أما زالت تُعلّق الآمال على هذه السلطة؟

إن التسارع الكبير للأحداث في الساحة الفلسطينية والتطور النوعي للمخططات الصهيونية لاستكمال السيطرة على فلسطين التاريخية واستهدافها المباشر للقضية وللشعب وللأرض، يعبّر عن الترابط والتنسيق الوثيق بين السياسات والأهداف الامبريالية والصهيونية للسيطرة على خيرات ومقدرات الوطن العربي ونهبها، وتكشف الستار عن انتقال الأنظمة العربية العميلة والتابعة لهم من مرحلة التأييد والدعم غير المباشر لمخططاتهم، إلى مرحلة المشاركة والانخراط فيها بكل الوسائل والإمكانيات وخاصة المالية والعسكرية.

بلا أدنى شك، تلعب السلطة الفلسطينية التي تعتبرها الامبريالية أداة وليس حليف في المنطقة، دور ” المبيض” لسياسات الأنظمة العربية الرجعية، وغيرها من القوى التي تروّج في العلن وبوضوح وبدون خجل للاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني وإقامة العلاقات الطبيعية معه، ويعملون مع هذا الكيان على إعادة ترتيب تحالفاتهم الإقليمية لمواجهة ” العدو المشترك”، حسب زعمهم، أي كل قوى المقاومة وخاصة في لبنان وفلسطين وحليفتهم الرئيسية الجمهورية الإيرانية، بحجة التصدي ” للإرهاب” وخطر التمدد الشيعي ” وكأن الكيان الصهيوني أصبح ” دولة سنية” أو ” حريص على ” الإسلام السني”، إنه في الحقيقة يعمل على وضع الدين الإسلامي في خدمة أهدافه الاستعمارية كما فعل مع الديانتين اليهودية والمسيحية.

إننا أمام ” سلطة” تم تحضيرها وتكوينها وإخراجها من المختبرات السياسية و”الحقوقية” للنظام الامبريالي في وقت كانت فيه وما زالت موازين القوى تميل عالمياً لصالح الحركة الصهيونية و”إسرائيل”، وقد وضعت هذه المختبرات ميكانزم تحللّها وتآكلها وإنهائها والتخلص منها، على هزالتها، عند الضرورة، وفي المقابل لم تدع أي فرصة أو أي بريق أمل لاحتمال تطورها إلى دولة أو شبه دولة في أسوأ الأحوال.

لذا، يتضح حجم الجريمة الكبرى التي أقدمت عليها ” القيادة اليمينية البرجوازية الفلسطينية” استجابة لمصالحها الطبقية بالانخراط في ” مفاوضات الحل السلمي” في مدريد ومن ثم، كنتيجة، قبولها للتفاوض، فقط، على ” الحقوق السياسية للسكان” وموافقتها على ” تأجيل” ( التنازل) للقضايا الجوهرية والأساسية في الصراع (القدس، المياه، الحدود، اللاجئين) إلى مراحل ما سُمي الحل النهائي والتي هي عملياً وفعلياً الشطب النهائي لهذه القضايا مع الإبقاء ليس فقط على الاحتلال وعدم المساس به، بل توفير وشروط وظروف مريحة له تقلل من كلفة احتلاله وتطيل من عمره، مما أدى إلى أن يدفع الشعب وحركته الوطنية الثمن الباهظ والمُكلف من إنجازاته السياسية وحقوقه التاريخية.

لقد وجه العدو العديد من الصفعات ” للقيادة” وسلطتها، وانتهك كافة الاتفاقيات التي قبلت بها ووقعت عليها بهمة وشهية، في البداية ( م.ت.ف) ولاحقاً سلطة الحكم الذاتي، دون المقدرة أو التجرؤ على اتخاذ أي إجراء يتناسب وهذه الإهانات و” الخروقات” تم قضم أجزاء واسعة واستراتيجية من أراضي الضفة المحتلة، وازداد عدد المستعمرين فيها أكثر من 17 ضعف، منذ أوسلو لحد الآن، وها هو الرئيس الأمريكي يعلن أن القدس عاصمة ” لإسرائيل”، و”نتنياهو” يعلن باسم حزبه ” الليكود” ضم كافة الأراضي المحتلة ويعلنها ” أراضي محررة” مباحة أمام مزيد من المشاريع الاستعمارية الصهيونية التي يطلقون عليها ” استيطان أرض إسرائيل”، وكل يوم هنالك قرار صهيوني جديد يعزز ما قبله ويمهد لتنفيذه، في المقابل، التلكؤ والتسويف و” التأني” وعدم الرد الفوري من قبل ” القيادة الحكيمة” مما يضع عامل الزمن سواء بقصد أم لا في خدمة العدو وتسهيل تنفيذ مشاريعه.

لو أن هذه القيادة حقيقة تمثل شعبها وتحرص على مستقبله، لصارحته بعجزها وأخطائها وقدّمت استقالتها بسبب فشلها التاريخي عسكرياً وسياسياً، حيث فشلت في تحديد ورسم خريطة معسكر الأعداء وعولت على زعيمتهم الولايات المتحدة ” كراعي ووسيط”، التي قيل أن مفاتيح الحل بيدها، أغلقت الأبواب أمام نصائح ودعم القوى الصديقة باسم ” القرار الوطني المستقل” وشرعتها أمام الأنظمة الرجعية العربية، وخاصة حكام آل سعود، ورحبت بإملاءاتهم وسمسرتهم للسياسات الصهيونية والامبريالية باسم ” الأخوة والعروبة” مقابل حفنة من الدولارات، واتكأت على ما يُسمى ” اليسار الصهيوني والمعتدلين الإسرائيليين” وفعّلت لجنة خاصة للتواصل مع ” المجتمع المدني الإسرائيلي” لتستعين بهم ضد ” المتطرفين الإسرائيليين” معتقدة أنهم سيقدمون لها ” دولة”  على طبق من ذهب، الشئ الذي فنده الواقع وأثبتت أنه وهم وسراب.

ولكن، كما تؤكد الدراسات العلمية والتجارب العملية لا تتنازل الحكومات والأنظمة عن مقاليد السلطة ولا تتخلى عن الامتيازات التي تستحوذ عليها طوعاً، فرغم أن ” السلطة” الفلسطينية لم تأتِ كنتاج تطور طبيعي لمجتمعنا وكتعبير عن ضرورة تاريخية، بل فرضت عليه، تلبية لضرورات سياسية، أقلها فلسطينية، إلا أنها تمتلك من أدوات ومؤسسات ” الحكم” ما يؤهلها أن تمارس وظيفتها المتفق عليها مسبقاً مع الطرف الآخر ( الاحتلال) الذي لا يمكن له أن يسمح لها أن تؤدي وظيفة ذات بعد وطني – قومي ويحصرها في إطار المصالح الاقتصادية والطبقية للفئات البرجوازية الطفيلية الكومبرادورية التابعة للمراكز الرأسمالية إقليمياً وعالمياً.

إن هذا، بلا شك، يساهم في تعقيد العملية النضالية للقوى الرافضة لاتفاقيات ” أوسلو” من جهة، ضد الاحتلال وكيانه الاستعماري الاستيطاني ومن جهة أخرى، ضد سلطة الحكم الذاتي وممارساتها القمعية، التي منذ تأسيسها شكّلت سياج حامي للاحتلال باسم ” الواقعية والمصلحة الوطنية” وتتهم خصومها بعرقلة جهودها وبرنامجها ” لتطوير” سلطة الحكم الذاتي إلى دولة مستقلة على الأراضي التي احُتلت عام 1967، والذي يشكّل عملياً البرنامج الفعلي لحركة ” فتح” والدائرين في فلكها، ولكافة المراهنين على إمكانية تحقيق قيام ” دولة فلسطينية” عن طريق التفاوض وتنفيذاً للإرادة الدولية، هذه ” الإرادة” التي تتحكم بها الإدارة الأمريكية وأثبتت عجزها وفشلها في كل المناسبات.

من هنا تصبح المسئولية الوطنية الملقاة على كاهل القوى الرافضة لاتفاقيات أوسلو كبيرة، وتتضاعف عندما يُطلب منها أن تجيب على السؤال الأساس: ما العمل؟ وهل تكتفي بالرفض السلبي أم لديها الاستعداد والإرادة للقطع التام مع هذه الاتفاقيات وإفرازاتها؟

إنه من البديهيات أنه عند مطالبة ” السلطة” أن تلغي اتفاقيات ” أوسلو” يعني أننا نطالبها بإلغاء ذاتها، لهذا، لن تقدم على هذه الخطوة، أما مطالبتها بسحب الاعتراف ” بإسرائيل” أو إلغائه، هذا بقدر ما يعبر عن رغبة صادقة لأصحابه إلا أنه أيضاً يعبر عن وهمهم بإمكانية حدوث ذلك، بسبب الترابط السياسي والقانوني بين المسألتين، أي بين الاتفاقيات وقيام السلطة والاعتراف، لهذا تبدو ” الكرة” في ملعب القوى اليسارية والإسلامية وكافة الرافضين ” لأوسلو”، وعليهم أن يباشروا في اتخاذ الخطوات العملية وإلغاء كل ما يساهم في إعطاء الصفة ” الشرعية والوطنية” للاتفاقات الموقعة مع العدو وأولها الانسحاب من ” المجلس التشريعي” واعتباره غير شرعي ناتج عن اتفاقات غير شرعية، وبالتالي رفض دمج أعضائه في عضوية المجلس الوطني، وعدم المشاركة في أي حكومة مهما كان شكلها وليتحمل الاحتلال والطرف الذي سيبقى متمسكاً بالاتفاقيات مسئولياتهم كاملة أمام الشعب والعالم.

هنا يوضع المجلس الوطني والمجلس المركزي واللجنة التنفيذية أمام مسئوليات تاريخية، وعليها أن تقرر إما الانحياز للموقف الوطني – القومي، وتعلن إلغائها لاتفاقيات ” أوسلو” وكل ما تبعها من اتفاقيات وما نتج عنها من مؤسسات، وبهذا تؤكد على الضرورة التاريخية لوجودها وتعلن أنها هي قيادة الشعب الحقيقية، وإما تنحاز إلى السلطة وامتيازاتها وتتحوّل إلى مؤسسات تخدم مصالح طبقية، وبالتالي تفقد مبررات استمرار وجودها كمرجعية وطنية، مما يحتم إنشاء جبهة وطنية تضم كافة القوى التي لها رؤية سياسية موحدة وتتفق على برنامج سياسي نضالي يطلق عنان النضال ضد الاحتلال بكل أشكاله، وفي مقدمتها الكفاح المسلح، ويطبق بشكل خلاق مبدأ القيادة الجماعية وعدم تكرار سياسة الفرد والتفرد التي جلبت لشعبنا الولايات والمصائب.

بلا شك هذا سيخلق أزمة، ولكنها أزمة ثورية، أزمة الانتقال إلى مرحلة ما بعد ” أوسلو”، وسيتم تحرر البديل الثوري من قيود المراحل السابقة بقيادة جريئة مخلصة لديها الاستعداد لدفع ثمن العودة والتحرير.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى