اصدار جديد.. سيوف مقدسة: مراحل الجهاد ضد الغزو الصليبي

في هذا الكتاب، يتناول المؤلف، تاريخ الحروب الصليبية، تلك التي ابتدأت في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، واستمرت حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر. ويستعرض الكاتب أهم مراحل الصراع الإسلامي-الصليبي، موضحاً أهم التغيرات والتطورات التي تزامنت مع كل مرحلة.

في بداية كتابه، يُثير جيمس واترسون، نقطة مهمة بخصوص النظرة النمطية للحروب الصليبية في كتابات المؤرخين والمفكرين المسلمين الذين عاصروا بداياتها وإرهاصاتها الأولى. يؤكد واترسون أنه، وفي الوقت الذي اعتبر فيه الغربيون أن هزيمة الجيش البيزنطي في موقعة ملاذكرد في عام 1071م، كانت هي السبب المباشر الذي لفت أنظار أوروبا إلى الشرق الإسلامي، وأنها كانت مقدمة لسلسلة من الأحداث والتداعيات التي أفضت إلى خطبة البابا أوربانوس الثاني المشهورة في كليرمون في عام 1095م، والتي دعا فيها صراحةً إلى بدء الحروب الصليبية، فإنه وعلى العكس تماماً من ذلك السياق، فإن المسلمين لم يربطوا ما بين الحدثين، ولم يفكروا أبداً في كون قدوم جحافل الصليبيين إلى بلادهم، كان رد فعل منهم لهزيمة أبناء عمومتهم من البيزنطيين أمام الأتراك.

ويستشهد المؤلف على ذلك بمجموعة من النصوص المهمة، والتي وردت في بعض المصادر التاريخية المعاصرة مثل: “ذيل تاريخ دمشق” لإبن القلانسي، و”الكامل في التاريخ” لإبن الأثير.

وبعد أن وضح واترسون تلك النقطة، شرع في إلقاء الضوء على حالة الاضطراب السياسي التي شهدها المشرق الإسلامي، قُبيل قدوم الحملات الصليبية في نهايات القرن الحادي عشر الميلادي/ الخامس الهجري، حيث انقسام السلطة ما بين الخلافة العباسية والخلافة الفاطمية، وكيف أن الخلافتين صارتا مجردتين من كل تأثير ونفوذ، بعد أن استولى السلاجقة الأتراك على مجريات الحكم في بغداد من جهة، وتحكم الوزراء ورجال الحرب الفاطميون في خلفائهم بعد وفاة الحاكم بأمر الله، من جهة أخرى.

بعد ذلك، تطرق الباحث إلى المواجهات الأولى التي وقعت ما بين الصليبيين والسلاجقة، وكيف أن الأتراك قد استطاعوا بسهولة القضاء على طلائع الجيش الصليبي، التي تم إرسالها إلى المشرق في عام 1096م، والتي تكونت في معظمها من العامة والأقنان.

ويشير واترسون إلى أن وصف تلك الحملة، بأنها كانت حملة الأقنان، هو وصف غير دقيق، لأن هناك عدداً كبيراً من المقاتلين المشاة قد اشتركوا فيها، كما أن 500 فارس أوروبي كانوا من بين جنودها الذين تم الفتك بهم على يد السلطان السلجوقي قلج أرسلان.

ورغم إشادة المؤلف، بتكتيكات السلاجقة الاستخباراتية المتميزة، التي استخدموها في سبيل إنهاك قوات الحملة الصليبية الشعبية، إلا أنه يؤكد على أن تلك التكتيكات قد فشلت فشلاً ذريعاً في معرفة أخبار الجحافل الصليبية التي كانت تتجمع شيئاً فشيئاً في شمال الأناضول، حتى وصلت أعدادها إلى درجة عظيمة لا يمكن تخيّلها.

ويحكي واترسون، كيف أن قلج أرسلان، وفي أثناء حروبه المريرة في مدينة ملطية الواقعة في شمال شرق الأناضول، قد فوجئ بأخبار عبور الفرنجة لمضيق البوسفور وقيامهم بحصار عاصمته نيقية.

وبرغم رجوعه السريع لإنقاذ عاصمته، إلا أنه لم يستطيع فك الحصار عنها، فسقطت المدينة العظيمة في يد القوات الصليبية والبيزنطية المتحالفة.

أما قلج أرسلان، فقد تراجع وبدأ في تجميع قواته من جديد، وهاجم الصليبيين في ضوريليوم، ورغم مفاجأته للعدو، وإمطاره بالسهام والرماح، إلا أن القائد الصليبي بوهيموند قد استطاع الحفاظ على تمركز قواته، وتصدى بنجاح للهجوم التركي، وانتهت المعركة بمقتل ما يزيد عن ثلاثة آلاف مقاتل سلجوقي.

بعد ذلك يشرح الباحث، كيفية تقدم جحافل الصليبيين إلى بلاد الشام، حيث كانت تلك المنطقة تعاني آنذاك من حالة انقسام وتنافر ما بين المكونات البشرية الرئيسة التي تقطن بها، حيث توزعت في بلاد الشام العديد من العرقيات والإثنيات المختلفة التي عملت كل منها على الانطواء على نفسها ومالت إلى عدم الاشتراك في وحدة سياسية واحدة، مما سهل من تقدم الصليبيين في بلادهم.

ويزعم المؤلف أن بعض تلك الطوائف قد اشترك في مساعدة الصليبيين بشكل مباشر، سواء عبر تقديم المعلومات لهم، أو من خلال مهاجمة الحاميات الإسلامية التي تقبع في مدن الشام، وكان للمسيحيين خصوصاً، دور مهم جداً في ذلك، حيث قدموا مساعدات جمة للصليبيين أثناء محاصرتهم لمدن مثل، أرتاح وطرسوس، مما دفع بحاكم أنطاكية إلى إخراج المسيحيين من المدينة عندما اقترب الصليبيون منها، خوفاً من انضمام المسيحيين إليهم.

بعد ذلك يشرح واترسون خطوات وتفاصيل الغزو الصليبي لمدينة أنطاكية، والصعوبات التي واجهها القائد الصليبي بوهيموند في سبيل ذلك، وكيف انهارت الجيوش العربية والتركية بسهولة أمام الغربيين، وهو ما يفسره المؤرخ الانجليزي بالروح الدينية المشتعلة التي تمكنت في قلوب الفرنجة، وكيف أن تلك الروح لم تكن في هذا الوقت منتشرة بين صفوف الأتراك، الذين كانوا لا ينظرون إلى الحرب على كونها منافسة دينية في المقام الأول. وقد نتج عن تلك الحالة، وحدة صف الصليبيين، وهي تلك التي وصفها واترسون بقوله “كان الصليبيون يملكون وحدة الهدف، والتي جعلت الرجال والخيول يتحركون كوحدة واحدة، أما الأتراك فكانت هجماتهم بدون هذا التوحد لا طائل من ورائها”.

ويذكر واترسون أن الفشل الذي تعرض له السلاجقة في أنطاكية، قد حاول بعض المؤرخين المسلمين، تبريره من خلال ما ذكروه من حدوث خيانة من قبل الفاطميين، وكيف أن حكامهم قد بعثوا بالرسل إلى الفرنجة، يعرضون عليهم اقتسام بلاد الشام فيما بينهم، وهو ما تمخض عن استيلاء الفاطميين على القدس بعد ذلك.

ويؤكد واترسون زيف تلك الأقوال، التي روّج لها بعض المؤرخين من ذوي الهوى السني المعادي للشيعة الفاطميين، من أمثال ابن الأثير.

ويقول واترسون معلقاً، على حادثة استيلاء الفاطميين على القدس” “والتصور الأقرب إلى الأذهان هو أن استيلاء الفاطميين على القدس في يوليو(تموز) عام 1098م، كان مجرد رد فعل لاحتمال هجوم الفرنجة على جنوب بلاد الشام، أقرب منه إلى أن يكون جزءاً من اتفاق بين القاهرة والصليبيين لتقسيم المشرق”.

ردود أفعال العالم الإسلامي

بعد أن استعرض المؤلف الظروف والأجواء التي وقعت فيها الحملة الصليبية الأولى، ينتقل بعد ذلك إلى مناقشة ردود الأفعال الأولى التي صدرت عن العالم الإسلامي، بجناحيه السني والشيعي. ويذكر واترسون أن الصليبيين بعد أن انتهوا من غزو أنطاكية، اندفعوا تجاه القدس، ولكن سيرهم إليها اتصف بالبطىء والتمهل، وذلك لمعاناتهم في تدبير المؤن والأغذية التي يحتاجون إليها.

وكانت بعض المدن التي يمرون فيها، تقدم لهم بعض المؤن والأغذية في سبيل عدم الاحتكاك بهم وعدم معاداتهم.

أما أول المدن التي هاجمها الصليبيون بعد أنطاكية، فكانت هي معرة النعمان في سوريا، والتي سقطت في أيدي المهاجمين بعد أن جشمتهم الكثير من المجهودات ومن الوقت.

في هذه الفترة، كان الفاطميون قد تأكدوا من نية الصليبيين في الهجوم على القدس، ولذلك عملوا على سحب الحامية الفاطمية الضعيفة الموجودة في مدينة الرملة، وبنوا خططهم على أساس ترك المهاجمين في اندفاعهم تجاه المدينة المقدسة، ثم العمل على قطع الطريق عليهم في منتصف فلسطين.

وإكمالاً لتلك الخطة، قام الفاطميون بتقوية حامية القدس، بأربعمائة فارس، كما قاموا بإفساد جميع مصادر المياه التي سيمر عليها الجيش الصليبي، وفي الوقت نفسه، طردوا المسيحيين من المدينة، خوفاً من قيامهم بمساعدة الجيش المهاجم.

ورغم الشجاعة والبسالة التي أبداها المدافعون عن المدينة، إلا أن ذلك لم يمنع من سقوطها في نهاية الأمر، بعد أن استخدم الصليبيون الحيلة والمكر، فقسموا هجومهم على السورين، الجنوبي والشمالي، واستغلوا قلة عدد الرماة الفاطميين، فاستطاعوا اختراق دفاعاتهم والدخول إلى المدينة.

ويعمل واترسون بعد ذلك، لشرح المجهودات الضخمة التي قام بها الفاطميون، في سبيل استعادة القدس، فيذكر أنه في عام 1099م، وبعد سقوط المدينة، جهّز الوزير الفاطمي الأفضل شاهنشاه، جيشاً كبيراً، وسار به نحو مدينة عسقلان، وتقابل هذا الجيش مع الجيش الصليبي المنتشي بفتح المدينة المقدسة.

ويصف واترسون الهزيمة المنكرة التي تعرّض لها الفاطميون في تلك المعركة، وكيف تم سحق هذ الجيش بمنتهى العنف، وتكبدت عناصره خسائر فادحة.

وفي عام 1101م، تجددت المعركة ما بين الصليبيين والفاطميين، ورغم الاستبسال الفاطمي في تلك المعركة، إلا أنها انتهت بهزيمتهم مرة أخرى، بعدما فرّ الفرسان البربر من أرض المعركة.

وفي عام 1102م، وقعت المعركة الثالثة ما بين الطرفين، عندما قاد شرف بن الوزير الأفضل، الجيش الفاطمي لمهاجمة قوة صليبية صغيرة العدد تحت قيادة بلدوين، في مدينة الرملة، وقد استطاع الفاطميون في تلك المرة الانتصار على أعدائهم.

ويشير واترسون إلى المحاولة التي قام بها الوزير الفاطمي الأفضل شاهنشاه، لعقد تحالف سني شيعي، ما بين الفاطميين من جهة ودمشق من جهة أخرى، من أجل ما وصفه شاهنشاه وقتها “بالحفاظ على أراضي الإسلام والشعوب الإسلامية”، وهو الأمر الذي تحقق فعلاً، في عام 1105م، عندما انضمت قوات السلاجقة من دمشق إلى الفاطميين في رام الله، ودخل الطرفان في معركة مشتركة ضد العدو الصليبي.

كما أن المؤلف يشير إلى أهمية دفاع الأسطول الفاطمي عن مدن بلاد الشام الساحلية التي لم تكن تمتلك في هذا الوقت أي سفينة حربية، وهو الأمر الذي نتج عنه تعطيل وعرقلة التقدم الصليبي في مدن الساحل الشامي.

وعلى الجبهة السلجوقية، وقع انتصار كبير للمسلمين على يد السلطان قلج أرسلان في عام 1101م، عندما تمكن من هزيمة جيش صليبي يتألف من بضع مئات من آلاف المقاتلين، الذين غادروا القسطنطينية واستولوا على مدينة أنقرة ثم توجهوا إلى أنطاكية.

واستكمل قلج أرسلان جهوده، بتحطيم جيشين صليبيين آخرين، ويقال إن الإمبراطور البيزنطي، كان يرسل بأخبار ومخططات تلك الجيوش إلى السلاجقة، بهدف حفظ توازن القوى ما بين الأتراك والفرنجة، خوفاً من أن يتمكن أحدهما من غزو إمبراطوريته.

عماد الدين زنكي ونور الدين محمود

 بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى مرحلة أسرة زنكي التي اضطلع أفرادها بدور كبير من أدوار الجهاد والكفاح المسلح ضد العدو الصليبي.

يذكر جيمس واترسون، في البداية، الظروف التي صاحبت ظهور عماد الدين زنكي، وولايته للبصرة، ومشكلاته المتعاقبة مع كل من السلطان السلجوقي والخليفة العباسي. ثم يشرح جهود زنكي الحربية ضد الصليبيين، وانتصاره على الملك فولك ملك بيت المقدس وأسره وسيطرته على قلعة بعرين الحصينة، مما جعل منه بطلاً مسلماً في نظر جميع مسلمي بلاد الشام.

ويشيد واترسون بصفات زنكي القيادية، حيث يصفه بقوله: “كانت له من الصفات والمقوّمات الشخصية، جعلته قائداً للرجال والجنود بالسليقة، فقد كانت لديه من قوة التحمّل والجلد ما جعل في مقدوره أن يقطع أنحاء بلاد الشام كافة طولاً وعرضاً طوال ثمانية عشر عاماً في حملاته العسكرية”.

وكانت أعظم انتصارات زنكي العسكرية، هي فتحه لإمارة الرها في عام 1144م، وانتصاره على أميرها جوسلين الثاني.

وفي خضم استعداداته لمواصلة الحرب ضد الفرنجة، تم اغتيال زنكي بشكل مفاجئ على يد خادمه المسيحي، وذلك في 14 سبتمبر أيلول من عام 1144م، أثناء حصاره لقلعة جعبر الواقعة على نهر الفرات. وقد أدى ذلك إلى تبعثر جيش زنكي وتمزق قواته، حيث ذهب كل قائد من قادته ليفرض سيطرته على جزء من أجزاء الدولة، وبدا جلياً أن الحرب الأهلية أو استعادة الفرنجة لزمام الموقف هي النتيجة الأكثر احتمالاً.

ووسط كل تلك الظروف الصعبة، تمكنت أسرة زنكي من التعامل مع الموقف الصعب بحنكة، فقد تم تقسيم الدولة إلى قسمين، فحكم سيف الدين غازي الموصل، بينما سيطر نور الدين محمود على حلب.

ويتعمق واترسون في الحديث عن نور الدين محمود تحديداً، وذلك لكونه البطل المسلم الذي ورث مسؤولية أبيه الشهيد في النضال ضد الصليبيين في بلاد الشام، ويصف المؤلف نور الدين، بقوله: “كان ورعاً وأكثر تحفظاً، وجديراً بالثقة عن والده، وتفسّر لنا هذه الخصال أسباب نجاحه، والتي تمتد كثيراً إلى ما هو أبعد من ميادين القتال، ولماذا كان قادراً وبنجاح ملحوظ على تسخير واستنهاض الروح الدينية واستمالة العلماء إلى قضيته”.

كانت بداية عمليات نور الدين الحربية، بهجومه على جيش جوسلين الثاني، الذي حاصر الرها، ممنياً نفسه باستعادتها، بعد وفاة محررها الشهيد. وقد استطاع نور الدين في تلك المعركة، أن يقضي تماماً على الجيش الصليبي، وأن يُلحق به هزيمة فادحة، وبعدها وجّه اهتمامه إلى عقد تحالف سياسي-عسكري مع دمشق، فتزوج من عصمة الدين خاتون ابنة حاكم دمشق معين الدين أنر.

ذلك التحالف، نتج عنه تحرك الحملة الصليبية الثانية إلى المشرق، ففي عام 1148م، تحرك الآلاف من الجند الفرنجة إلى المشرق، واختاروا مدينة دمشق لتكون هدفاً لهم، فضربوا عليها الحصار، ولكن مساعيهم خابت في النهاية، بعد قدوم الإمدادات البشرية من الموصل وحلب، وتعرضت الحملة الصليبية للفشل الذريع في نهاية المطاف.

وبعد أربعة أعوام من انتصاره في دمشق، عاد نور الدين محمود مرة أخرى إلى تلك المدينة غازياً إياها، حيث تمكن من دخولها وضمها إلى ممتلكاته الواسعة المتناثرة في شمال الشام.

وقد توفى نور الدين في 15 مايو أيار من عام 1174م، بعد أن لعب دوراً مؤثراً في رحلة الصراع الإسلامي-الصليبي. ويصف المؤلف هذا الدور بقوله: “أعاد نور الدين محمود تسليح السنة أخلاقيا ًومنح جهادهم قوة مادية، وكانت انتصاراته في ميادين القتال بطبيعة الحال، عنصراً أساسياً في هذا الإنجاز، ولكن العدالة التي سادت في المدن التي يحكمها، وورع وتواضع قائد الحرب المقدسة، كانت كلها عناصر حيوية في تحقيق هذه الانتصارات”.

صلاح الدين الأيوبي ودوره في مواجهة الصليبيين

بعد ذلك يتناول واترسون الدور المهم الذي لعبه صلاح الدين الأيوبي وأسرته في جهاد الصليبيين، فيبدأ بالحديث عن التاريخ المبكر للأيوبيين وكيف أن تلك الأسرة الكردية، قد ظهرت على مسرح الأحداث السياسية في المنطقة، للمرة الأولى، عندما قدمت الحماية لعماد الدين زنكي أثناء حروبه مع الخلافة العباسية. ولذلك فإن زنكي قد حفظ لهم جميلهم، واختار كلاً من الأخوين نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه ليصبحا من أهم قادة جيشه.

ويتعرض المؤلف بعد ذلك إلى الظروف التي تزامنت مع نشأة صلاح الدين وشبابه، وكيف أنه شارك في القتال ضد العدو الصليبي منذ نعومة أظافره، سواء كان ذلك، أثناء صد الحملة الصليبية الثانية على أسوار مدينة دمشق، أو عندما صاحب عمه شيركوه في الحملة التي جرّدها نور الدين محمود لمصر، والتي كان الغرض المباشر منها هو منع احتلال الصليبيين لها.

ويبيّن المؤلف الدور الكبير الذي لعبته الأقدار في ارتقاء صلاح الدين لكرسي القيادة والزعامة، حيث يستشهد واترسون بعدد من النصوص التاريخية التي تؤكد أن صلاح الدين كان رافضاً لمصاحبة عمه، في حملته الثانية على مصر، وأنه لم يشارك في تلك الحملة إلا بعد أن أمره نور الدين شخصياً بذلك.

وفي مصر، يوضح واترسون كيف استطاع شيركوه أن يتخلّص من الوزير الفاطمي ضرغام، ثم يبيّن خيانة شاور للعساكر النورية، مما نتج عنه التخلّص منه، وانفراد شيركوه بالسلطة في الديار المصرية، وتوليته منصب الوزارة بتكليف مباشر من الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله.

ويبين الباحث الكيفية التي آل بها حكم مصر إلى صلاح الدين، عندما توفي شيركوه، واختار العاضد ابن اخيه صلاح الدين ليحل محله في منصبه، وبمرور الوقت تمكن الفتى الأيوبي الكردي من الاستيلاء على السلطة في مصر، وقضى على نفوذ المناوئين له، ثم ضرب ضربته الكبرى في عام 567ه، عندما أسقط الدولة الفاطمية وخطب في المساجد للخليفة العباسي.

بعدها يستطرد المؤلف في وصف العلاقات ما بين صلاح الدين في مصر من جهة، ونور الدين في حلب من جهة أخرى، ويذكر عدداً من المواقف التي كادت أن توقع الفتنة والخلاف ما بين الرجلين، ويستعرض بعض الروايات التاريخية التي تطرقت لتلك الخلافات.

وبعد وفاة نور الدين محمود، يشرح المؤلف الجهود التي قام بها صلاح الدين لمحاولة حشد المقاتلين المسلمين في كل من مصر والشام تحت راية واحدة، وعمله على الاستيلاء على كل من دمشق وحلب وحمص، ونزاعاته مع ورثة الزنكيين في حلب والموصل، والطرق السياسية والهدن والتحالفات التي قام بها سلطان مصر معهم على مدار اثني عشر عاماً متواصلة.

ويبيّن الكاتب أن تلك الفترة لم تشهد انتصارات كبرى من جانب صلاح الدين على الفرنجة، بل إنها مع العكس، قد شهدت واحدة من أعظم هزائمه، تلك التي وقعت على يد ملك بيت المقدس بلدوين الرابع في موقعة تل الجزر.

ويستعرض كذلك العلاقات المضطربة ما بين صلاح الدين من جهة وقلاع الحشاشين في سوريا وفي مصياف تحديداً من جهة أخرى، حيث يذكر عدداً من المحاولات التي كاد فيها الحشاشون أن يقتلوا صلاح الدين، وكيف أنه توصل معهم في نهاية الأمر إلى صيغة اتفاق، بموجبه لا يتعرض الأيوبيون لنفوذ الحشاشين في مقابل أن يكفوا عن محاولات اغتياله.

ويوضح واترسون الأسباب التي قادت صلاح الدين إلى موقعة حطين، ألا وهي وفاة الملك بلدوين الرابع الذي كان يميل إلى التهدئة والتعقل، ووصول جي دي لوزينيان الذي يميل إلى الحرب إلى عرش المملكة، والهجمات المتكررة التي قام بها أرناط على الحجاج المسلمين المتجهين إلى مكة والمدينة.

وفي 1187م، حشد صلاح الدين قواته النظامية ومن انضم إليها من العناصر التركمانية والمتطوعين، فوصلوا إلى عشرين ألف جندي، وتحركوا صوب بحيرة طبرية، والتقوا هناك بالجيش الصليبي، واستطاع صلاح الدين من خلال السيطرة على الماء العذب أن يجبر الفرنجة على القتال وهم عطشى، مما ساهم في هزيمتهم في المعركة، التي اشتهرت في التاريخ باسم معركة حطين.

بعد ذلك توجّه صلاح الدين إلى بيت المقدس، وقام بفتحها، ويذكر واترسون أن هناك عدداً من المؤرخين الذين انتقدوا توجه صلاح الدين إلى القدس، بدلاً من مدينة صور الاستراتيجية، والتي كانت الميناء الرئيس الذي يقدم منه الصليبيون من أوروبا. ويفسّر واترسون موقف صلاح الدين، أنه كان متسقاً مع صورته كمجاهد يخوض حرباً دينية ضد أعدائه، وأنه لم يكن بوسع القائد الكردي أن يحرر صور ويترك بيت المقدس.

بعد هذا يذكر واترسون الأحداث المتلاحقة التي وقعت بعد قدوم الحملة الصليبية الثالثة في عام 1191م، وكيف أن الجانبين قد تبادلا الهجوم على بعضهما البعض لمدة تقترب من السنتين، حتى انتهى الأمر بالاتفاق على عقد الصلح، الذي عُرف بصلح الرملة في سبتمبر أيلول من عام 1192م. وبموجبه تم السماح للحجاج المسيحيين بالحج إلى بيت المقدس، وتم الاعتراف بسيطرة صلاح الدين على عسقلان، بينما وضعت عدد من المدن الساحلية الشامية في قبضة الصليبيين.

بعد ذلك يتناول واترسون الأحداث التي أعقبت وفاة صلاح الدين، وكيف تفرقت أملاكه على ورثته، والكيفية التي استطاع بها أخوه “العادل” أن يصبح أعظم الأمراء الأيوبيين، والطرق السياسية التي لجأ إليها لتجنب الحملة الصليبية الرابعة في عام 1202م، وكيف أن ابنه الكامل قد وجد نفسه في مواجهة الحملة الصليبية الخامسة التي حطت رحالها في دمياط بمصر، وأنه في سبيل الوصول إلى السلام، قام بالتنازل عن جميع الأراضي التي فتحها صلاح الدين، ومنها بيت المقدس مما عرضه إلى سخط وغضب رجال الدين المعاصرين له.

ويستمر المؤلف بعد ذلك في عرض أهم ملامح الصراع الأيوبي الصليبي، حتى يصل إلى فشل الحملة الصليبية السابعة التي قادها الملك الفرنسي لويس التاسع، في مدينة المنصورة، وكيف أن المماليك والذين كانوا قد صاروا في هذا الوقت قوة عظمى في بلاد الشام ومصر قد تخلصوا في أعقابها من توران شاه، أخر ملوك الدولة الأيوبية، ليبدأ بعد ذلك العصر المملوكي.

كيف كتب المماليك، كلمة النهاية للوجود الصليبي في المشرق؟

 في الفصل الأخير من كتابه، يستعرض جيمس واترسون العلاقات ما بين المسلمين والصليبيين في العصر المملوكي، وكيف أن تلك الفترة قد شهدت تدخل أحد القوى الحربية الجديدة إلى المنطقة، وهي قوة المغول القادمين من أواسط وشرقي آسيا.

يستعرض المؤلف الهزائم الكبرى التي ألحقتها القوة المغولية، بالممالك والإمارات الإسلامية في إيران والعراق وبلاد الشام، ويبيّن بعدها كيف أن الصليبيين أنفسهم كانوا هدفاً محتملاً للاستهداف المغولي، عندما أرسل لهم هولاكو قائد الجيش المغولي طالباً منهم هدم أسوار مدينة عكا وتقديم ثلاثة آلاف فتاة للترفيه عن جنوده.

في تلك الظروف العصيبة التي مرّت بها المنطقة، كان من المنطقي أن يحدث تحالف أو تقارب في وجهات النظر ما بين المسلمين والصليبيين ضد المغول، ولذلك فإن السلطان المملوكي سيف الدين قطز قد توصل إلى اتفاق مع صليبيي عكا، بموجب ذلك الاتفاق، تم السماح بمرور جيش المماليك المتوجه لقتال المغول في أراضي الصليبيين، كما تعهد حكام عكا بتقديم المساعدة والإمدادات والمؤن لقطز أثناء حربه.

وبالفعل استطاع المماليك الانتصار على المغول في موقعة عين جالوت في عام 1260م، وأتبعوا انتصارهم هذا، بالاستيلاء على بعض المدن الشامية وطرد المغول الغزاة منها.

التحالف المملوكي الصليبي لم يبقَ قائماً لفترة طويلة، حيث يؤكد واترسون على أن القوة الكبيرة التي حظيت بها الدولة المملوكية في عهد السلطان الظاهر بيبرس، قد مكّنتها من ضرب المناطق القليلة المتبقية في قبضة الصليبيين في بلاد الشام. ففي عام 1267م استطاع بيبرس استعادة مدينة أنطاكية الحصينة، وبذلك تم إنهاء الوجود الفعلي للصليبيين في شمال بلاد الشام.

ويُظهر المؤلف المحاولات التي جرت في سياق عقد تحالف مغولي-صليبي ضد المماليك، فيتكلم عن الحلف الذي تم تدشينه ما بين الأمير الإنجليزي إدوارد والأمير المغولي أباقا خان، وكيف أن بيبرس قد استخدم بعض الطرق الدبلوماسية لإفشال ذلك الحلف، حيث قام بعقد هدنة مع الأمير الإنجليزي لمدة عشرة أعوام، قبل أن يرسل له من يغتاله بخنجر مسموم، ليتخلص تماماً من الأخطار التي قد تأتي من جانبه.

ويتابع واترسون وصفه لمجهودات المماليك العسكرية ضد الصليبيين، بتناوله لشخصية السلطان قلاوون، الذي استكمل الخط الذي بدأه بيبرس من قبله، فاستعاد طرابلس من قبضة الصليبيين في عام 1289م، وفي عام 1291م، وضعت الحرب المقدسة أوزارها عندما تمكن قلاوون من فتح مدينة عكا الحصينة، واستتبع ذلك فتح مدن صيدا وبيروت وصور، وتم السماح لمن تبقى من الصليبيين بالعودة إلى أوروبا، ليسدل الستار بذلك على حرب متواصلة استمرت لفترة تزيد عن المائتي عام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى