتباطه بالجماهير ليعطي نزعته القومية طابعاً متطرفاً. إلا أن النزعة القومية، مهما بلغت من تطرف ، عاجزة عن أن توفر الحلول لمشاكل بلد متخلف في عصر الإمبريالية. ومن هنا كان تجاوز هذه النزعة جدلياً (أي تحقيقها وتجاوزها في آن) شرطاً لحل كل مشاكل الوطن العربي. ولقد كانت مسيرة عبد الناصر الفكرية عملية تجاوز مستمرة لهذه النزعة، في اتجاه أفق اشتراكي، كان فضفاضاً وعريضاً ، إلا أنه كان أكيداً وجدياً ، وفي حال تقدم دائم إلى أمام . إن هيكل، الذي يتولى الآن تحويل عبد الناصر إلى بطل رواية انتهت، قد اعترف في حديث له مع النهار، إذا لم تخني الذاكرة، بأن عبد الناصر كان يفكر بـ ” ثورة ثقافية ” في النظام بعد الانتهاء من تصفية آثار العدوان.

عندما تسألني عن إضافة أو مساهمة ناصرية في الفكر السياسي العربي، يحق لي أن أسأل بدوري : أين هي مساهمة مَن افترضت فيهم أو نسبت إليهم المساهمة؟ الفكر القومي (البعث مثلاً) باستثناء تأكيده الصائب على فكرة الوحدة العربية، كان فكراً مثالياً شرقياً متثائباً يكرر نفسه ويحلبها في انفصام عن الواقع التفصيلي الحياتي المنظور. أما الفكر الماركسي العربي، سواء أكان التقليدي أم المستحدث، فقد كان، بدغمائية، فكراً شرقياً كسولاً مقلوباً على رأسه. لقد كان، لنفاد صبر أو لسطحية، يخرج الواقع من رأسه ولا يخرج رأسه من الواقع . وكثيراً ما أتذكر، عند قراءة نص ماركسي عربي، قولاً للينين: المثالية الذكية أقرب إلى المادية الديالكتية من المادية الغبية.

تجريبية الناصرية

لا شك في أن عبد الناصر كان تجريبياً . لكن تجريبيته هذه، بسبب الطابع التاريخي لشخصية عبد الناصر وارتباطه العميق بالشعب، كانت تنمو إلى وعي مطابق، إلى “ماركسية موضوعية”، بحسب تعبير موفق لعبد الله العروي . هذه التجريبية بالذات كانت أعلى بكثير وكثير من الفكر القومي المثالي، ومن الماركسية الدوغمائية العربية. وبهذا وحده يمكننا تفسير تفوّق عبد الناصر على بقية أطر اليسار، اليسار القومي العربي واليسار الماركسي العربي.

ومن هنا فإن التراث الثوري العربي الوحيد، العظيم والقاصر في الوقت نفسه، هو تراث عبد الناصر. من هذا التراث، من تمثله ديالكتياً، أي استيعاب كل عناصره الإيجابية ونقدها وتجاوزها، ستستمد النظرية الثورية الغربية عناصر جوهرية، لكي تنضجها وتصوغها وفقاً لمعطيات الواقع العربي ومتطلباته. لا يمكن حركة ثورية، تريد لنفسها أن تصبح حركة جماهير، وليس مجرد عصب وحلقات معزولة، إلا أن تتخذ موقفاً إيجابياً من كل ما هو خصب وثمين وإيجابي في هذا التراث العظيم، تستوعبه وتتجاوزه لصياغة نظرية تكون، بحسب تعبير الشيوعيين الصينيين، ماركسية تماماً مثلما هي عربية تماماً.

قلت في بداية حديثي إن عبد الناصر كان رجل فعل ولم يكن منظراً. ومع ذلك ، إذا كان لا بد من الحديث عن المساهمة المميزة للناصرية في الفكر السياسي العربي، يمكن من خلال تنظير شذرات كتاباته وخطاباته ومجموع أفعاله أن نقف عند الإضافات المهمة التالية :

الناصرية والبعث

لقد أدرك عبد الناصر، وحده تقريباً ، آلية الهيمنة الإمبريالية والخصوصية المميزة لعمل هذه الآلية في الوطن العربي. قد يعترض على قولي هذا قارئ أو آخر. والحق، إن الفكرة دقيقة. ولنحاول إيضاحها بمقارنة نظرة عبد الناصر بنظرة كل من البعث أو الأحزاب الشيوعية العربية.

البعث، بسبب عقيدته القومية الخالصة تقريباً، كان يرى السيطرة الإمبريالية مجرد سيطرة أمة أو أمم غريبة على الأمة العربية. كانت هذه السيطرة كابوساً على الأمة، يجرح كرامتها ويسحقها ويستغلها. هذا كله صحيح، لكنه ضرب من إدراك إجمالي تقريبي غامض، كإدراك الأطفال، لحقيقة وآلية السيطرة الإمبريالية، التي تجد مرتكزاتها في البنية الطبقية للمجتمع العربي ( للطبقات الضالعة مع الإمبريالية) وفي البنية الاقتصادية (التخلف العربي) وفي البنية المفتتة لكيان الأمة (التجزئة). سيرد بعضهم : ولو! لقد خاض البعث، في سوريا خاصة، صراعاً ضد الرجعية، ونادى بالاشتراكية وناضل في سبيل الوحدة. هذا صحيح لكنه رد مبسط ، ولا ينقض قولنا إن البعث لم يفهم آلية الهيمنة الإمبريالية وجوهرها المميز في الوطن العربي .

لقد كانت الوحدة، بالنسبة إلى البعث، مثالاً وفكرة ينبغي أن تتجسد . الوحدة عودة الأمة إلى الوضع السوي. وما عدا ذلك كان مضافاً . إن مصطلح “الشعب ” و”الجماهير” مصطلح وافد إلى البعث الرجعي. لم يكن طبقة بالمعنى الحقيقي، بل مجموعة أفراد فاسدين . وصراعه معهم كان صراعاً سياسياً من حيث الأساس، لذا فإن أكرم الحوراني، على الرغم من أنه أول من طرح مشكلة الفلاح في المشرق العربي وقاتل مع الفلاحين (وهذه نقطة مضيئة في تاريخه)، إلا أن طرحه للمشكلة وهو الإقطاعي الصغير (أكبر من كولاك وأصغر من إقطاعي، لكن دعامته الأساسية كانت كولاكية)، كان إصلاحياً جداً، إلى درجة أنه أسكت أصواتاً بعثية كانت تطالب، قبل عام 1958، بطرح شعار الإصلاح الزراعي. (أما عفلق والبيطار فلم يكن يخطر لهما على بال، جدياً). أما الاشتراكية، حتى في ممهداتها الأولية كمواجهة مع الكومبرادور والبرجوازية، فلم تكن تخطر للبعث ببال. أما ما نفذه البعث بعد عام 1963 في سوريا من إصلاح زراعي أو تأميمات، فكان بمثابة فتح باب مفتوح.

في نظر البعث، المطلوب هو الوحدة القومية العربية (هذه رأسماله، ورأسماله الثمين تاريخياً والذي جعله يتفوق على الأحزاب الشيوعية ويبقى في نهر الشعب الكبير). وهذه الوحدة مطلوبة، أساساً، كتجسيد لفكرة خالدة مطلقة. أما الاشتراكية، كما يتصورها البعث، فتأتي كإضافة تجمل الوحدة القومية. عندما رأى البعث أن هذه الفكرة تجسدت في وحدة يقودها عبد الناصر ركض وراءها. وعندما رأى أن هذه الفكرة انخلعت عن عبد الناصر ووحدته، ازورّ عنها. ولو ملك البعث إدراكاً ما لآلية السيطرة الإمبريالية، ومرتكزها الأساسي، التجزئة، لبقي مع الوحدة في صيغتها الوحيدة الممكنة، وأعني الصيغة الناصرية.

وإذا كانت المسألة الاجتماعية، في نظر البعث، شيئاً مضافاً إلى الوحدة القومية، فمن نافلة القول إن مسألة ترابط الثورتين، التي تشكل موضوعة رئيسية في فكر عبد الناصر، كانت بعيدة عن منظوراته.

الناصرية والشيوعيون

الأحزاب الشيوعية العربية، على الرغم من التراث الخصب الذي تنتسب إليه، لم تستطع أن تلتقط المسألة المركزية في الثورة العربية، وأعني بالطبع مسألة الوحدة العربية. أذكر قولاً للينين: “الخاصة القومية في الثورة الروسية هي المسألة (رافعة) الثورة”. متاعهم في فهم مشكلات بلدانهم كان كراس ستالين الماركسية والمسألة القومية، مضافاً إليه بالطبع كتاب لينين الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية. كراس ستالين حجب عنهم الحقيقة الواقعية لوحدة الأمة العربية وكونها تشكل أمة واحدة، وضللهم عن رؤية الطابع الشعبي والجماهيري (والفلاحي) لحركة القومية العربية. أما كتاب لينين، الذي كان يبحث في آلية الرأسمالية في المتروبولات وتطورها، وكان موجهاً في الدرجة الأولى إلى فهم الجانب الاقتصادي في الرأسمالية الاحتكارية، فقد حجب عنهم، بفهمهم المبسط له بالطيع، الجانب السياسي في آلية الهيمنة الإمبريالية في المستعمرات، فعجزوا بالتالي عن إدراك الجانب المعادي، موضوعياً، للإمبريالية، في النضال الوحدوي.

إذا أضفنا إلى هذه الاستراتيجية الإقليمية استراتيجيتهم اليمينية، استطعنا أن نفهم لماذا كانت الأحزاب الشيوعية العربية مجرد قوة ضغط ودفع في أحسن الأحوال، ولم تكن قط قوة تغيير.

مركبات هذه الاستراتيجية اليمينية متعددة، منها الاستراتيجية الإقليمية ومتطلبات الدبلوماسية السوفياتية، لكن مرتكزها النظري الرئيسي كان نظرية مرحلية الثورات، مرحلية يكاد يفصل بينها سور صيني، ثورة وطنية ديمقراطية ثم مرحلة اشتراكية. هذه المرحلة، المبنية على جهل تام لمشكلة التخلف وآلية السيطرة الإمبريالية عموماً. وآليتها المميزة في الوطن العربي خصوصاً (كآلية مرتكزة على التجزئة أولاً)، جعلت هذه الأحزاب عاجزة في النتيجة عن الربط الجدلي بين الثورتين القومية والاجتماعية، هذا الربط الذي يشكل، في رأيي، سبباً لتفوق عبد الناصر على كل ما سبقه من أطر يسارية.

لم يكن قومياً تقليدياً

* كيف استطاع عبد الناصر، هذا القومي، أن يتلمس آلية السيطرة الإمبريالية على الوطن العربي ، وأن يربط بالتالي ربطاً جدلياً بين الثورتين القومية والاجتماعية؟

– لم يكن عبد الناصر قومياً عادياً تقليدياً ، بل كان قومياً متطرفاً . هذه السمة، مضافأ إليها ارتباطه الصميم بالشعب (لا بالأمة فحسب) وحسه التاريخي، كفلت لوعيه مزيداً من التقدم ومزيداً من التطرف. لذا فإن كل نظرة سكونية وتجزيئية إلى عبد الناصر لن تكون سوى نظرة سطحية، ومزيفة بالتالي.

عندما كانت الحركة الوطنية المصرية في مجملها، بما فيها اليسار الأكثر عداء للإمبريالية، سجينة أفق إقليمي مصري، أدرك عبد الناصر أن استقلال مصر السياسي الحقيقي الكامل لن يتحقق بالقضاء على النفوذ الاستعماري في مصر، بل لا بد من تصفية هذا النفوذ في الوطن العربي . انطلاقاً من هذه النقطة بالذات نمت بذرة الاتجاه العربي الوحدوي لدى عبد الناصر، لتصبح نزوعاً عميقاً مسيطراً وهاجساً رسالياً . وهذا النزوع بالذات، الذي لم يغفره له الغرب، كان عنصراً أساسياً في عظمة عبد الناصر ونقطة مقتله.

ومن هنا لم تكن الوحدة، لدى عبد الناصر، تجسيداً لفكرة مطلقة أو عودة الأمة إلى وضع سوي (كالبعث)، كما أنها لم تكن نافلة “قومية برجوازية” يمكن قبولها (قبولها فحسب) بعد التحرر والاشتراكية (كالشيوعيين). إنها عملية تاريخية، تتحقق مع النهضة العربية وبها، وهي على كل حال أرضية لا بد منها للاستقلال التام.

هذا القومي المتطرف، الذي توصل إلى المنظور الوحدوي عبر وعيه لطبيعة السيطرة الإمبريالية، ما لبث أن التقط ، بسبب هذا الوعي ، حقيقة كون البنية القديمة للمجتمع تشكل هي الأخرى المرتكز الثاني للهيمنة الإمبريالية. ومن هنا كان الهاجس الثاني لعبد الناصر هو التنمية. وفي محاولته تجديد بنية المجتمع تعمق وعي عبد الناصر أكثر فأكثر بحقيقة الهيمنة الإمبريالية من جهة، واصطدم من جهة أخرى بمقومات وكوابح التنمية متمثلة في الطبقات المستغِلة وفي البنى التقليدية للمجتمع. ومن هنا جاء ربط عبد الناصر الجدلي للثورتين القومية والاجتماعية. ما هو قومي متطرف مرتبط بتحديد ما هو اجتماعي، وما هو اجتماعي يفتح آفاقاً جديدة لما هو قومي ويعطيه محتوى جديداً. ومن هنا نستطيع تفسير انتقال عبد الناصر من فكرة الأمة إلى الشعب ثم إلى الشعب العامل ، ثم إلى الطبقة العاملة، ومن هنا أيضاً ربط عبد الناصر بين الوحدة والاشتراكية، هذا المكسب الثمين لتطور الحركة القومية العربية، وهذا الزخم الذي منح للتيار الاشتراكي . ولهذا كان وعي عبد الناصر متفوقاً على وعي اليسار العربي التقليدي : الاشتراكية ليست نظاماً يضاف إلى النهضة القومية بل هي شرط من شروطها، كما أنها ليست مرحلة مقبلة تأتي بعد التحرر لأنها شرطه في ظل الآلية الجديدة للسيطرة الإمبريالية.

افتقاد الناصرية كنهج

* ما هي أبرز ملامح الوضع العربي بعد غياب عبد الناصر، على الصعيدين الرسمي والشعبي؟

– على الصعيد الشعبي : عندما غاب عبد الناصر شعر المواطن العربي بألم عميق وبخشية من المستقبل. وبعد سنة من غيابه تحولت هذه الخشية، بسبب المزيد من الانهيار العربي الذي نراه، إلى دوار يخالطه يأس وشك صامتان، في آن معاً . لقد شعرت الجماهير العربية، بعد سنة وخلال هذه السنة، بأنها لم تفتقد عبد الناصر فحسب، بل افتقدت عبد الناصر كنهج وعبد الناصر كارتباط لا ينفصم بالشعب.

لكن هذه الحال ، كما أعتقد، ولست أدري، إذا كنت متفائلاً ، لن تستمر.

فعبد الناصر لم يكن هبة مقطوعة من نضال الأمة العربية، بل كان حصيلتها وتتويجها وقد تركها عبد الناصر وهي أكثر نضجاً وأعمق إيماناً بنفسها.

على صعيد الدول الغربية : كان غياب عبد الناصر فرصة كبيرة لهذه الدول لكي تجهز على كل المكاسب التي حققتها الأمة العربية بقيادة عبد الناصر. إن الاحتلال الإسرائيلي، الذي يتمادى، إنما يهدف إلى تعفين الوضع العربي، لكي يتهاوى كبناء رملي ويعود العرب إلى عصر ما قبل عبد الناصر. عملية التعفين هذه مستمرة. ولحظة الانهيار الكبير، التي خطط الاستعمار لتحقيقها في حرب حزيران/ يونيو 1967 وفشلت بسبب موقف الجماهير في 9 و10 حزيران/ يونيو 1967، ترتسم في الأفق. إن هذا يتوقف لا على تحرير الأراضي المحتلة بعد حرب حزيران/ يونيو فحسب، بل كذلك على تحريرها بسرعة. إن الزمن يلعب ضد العرب.

على صعيد مصر: لقد صفيت الناصرية كنهج وأجهز عليها كمؤسسة، وانتهت كارتباط لا ينفصم بالشعب. وتجري الآن أضخم محاولة لتصفية الناصرية كتراث ثوري يقودها محمد حسنين هيكل. إن الشعب المصري يدرك هذه الوقائع، لذا فهو يرد، بروح النكتة العميقة النفاذة لديه، يرد على هؤلاء الذين يعلنون بالأقوال إنهم سائرون على خط عبد الناصر: “سائرون وفي يدهم محاية فوق الخط “.

قد يردّ بعضهم : لم هذا القول وهياكل النظام المصري لا تزال قائمة ؟ التأميم باق والإصلاح الزراعي أيضاً، والتنمية لا تزال تحتل الصدارة، وعبد الناصر بالذات هو الذي قبل مشروع روجرز.

الناصرية على الرف

ولهؤلاء أقول:

1- ما ذكرتموه صحيح لكن المسألة ليست هنا. إن عبد الناصر على الرغم من عظمة كل ما حقق، لم يحقق بعد ما هو مطلوب وضروري وكاف بالنسبة إلى تطور مصر وتطور الأمة العربية. ومن هنا فإن قيمة التجربة الناصرية أنها تخلق دينامكيتها وتتقدم . هذا ما افتقدته مصر الآن كلياً على الصعيد الداخلي. إن ركود التجربة المصرية سيحوّلها إلى نسخة مكررة عن التجربة المكسيكية، وستطويها الإمبريالية بسهولة تحت جناحيها، وستمتص وتذوب كل إنجازات عبد الناصر.

2- لقد قبل عبد الناصر حقاً مشروع روجرز. ولكن لنضع قبول عبد الناصر في إطار تكتيكاته لتصفية آثار العدوان، ثم نقارنها بالتكتيك المتبع حالياً .

كان عبد الناصر يمارس تكتيكات عدة:

– المناورة مع أمريكا، بهدف إضعاف الحلف الإسرائيلي- الأمريكي.

– العمل لكسب أوروبا الغربية.

– العمل لتدعيم التحالف العربي- السوفياتي.

– تجميع كل ما يمكن تجميعه من الطاقات العربية.

– الحرب، وإن محدودة أو صغيرة، على قناة السويس…

ولكن بين هذه التكتيكات، كان تكتيك دعم الحلف العربي- السوفياتي رافعة المعركة الراهنة والحلقة المركزية في مختلف التكتيكات.

بعد غياب عبد الناصر، لم يستغن بالطبع عن تكتيك التحالف العربي- السوفياتي لكنه أنزل إلى مرتبة تكتيك ثانوي، وأصبح الحوار مع أمريكا الحلقة المركزية. أما شعار عبد الناصر: ” ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة “، فقد وضع على الرف. لهذا جرى تمديد وقف إطلاق النار مرة تلو الأخرى ، وليس في الأفق ما يوحي بأن الأمر سيتغير.

مرة أخرى، في هذه المعركة المصيرية، لم نعد نجد نهج عبد الناصر وروحه.

عبد الناصر كما يراه هيكل

3- إذا صرفنا النظر عن الجانب الأدبي والتجاري (حتى لو أحال هيكل كل ما تقاضاه إلى المجهود الحربي) في عملية نشر مذكرات هيكل عن عبد الناصر، فإن عبد الناصر تحوّل في قلم هيكل إلى بطل قصة أو رواية. في قلم هيكل كف عبد الناصر عن كونه رجل قضية وزعيماً تضرب جذوره في أعماق شعبه وفي بطون تاريخه وفي آفاق مستقبله. إنها طريقة، وقد فهمها الشعب بوضوح، لكي يقول هيكل إن عبد الناصر انتهى (حتى وان قال مئة مرة النقيض تصريحاً).

إن هيكل يكتب تاريخ عبد الناصر على طريقة مايلز كوبلاند، وإن من زاوية أخرى. في كتابات كوبلاند وأمثاله كان عبد الناصر الولد الشقي الذي يناكف الغرب يوماً ويصالحه آخر، يضربونه يوماً ويضربهم يوماً آخر… وهكذا. كتابات هيكل كتبت بالروح نفسها وبالمنطق نفسه، ولكن يضيف موجهاً كلامه إلى الغرب: إن غباءكم هو سر كل تاريخ عبد الناصر. لو كنتم أعقل لكان عبد الناصر أعقل. أما تاريخ الذل، الذل الطويل الذي عاناه الشعب العربي فلا يخطر لهيكل ببال. حتى عندما كان يأتي في خاطر هيكل، فهو ليس سوى جزء من هذا الكتاب وفي زاوية الصورة، في الظل.

كيف يمكن عرض علاقة عبد الناصر بدالاس وإيدن من دون أن يوضع عبد الناصر في إطاره الشعبي العربي ، من دون أن تكون في الصورة كل حركة الجماهير التي تهدر من الخليج إلى المحيط؟ “بيع ” التراث، مع تقطيعه وبالتالي تشويهه، إنما يهدف إلى تهشيم الكلية الجامعة لشخصية ناصر وجذوره وتفاعله مع شعبه وتفاعل شعبه معه. هذه الصورة الكلية لشخصية ناصر قد تبخرت. يريد هيكل أن يقول لنا : انتهت، لقد كان عبد الناصر حلماً أو فيلماً ، وها نحن نستيقظ أو نخرج من الصالة بعد موته. لقد كان استثناء ومرحلة عبرت. هذا يعني أن الثورة استثناء ومرحلة عابرة.

الناصرية : القومية الاشتراكية

* ما هي، في ضوء المعطيات الراهنة، آفاق الناصرية؟ وهل يمكن الحديث عن ناصرية بلا ناصر؟ وما هي التيارات التي تتفاعل أو تصطرع داخلها؟

– لكي أجيب عن الفقرة الأولى من السؤال، لا بد من الإجابة عن الفقرة الثانية أولاً . الناصرية ليست شيئاً آخر سوى الحركة القومية العربية، المتحولة إلى حركة اشتراكية، في نضالها التاريخي الطويل في سبيل النهضة العربية والوحدة العربية. ومن هنا، فإن مستقبل الحركة الناصرية هو مستقبل الحركة القومية العربية بالذات، ومن هنا أيضاً أن ثمة ناصرية من دون ناصر وبعد ناصر.

لا شك في أن غياب القائد، بثقله وتاريخيته، سيؤثر في الناصرية، سلبياً، على المدى القريب، خاصة لأن القيادات المحلية الناصرية بشكل عام، وفي ما عدا القطر السوري إلى حد ما وجزئياً، تقف على يمين عبد الناصر من جهة، كما أن وعيها أقل نمواً من وعي عبد الناصر. فإذا أضفنا إلى ذلك كون التنظيم الناصري لا يزال سديمياً إلى حد ما، وأن العقيدة السائدة لدى الجماهير دون مستوى الميثاق، ندرك عندئذ الصعوبات التي ستعانيها الحركة الناصرية على المدى القريب.

أما على المدى التاريخي أو على المدى المتوسط ، فإنني لست بالمتشائم، بل على النقيض من ذلك. فالجماهير الناصرية جماهير تغيير متطرف، وإن لم تكن واعية لتفاصيل هذا التغيير. كما أن المشاكل العربية تزداد إلحاحاً وتعقيداً . إن تراث عبد الناصر، الذي ستجري محاولات محمومة لتزييفه وإفراغه من محتواه الثوري ، سيكون عنصراً إيجابياً ثميناً في استئناف النهوض الثوري ومساعدة الجماهير في النهوض من جديد.

وبصرف النظر عن الاسم والإطار اللذين ستأخذهما حركة الجماهير النامية في المستقبل، فإن التراث والتقليد الناصريين لا بد وأن يشكلا مرتكزاً أساسياً من مرتكزات هذه الحركة. إن حركة الجماهير الجديدة، عندما تكون حركة جماهير فعلية، لا يمكنها إلا أن تنطلق من النقطة التي وصل إليها عبد الناصر، تنطلق من هذه النقطة، مستوعبة كل الإرث الناصري ، لتتجاوزه إلى وعي يناسب ويرتفع إلى مستوى المرحلة التي تعيشها.

إن المنطلق القومي لمسيرة عبد الناصر، وفي هذا المنطلق تكمن جوانب قوتها وضعفها في آن معاً ، جعل الحركة الناصرية حركة شعب عريضة غير متجانسة طبقياً ، تجد فيها أفراداً من بقايا الإقطاع بل أمراء، ونجد فيها أيضاً كتلاً كثيفة من الفلاحين والعمال. ومن الطبيعي، بعد أن يغيب القائد والمعلم والحكم، أن تبرز التناقضات في ما بينها. ولكن لا خوف على هذه الحركة ككل لأن صلبها هو حركة جماهيرشعبية.

سيسعى اليمين الناصري إلى تقديم صورة سكونية للتراث الناصري، وسيجزئه ويقطعه، في محاولة لتصوير النقطة التي سقط فيها عبد الناصر كنهاية مطاف التطور الثوريج، نازعاً هكذا ديناميتها. أما حركة الجماهير الشعبية فستحافظ على دينامية الناصرية وعلى كليتها، جاعلة منها نقطة انطلاق متجدد لصياغة نظرية قادرة على شحذ فعالية الجماهير وتأطير وعي مطابق وشمولي لمستقبل الثورة العربية. لقد بدأت الثورة العربية الحديثة مع عبد الناصر، وإن إكمالها سينطلق من النقطة التي وصل إليها وقضى شهيداً.

لا خوف من المستقبل، على الرغم من ارتسامات الانهيار الكبير والليل الزاحف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى