” أحِبُكِ يا سارة، دعيني أظلُ في قلبك، فأنتِ حياتي، سارة.. لا تهجريني ، سارة. لقد تركتِ في قلبي أثرا لا يمّحي أبدا”.
هذه الأغنية التي كانت تتردد في الأعراس الجزائرية، يتذكرها الملازم أندرياني بعد أربعين عاما ليعود إلى الجزائر وقد تحررت من الاستعمار الفرنسي، مدفوعا بحنين جارف ليتذكر عبر شوارعها وحاناتها، الأيام السوداء التي عاشها مع النقيب أندريه دوغورس في فيلا سان أوجين التي لم يخرج منها أحد حيا. ” فهي لم تكن منزلا، كانت بابا مفتوحا على الهاوية، شرخا يشق قماشة العالم ليقود إلى العدم”.
يروي الملازم أندرياني أحداث الرواية المثيرة ليكشف عن شخصية النقيب دوغورس الذي كان يشرف على تعذيب السجناء الجزائريين في سجون الفرنسيين في الجزائر. النقيب الذي يعيش صراعا هائلا في داخله بين تعاطفه مع طاهر أحد قادة جبهة الإنقاذ الوطني الجزائري، وبين واجبه كعسكري، عليه تنفيذ مهمته، والقبض على رجال المقاومة، وتعذيبهم للحصول على المعلومات، خاصة وأنه ذاق عذاب السجون والمعتقلات خلال الحرب العالمية الثانية. يقول الملازم أندرياني: .. كل ما هو خارج عن التقلبات الحرجة لروحك لا تبالي بها. في الحقيقة، إن العالم لا يهمك، يا سيدي النقيب. أنت لا تهتم إلا بكل ما قد يلوُث صورتك التي رسمتها وأجللتها. أنت النقيب”أندريه دوغورس”، أليس كذلك، المقاوم والمنفي بعيدا عن وطنه في سن التاسعة عشرة، والناجي من معركة”ديان بيان فو” ومعتقلات”فيات مينه”. أعطاك التاريخ، لباقي عمرك، شهادة الضحية الرسمية، وتعلقت بصورة بائسة بهذه الشهادة. لم تعرف سوى إنهاك نفسك، دون داع، في تطوير التمييزات الدقيقة التي ليس لها أي معنى، ما هو نظيف وما هو وسخ…”…” كنت تقول: أنا أعرف ماذا يعني معتقل، يا هوراس. بعد بضعة أيام لن نثق في أي من رفقائنا. وسترى الأنسان عاريا”. وهو الذي كان يقول أمام جنوده: أيها السادة، إن العذاب والألم ليسا المفتاحين الوحيدين لسبر أغوار الروح. بل هما، أحيانا، بلا جدوى. لا تنسوا أن هناك مفاتيح أخرى: الحنين، الكبرياء، الحزن، العار، الحب. انتبهوا جيدا للشخص الماثل أمامكم. لا تتشبثوا بآرائكم دون فائدة. ابحثوا عن المفتاح. يوجد دائما مفتاح”.
بأسلوب سردي جميل، مخاطبا النقيب، يكشف الملازم عن هذه الشخصية القلقة التي عاشت دورين يتصارعان في ذاتها، في رواية” حيث تركتُ روحي” للكاتب وأستاذ الفلسفة جيروم فيراري، الذي لا يكفّ، كما قال كريستين روسو في صحيفة لوموند، في هذه الرواية عن سبر أغوار الروح الإنسانية في أشد زواياها ظلمة وأكثرها التواءً بأسلوب محتدم ومتقن وعاطفي.. إنها حكاية شخصين ورفيقي سلاح أنجبتهما الحرب. وقد صدرت عن دار مسكيلياني للنشر، ترجمها محمد صالح الغامدي، ونالت جائزة تلفزيون فرنسا لأفضل رواية لسنة 2010 .
كان حلم النقيب القبض على طارق الحاج ناصر المعروف بطاهر، أحد أبرز رجالات المقاومة. وكذلك القبائلي الذي استسلم بعد تهديده بجلب أخته وأمه. كان إعجابه بطاهر كبيرا، لكنه كان يخشى النظر في عينيه، ويخفضهما تحت وطأة العار الذي أثقله. يحادث نفسه “إنه غبي. منذ القدم. غباء هذا الرجل يسبب له الدوار. إنه كامل بصورة رائعة”.
وعندما أخبره الملازم بأن طاهر شنق نفسه، اعتراه ألم فادح وهو يردد بصوت مكسور: سلبته مني يا أندرياني، سلبته مني. كان يدرك في أعماقه قذارة هذه الحرب التي شوهته وشوهت علاقته بزوجته البعيدة وابنته رغم حنينه ِإليهما. يردد في لحظات يأسه: أنا ضباب، تعفّن معسول يتسرب إلى كل مكان. أنا الذي أفسدت ألوان الخلق. أقطّر للعالم سمومي والجمال يحيد عني. ويلجأ في لحظات ضعفه إلى الكتاب المقدس، لكنه لا يجد ضالته، ويخبر زوجته في إحدى رسائله عن الإله الذي لم يجده: كم وجه لديه يا جان ماري؟ هل هي متعته في ألا يتمّ التعرف عليه كي يضللنا ويحيّدنا عنه ونحن نعتقد أنا نبحث عنه؟ هي هو سيّء يفرح برؤيتنا نتساقط؟ هل هذه طريقته في الثواب على ضعفنا وحبنا….. السلطة والمنطق سلّحا يدي، وأعطياها قوتها. لكن هذه اليد سقطت، غير قادرة وميتة، ولم أستطع منعها من ألا ترتفع مطلقا. ولكن هو، يا جان ماري، القادر على كل شيء؟ ألا يستطيع أن يمنعها من ألا ترتفع مجددا أبدا؟ ألا يستطيع جعلي أرفض ذهني لا رفضه هو؟……… إلا أنني أصلي له. أريد منه فقط أن يسمح لي بالعودة، للحظة فقط، حيث تركتُ روحي.
وتنتهي الرواية بالراوي، الملازم، وهو يقول للرقيب الذي أحبه وكرهه في ذات الوقت:… في هذا الحلم، والذي هو حلمك أيضا، سيدي النقيب، كانت اللحظة التي اقتربت فيها منك من أجل ضمّك إلى قلبي كأخ. لم تعد تنبذني. تركت نفسك تأتي إليّ، تهتزّ من النحيب الصامت. وأنا سعيد جدا سيدي النقيب، لأني فهمت أن حلمنا لن يحررنا أبدا. لن نترك بعضنا أبدا. وهذه هي اللحظة التي أنحني فيها بلطف، صوبك كي أتمتم في أذنك: وصلنا إلى جهنم، سيدي النقيب.. وقد استجيب لك.
رواية نفسية جميلة تسبر أغوار النفس البشرية في لحظات ضعفها، حين على المسؤول أن يقوم بواجبه العسكري أو ينضم إلى المقاومة.