ولاء ترامب لاسرائيل يقلق اوروبا ويخلخل استراتيجية الامن القومي الامريكي

مؤخراً أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” البنود الأساسية من النسخة المحدثة لاستراتيجية الأمن القومي، مؤكداً أن بلاده تدخل “عصراً جديداً من التنافس”، تتحداها فيه روسيا والصين.

وقال ترامب “إن الاستراتيجية الجديدة تتضمن الاعتراف بأننا دخلنا عصراً جديداً من التنافس، وبأن العالم يشهد الآن مواجهات عسكرية واقتصادية وسياسية”.

وركّزت الاستراتيجية الجديدة على التحديث الكامل للقوات المسلحة الأمريكية، وتوسيع النفوذ الأمريكي في العالم، وفرض المزيد من إجراءات حظر السفر إلى أمريكا، وإعادة النظر في اتفاقيات تنظيم التجارة الدولية، وتنشيط مبيعات الأسلحة بمليارات الدولارات.

اخترنا هنا أن نتحدث بشكل خاص عمّا يخص الشرق الأوسط في استراتيجية ترامب الجديدة، إذ أن قراره عن القدس لا ينبئ بعلاقات جيدة مع العالم الإسلامي عموماً والمنطقة تحديداً.

ولعل الجانب الأهم في سياسة ترامب لعام ٢٠١٨ هو السعي لحل النزاع “الإسرائيلي- الفلسطيني” وفق الشروط الإسرائيلية لإثبات أن عملية التسوية التي ترعاها واشنطن كانت خطأً استراتيجياً للفلسطينيين.

فقرار ترامب بشأن القدس قد عزلَ أمريكا عن بقية العالم كما بدا واضحاً في الرفض الدولي، فأصوات أعضاء مجلس الأمن الدولي كانت بنسبة (١٤ إلى ١)، أمّا الجمعية العامة فكانت (١٢٨ إلى ٩)، رغم محاولات واشنطن الضغط على الدول للتصويت لصالح القرار الأمريكي.

وتنبغي الإشارة إلى أن التخلي عن التعهدات الأمريكية السابقة في الشأن الفلسطيني ودعم إسرائيل بنحو مطلق، جعل الأوروبيين يتساءلون عن جدوى قيادة الإدارة الأمريكية للمعسكر الغربي، حيث تولدت قناعة لدى الأوروبيين أن ترامب يؤمن بأن أوروبا تشكل منافساً لأمريكا وليس حليفاً، وأن على الأوروبيين إطاعة أوامره لأنه يرأس أعظم قوة في العالم! ما يعني زيادة التشكيك في مصداقية أمريكا تجاه أوروبا، وبالتالي تقويض الوحدة عبر الأطلسي وإضعاف الحكومات والمؤسسات الأوروبية.

وبدلاً من السعي لحلّ الأزمات الكبيرة في الشرق الأوسط اتجهت استراتيجية ترامب لدعم السعودية وتجاهل المأساة الإنسانية في اليمن. وما تزال واشنطن صامتة عن هذه المأساة بمنح الرياض وحلفائها الفرصة الكافية لتدمير البنية التحتية اليمنية وتعريض المدنيين لكارثة إنسانية بسبب المجاعة ونقص الدواء. وما بات واضحاً من قراءة الاستراتيجية الأمريكية أن إدارة ترامب غير مهتمة بإنهاء هذه المأساة، ولا تريد أن تستخدم نفوذها في هذا المجال.

وفيما يخص الشأن السوري نرى أن استراتيجية ترامب مازالت غير مستعدة للاعتراف بهزيمة الجماعات الإرهابية وفي مقدمتها “داعش” لأنها باتت عاجزة أمام تحالف (روسيا – إيران – المقاومة) الذي هزم هذه الجماعات في سوريا والعراق وعموم المنطقة.

وفي الشأن الإيراني، تصرُّ إدارة ترامب على تبني استراتيجية تنقض فيها تعهدات واشنطن إزاء الاتفاق النووي، والانطباع السائد عن ترامب والمتحدثين باسمه تكشف أنهم يريدون إلغاء الاتفاق، بدعوى أنه لا يحقق مصالح أمريكا. كما سعى ترامب في هذه الاستراتيجية إلى تكريس سياسة التخويف من إيران أو ما بات يعرف باسم “إيران فوبيا” لبيع مزيد من الأسلحة للأنظمة الحليفة في المنطقة لاسيّما في مجلس التعاون خاصة السعودية.

وأشارت الاستراتيجية الأمنية كذلك إلى مسألة التحالفات الدولية مع واشنطن؛ حيث أرادت عدم الدخول في تحالفات لا تكون الكلمة الأخيرة فيها لترامب، لكنها تعترف ضمناً بنهاية “عالم القطب الواحد” وعودة المنافسة مع الدول العظمى. ومن اللافت أن الاستراتيجية وصفت هذه المرّة روسيا والصين بـ”المنافسين الرئيسيين” لها على الساحة الدولية بسبب تنامي تأثيرهما الجيوستراتيجي.

وإذا صحّ أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تهتدي بعقلية ترامب في كثير من مفاصلها، فالصحيح أيضاً أنها ليست طارئة تماماً على استراتيجيات سابقة لها، وتظل في الجوهر وفيّة لاستراتيجية ثابتة، عمادها إخضاع العالم وتسخيره لإرضاء رغبات واشنطن في شتى الميادين، حتى وإن كانت في أوج الانعزال عن المبادئ الديمقراطية والإنسانية.

واللغة التي صيغت بها الاستراتيجية لا تخفي حقيقة المضامين الفعلية للسياسة الأمريكية، سواء في الداخل على أصعدة انتهاك الحقوق المدنية للمواطن والإخلال بالممارسة الديمقراطية، أو في السياسة الخارجية وحروب التدخل العسكري ومحاباة أنظمة الاستبداد والتخلف.

كذلك فإن عبارات ترامب الفضفاضة التي وردت في الاستراتيجية لا تطمس وقائع السياسات التي تعتمدها الإدارة الراهنة وتتسبب في اختلال علاقة أمريكا مع العالم، وفي عزلتها شبه التامة، كما هو الحال في انفرادها مع تل أبيب في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة.

والاستنتاج الأهم الذي يمكن استخلاصه من “استراتيجية الأمن القومي” هو أن إدارة ترامب تُعلن موقفها رسمياً وتؤيد أمرين متناقضين هما؛ أولاً: الرؤية المحورية التي تنحرف إلى حدّ كبير عن التركيز على “النظام العالمي” ومجموعة القيم التي لابدّ أن تخدم هذا النظام، وثانياً: التركيز الأكبر على الجوانب العسكرية. ولهذا تُعَد إستراتيجية ترامب وثيقةً خطيرة، وإذا ما اتبعتها الإدارة الأمريكية خلال السنوات الثلاث المقبلة، فمن المؤكد أنها ستستمر في إرساء الطريقة المتغطرسة لواشنطن خلال السنوات الثلاثين الماضية، ناهيك عن زعزعة أمن واستقرار المناطق الرئيسية في العالم وفي طليعتها الشرق الأوسط.

ومع الأخذ بعين الاعتبار اللغة التي استخدمها ترامب في إستراتيجية الأمن القومي الجديدة، مثل أن يقول: “سوف نستخدم جميع الإمكانات المتاحة بدون تردد لضمان ألّا تهيمن قوة واحدة على أي منطقة في العالم”، يتضح أن هذه الطريقة في التفكير، تنبع من شخص لا يختلف عمّن وضع السياسة الأمريكية في عهدي “بوش الأب” و”بوش الابن” والتي ارتكزت على شنّ الحروب ضد دول مستقلة وعضو في الأمم المتحدة لتحقيق مآرب أمريكا في العالم كما حصل مع أفغانستان عام 2001 والعراق في عامي 1991 و2003.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى