الأوضاع المعيشية الصعبة في مصر تنعش ثقافة التبرع لدى المقتدرين

تزايدت ثقافة التعاطف الشعبي والاستغناء عن الفائض بين الأسر المصرية بعد تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبنته الحكومة وتضررت منه قطاعات فقيرة كثيرة، لتشهد القاهرة معارض مجانية للملابس وجولات لسيارات توزع معلبات على المارة في المناطق الشعبية ومبردات في مداخل العقارات تعرض طعاما لمن يحتاج من الأسر المصرية.

ورغم أن عددا من الجمعيات الخيرية بمصر يزاول نشاط تجميع المساعدات العينية وتوصيلها لمن يحتاج أو عرضها في معارض للبيع بأسعار محفضة، قد لا تتعدى دولارا واحدا، إلا أن تجربة في حي المطرية الشعبي بالقاهرة تبدو مختلفة، لتصنيفها ضمن المناطق العشوائية التي تعاني انخفاضا في مستوى المعيشة، في تجسيد لمقولة “الفقير بات يساعد الأكثر فقرا”.

ومن المعروف ان برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبنته الحكومة قد تسبب في ارتفاع حاد بمعدلات التضخم لتقترب من 30 بالمئة، لتتضرر الأسر الفقيرة التي تعادل 27 بالمئة من السكان، ولتنشط بالمقابل مبادرات فردية وجماعية هدفها مساعدتهم.

وقد ارتبطت المبادرات الاجتماعية دائما بمصر بالطبقات ذات الدخل المرتفع التي تساعدها على امتلاك الخطوط الحديثة من الموضة باستمرار، أو لديها فائض من الطعام لا تحتاجه، لكن انتقالها للفئات الأقل دخلا يمثل تغييرا في ثقافة المجتمع.

ويؤكد خبراء اجتماع أن الإعلانات المستمرة لجمعيات المجتمع المدني حول ضرورة التبرع بأي مبلغ مالي غيرت الثقافة السائدة وأن النشاط الخيري لم يعد قاصرا على الأغنياء والميسورين فقط وجعلته متاحا للجميع.

ويقول الدكتور رشاد عبداللطيف، أستاذ تنظيم المجتمع بكلية الخدمة الاجتماعية بجامعة حلوان الحكومية، إن تلك المبادرات تمثل ثورة ضد ثقافة الاكتناز التي تسود الأسر المصرية التي تضم بيوتها العشرات من الأشياء التي لا تحتاجها وتحتفظ بها بأماكن غريبة قد تصل إلى تعليقها في أكياس بالشرفات أو تخزينها فوق أسطح المنازل.

ويرى خبراء اجتماع أن طبيعة الإنسان احتكارية في المقام الأول، وتتجسد داخلها الرغبة في الاستحواذ والاكتناز، وتغيرها قد يكون مرتبطا برغبة في تحقيق راحة الضمير والرضا النفسي للمتبرع، أو للشهرة وكسر أوقات الفراغ بمزاولة نشاط مجتمعي.

ويمثل النشاط الخيري لبعض رجال الأعمال أو ما يطلق عليه “المسؤولية المجتمعية” وسيلة للدعاية المجانية والشهرة، وأعطي بعض نواب البرلمان فرصة للاقتراب من أهالي دوائرهم بتوزيع بضائع مجانية أو تنظيم معارض بسلع مخفضة.

ويؤكد عبداللطيف أن الهدف وراء تلك المبادرات، سواء كان الشهرة أو قتل وقت الفراغ أو الرغبة في التخلص من الأشياء القديمة، ليس مهما، الأهم هو العائد منها، فالجائع يعنيه “أن تصبح بطنه ممتلئة بصرف النظر عن هدف من أطعمه”. ويتهم القائمون على المبادرات المجتمعية الأعمال الدرامية بأنها ساهمت في تعزيز صورة سلبية عن التبرع، والقائم به في نهاية العمل يصبح غالبا الشرير أو الفاسد الذي يريد تطهير أمواله، كما خلقت تشككا في أن هناك هدفا سريا غير مشروع من وراء الخير.

ويشار إلى أن من المعتاد أن تنشأ تلك المبادرات في الأماكن الراقية باعتبار أن سكانها لديهم منتجات يتم تغييرها باستمرار ومنازل ذات مساحات أكبر للتخزين، على عكس مواطني المناطق الشعبية التي قد لا تتجاوز مساحة سكن بعضها غرفة واحدة ولا يمتلكون ما يستغنون عنه.

وتسعي بعض الجمعيات الخيرية لتوحيد جهودها بجمع الفائض وعرضه في منصة إلكترونية واحدة لعرض جميع المنتجات وتوضيح كيفية الحصول عليها، أو عرضها في ما يشبه الأسواق حتى يتحول النشاط من الصورة الفردية إلى الجماعية.

وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في زيادة تلك المبادرات والاطلاع على تجارب الآخرين، واستفادت الجمعيات الخيرية في مصر من تجربة جمعية المحاربين القدماء في الولايات المتحدة التي وضعت صناديق ضخمة لجمع الأشياء التي لا يحتاجها المواطنون ليتم فرزها وإعادة بيعها بمبالغ زهيدة لا تكاد تذكر.

وانضم الطعام إلى قائمة الأشياء التي باتت الأسر المصرية تفضل استغلال الفائض منها، ليضع ملاك بعض العقارات مبردات بمداخلها لجمع الطعام الفائض من السكان وتدوين تاريخ إنتاجه وصلاحيته، بحيث يصبح متاحا لمن يريد، ودخلت بعض المطاعم على الخط وخصصت وقتا قبل موعد إغلاقها لمن يحتاج لطعام مجاني.

وفي تشرين الثاني الماضي، أطلقت مجموعة من الشباب مبادرة بعنوان “سيارة السعادة” لإطعام غير القادرين من الأسر، ويتجول القائمون عليها بالمناطق الفقيرة لتوزيع الأغذية على قاطنيها.

ودشن بنك الطعام المصري، الذي نشأ بمبادرة من مجموعة رجال أعمال، حملات توعية لأصحاب المطاعم لمطالبتهم بعدم التخلص من الفائض اليومي الذي لم يتم تقديمه للزبائن بالقمامة، وتسليمه لأقرب فرع، بهدف إعادة توزيعه على الأسر المحتاجة والتقليل من الفاقد. ولا توجد إحصائية رسمية حول حجم الطعام المهدر بمصر، لكن خبراء مستقلين يقولون إنها تحتل المركز السادس عشر عالميا بنحو 73 كيلو غراما سنويا للأسرة الواحدة، بينما تصل المخلفات العضوية التي تتضمن طعاما بنحو 12.5 مليون طن من إجمالي 25 مليون طن من القمامة سنويا.

وتقول ريهام محيسن مدير التواصل بجمعية رسالة (جمعية خيرية)، إن نشاط الجمعية أصبح قائما على التبرعات العينية للأسر متوسطة الدخل، والتي لم تتأثر تبرعاتها رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها.

وبحسب بيانات بنك كريدي سويس، المتخصص في تقدير الثروات، شهدت مصر أكبر تراجع للطبقة المتوسطة على مستوى العالم نتيجة الإجراءات التقشفية التي تبنتها الحكومة في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي، بعدما تقلصت تلك الطبقة بنحو 48 بالمئة لينخفض عددها إلى 2.9 مليون شخص بنهاية عام 2015.

وأكدت محيسن أن المبادرات الخاصة بالجمعيات الرامية إلى تعميق ثقافة الاستغناء عن الفائض تزايدت خلال الشهور الأخيرة، وانضمت لها مبادرات فردية من المواطنين أنفسهم بهدف التخفيف عن محدودي الدخل والفقراء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى