المجتمع المغلق .. والمجتمع المفتوح
كنّا في أحاديث سابقة ، هنا ، قد استخدمنا مصطلحيّ “المجتمع المغلق” و “المجتمع المفتوح” ، في سياقات قراءاتنا لمواضيع متعدّدة في السّياسة و الاجتماع ، إلّا أنّنا لم نكن قد وقفنا بالتّفصيل الضّروريّ لما يقتضيه مضمون المصطلحين من روابط سياسيّة داخليّة و خارجيّة ؛ اعتقاداً منّا ، أو ظنّاً ، أنّهما مصطلحان مألوفان، و مفهومان متداولان في طرائق التّفكير المعاصرة ؛
وما كنّا لنرى ضرورة إفراد حديث حول ذلك ، لولا أنّها انضافتْ أحداث سياسيّة و إقليميّة أخيرة سريعة و متسارعة تجاوزت “معقوليّتها”- إلّا في كونها قد تمّتْ – و لو في واقعيّة غير مباغتة ،فبدت بالنّسبة إلى البعض مبهمة أو غير مكتملةِ “الرّواية” في توقّعات “النتائج” .. لما أثارت من ردود أفعال لم تصل إلى أيّة عقلانيّة سياسيّة مفترضة ، بما هي كانت ردود أفعال عاطفيّة و خافتة و بائسة و تافهة لا تعبّر ، فعلاً ، عن حجم التّطوّرات الواقعيّة و لا تتناسب مع الحدث ، بما هو هذا الحدث تعميقاً تاريخيّاً و سياسيّاً لواقع اجتماعيّ أو مجتمعيّ ، في مجتمعاتنا المغلقة أمام الحدث المعاصر في أسبابه و حاضره و ماضيه .
إنّه بقدر ما تعبّر عليه مجتمعاتنا من سذاجة تاريخيّة و محدوديّة في الحضور العالميّ ، بقدر ما يتطاول علينا العالم الغربيّ ممثّلاً بنظام عالميّ حاكم و مستهتر بالضّعفاء بما أتاح التّاريخ الحضاريّ للآخر الذي تفوّق غصباً ، و لكنْ بالعقل ، أيضاً ، علينا ، من ظروف موضوعيّة أتاحت له إمكانيّة هذه المعاملة العسفيّة مع قضايانا ، و استثمار تخلّفنا التّاريخيّ الذي يعبّر عنه نمط المجتمعات السّياسيّة “المغلقة” ، بصفاتها المتردّيّة ثقافيّاً دون خط الثّقافة العالميّ الذي يُقاس بالانفتاح العقلانيّ على معطيات الحضارة المعاصرة ، في مختلف جوانب هذه الحضارة و إسهاماتها في تكوين الشّخصيّة الثّقافيّة الاجتماعيّة العالميّة ، التي تمثّل نواة المجتمع المفتوح .
و سنقرأ هنا الرّوابط الواقعيّة المعروفة و غير المعروفة و العلاقات المباشرة بين “الاجتماعيّ” التّاريخيّ و “المجتمعيّ” المعاصر و نتائجها السّياسيّة المؤكّدة .
لم يستطع الفكر العربيّ المعاصر ، بعد ، أو أنّه لا يستطيع ، أن يعرف كيف يقرن النّتائج المحتملة لمفاعيل “الاجتماعيّ” و “التّاريخيّ” و أثره و نتائجه المباشرة و غير المباشرة في “السّياسات” ، و إلّا لبَدَتْ تلك الأحداث التي تتقاطر علينا كما هي بالفعل نتائج “منطقيّة” جدّاً ، لما قد تقدّم لها من مقدّمات تاريخيّة يمكن قراءتها ، ببساطة ، اجتماعيّاً و سياسيّاً في ضوء ما كانه تاريخنا الخاصّ من “سبب” أدّى إلى هذه الانقطاعات الحضاريّة عن عالم صار ، في إطار نظامه المعاصر ، ينظر إلينا ، كمجتمعات و أمم و دول ، على أنّنا هامشيّات عالميّة قابلة للتّعديل و التّطويع و إعادة الهندسة الجغرافيّة و السّياسيّة ، نظراً لما تنطوي عليه مجتمعاتنا من قابليّات تكوينيّة للامتصاص ، بسبب انغلاقيّتنا المجتمعيّة التي تهدّدنا نحن ، و لا تشكّل بالنّسبة إلى “الآخر” أيّ تهديد يُحسب له حساب .
لقد أثارت الأحداث الإقليميّة المتسارعة شهيّة الفكرة الأصليّة التي تقول ببعض تعليل ما نحن اليوم عليه من انتظار آخر لقدر سياسيّ جديد يحلّ علينا ، نحن العرب و المسلمين ، و كأنّه استكمال لسلسلة من الأسرار التي تُفصح عن مكنوناتها في تاريخ المكان .
لقد دخلنا ، حقيقةً ، مرحلةً تاريخيّة شفّافة جدّاً من اجتياح “الصّواب” الواقعيّ(!) الخارق لكلّ الأيديولوجيّات السّياسيّة التّقليديّة ، و المُبطل للأوهام ، فأصبحنا في حاجة واسعة و منظّمة للإجابة على أسئلة جديدة بدأت صياغاتها بالتّكوّن العالميّ المستجدّ ، و ذلك من أجل تعليل المظاهر السّياسيّة في هذه المنطقة من العالم و قراءتها ، على ضوء معطيات علوم السّياسة لعلّنا نستفيد ، أخيراً ، درساً معاصراً في السّياسة العالميّة نحتاجه اليومَ كما كنّا نحتاجه دوماً في ماضي الأحداث .
يعتمد النّظام العالميّ المعاصر ، في معاملته الدّونيّة السّياسيّة لنا ، على كوننا مجتمعات و دول قابلة للثّني و الطّيّ و ربّما للحذف أيضاً ، بكل ما توحي به هذه المصطلحات من حسّيّة مباشرة في الإدراك .
غير أنّه من الضّروريّ ، أيضاً ، و لكي لا نبالغ في مظلوميّاتنا السّياسيّة المعاصرة ، أن ننظرَ بواقعيّة ، و بدون تعنيف ذاتيّ ، و لكنْ من دون توهّمات على سوء “الآخر” ، أخلاقيّاً ، و حسب ، إلى أنّنا نشكّل ، بالفعل ، نماذج مجتمعيّة ما زالت لم تدخل سياق السّيرورة المعاصرة ، نتيجة انغلاقها الذّاتيّ الإراديّ- ناهيك عن الموضوعيّ- في عالم منفتح انفتاح الهواء على الهواء .
و قد يبدو أنّه آن الأوان لإنشاء المباحث الدّرسيّة المتفرّغة و المتخصّصة بطبيعة مجتمعاتنا القاصرة حضاريّاً ، نتيجة قصورها السّياسيّ و الاجتماعيّ و الثّقافيّ ، لعلّنا نكون ، نحن ، المقدّمات التّاريخيّة الضّروريّة لمستقبلٍ مختلفٍ لأجيال مجتمعاتنا القادمة .
ربّما كان العالم المعاصر ، حتّى اليوم ، لا ينظر إلينا كمجتمعات و دول و أمم ، و ربّما لا يمكن لأحد التّقدير في كيفيّات نظرة هذا العالم إلينا ، على رغم أنّنا نستطيع استشفاف دلالات فلسفة “الآخر” في النّظرة إلينا من خلال الأسلوب الذي ينتقيه ، حصراً ، لنا ، للتّعامل معنا على كلّ هذه الاستهتاريّة التّاريخيّة المفجعة .
لا نبتعد أبداً عن جادّة الحقّ عندما نقول إنّ المشكلة الأساسيّة هي فينا نحن و ليست في “الآخر” ، إذ أنّه لو لم يكن هذا “الآخر” عينه ، و أنّه لو كان غير ذلك ، فإنّه بالتّأكيد لن يكون له سلوكٌ مختلف أو مغاير عمّا لهذا ، معنا ، اليوم.
و في المبدأ ، فإنّه لا يمكن للمجتمع المنقسم ثقافيّاً و دينيّاً و أيديولوجيّاً و عاطفيّاً ، أن يشكّل متّحداً اجتماعيّاً تاريخيّاً و ثقافيّاً ، عمليّاً و سلوكيّاً ، لكي يكون قاعدة حقيقيّة للدّولة المعاصرة .
و لقد شهدت المجتمعات العربيّة الإسلاميّة غير المنسجمة ، حولنا ، و على مختلف الجهات و الاتّجاهات الجغرافيّة جنوباً و شمالاً و شرقاً و غرباً بالنّسبة إلى ما يسمّى بالوطن العربيّ الكبير ، شهدتْ روايات مأساويّة منذ أواخر القرن العشرين حتّى اليوم ، فكانت مؤخّراً “ثورات الرّبيع العربيّ”(!) تتويجاً لهذا المشهد الذي ما زال يتكوّن ، حيث لم يُنجز بعد ، حتّى اليوم .
فالصّومال و السّودان و ليبيا و تونس و مصر و العراق و لبنان و سورية ، أمثلة ، و حسب ، على هذا الواقع ، ذلك لأنّ القائمة مرشّحة للزّيادة و الإضافة ، إلى ما لا يُمكن ، بعد ، التنبّؤ به من نهايات لهذا التّصدّع الزّلزاليّ البنيويّ في المجتمعات و الجغرافيّات و الدّيموغرافيّات و السّياسات ؛ و ما حَدَثُ “بيت المقدس” الأخير سوى استثمار بسيط و أوّليّ ، كما نرى ، لنتائج هذا التّصدّع العربيّ الإسلاميّ المقبل على فصولٍ أخرى للرّواية .
الملاحظ هو أنّه تجري سقوطات للمقدّسات ، كلّها ، حولنا ..
و تسييس حرمة “القدس” مثالٌ ، فقط ، لمن يُحسن القراءة بعد أن يضع عن عينيه النّظّارة الإسلاميّة أو المسيحيّة ليرى بالعين الحيّة ما يجري على أعمق و أبعد من هذه التّتويجات المحصِّلاتيّة لمقدّمات هي ما يجب أن يكون محلّ التّساؤل و التّأمّل و التّفكير .
لا تملك مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة أيّة ثقافة وقائيّة تتفادى بها عبث النّظام العالميّ المعاصر ، و تشكّل ، في الوقت ذاته ، حصناً يجمع إليه قوى الجغرافيا العربيّة لتشكّل سدّاً مانعاً في وجه الطّوفان المعاصر لهذا العالم .
إنّ الثّقافة هي أبعد ممّا يعتقد البعض في التّأثير في تشكيل الصّورة و الهيئة التي تمنح شعوبنا و واقعنا ، الهيبة المطلوبة في وجه الأقوياء .
و إذا كان هذا يعني أنّنا شعوب غير متعلّمة و غير مثقّفة ، فهذا أقلّ ممّا نريد أن يصل إلى القارئ .
نحن ، في الحقيقة ، مجتمعات ما نزال في مرحلة ما قبل الحداثة ، تلك الحداثة التي تجاوزها العالم المعاصر ، نهائيّاً ، في الفكر و السّياسة و الثّقافة ، منذ الحرب العالميّة الأولى ، إلى ما سمّي ما بعد الحداثة في طريقة التّفكير و الثّقافة و القياس و الحكم ، فيما نحن ما نزال منقطعين إلى ذكرياتنا في تناحرات دول الخلافة العربيّة الإسلاميّة ، منذ غياب نبيّ الله محمد بن عبد الله و حتّى اليوم .
أفكّر أحياناً بأنّه حتّى بيولوجيا “الرّئيسيّات” الطّبيعيّة لا تُجيبنا على أسئلة مطروحة بالنّسبة إلى عضويّة ثقافة مجتمعنا المعاصرة ، و بالنّسبة إلى تكوين هذا المجتمع الذي ينغلق على بدائيّة ثقافيّة في الكثير من جوانب معتقداته و قيمه و سلوكه ، تنتمي إلى تكوين “طبيعيّ” أقصى ما يُرشّحها هو إلى “الثّدييات”(Mammalia) و ليس إلى “الرّئيسيّات”(primates) .. !؟
هذا ليسَ تندّراً و لا تهكّماً ؛ فلننظرْ إلى “الأمم المتحضّرة”(!؟) كيف تتعامل مع شعوبنا و قضايانا الطّبيعيّة منها و المصيريّة .. ، و سندرك البعد الواقعيّ لما نقول . و الشّواهد التي انداحت في هذه الحرب ، على الملأ ، و ما استتبعتْهُ الحرب من نتائج “إقليميّة” ، هي أكثر من أن تُعدّ أو تُحصى ، و هي أقرب الأمثلة الحادّة في هذا السّياق !
لقد تخطّى العالمُ معنا اعتباراتنا لأنفسنا ، و هذا ممّا يبعث على السّؤال المباشر : هل نحن ، اليومَ ، في عداد الأمم الحيّة ؟
و سنجيب نحن على هذا السّؤال إجابة غير مباشرة من خلال استعراض الطّبيعة الاجتماعيّة و السّياسيّة لمفهوم “الثّقافة” في إطار نوعَيّ “المجتمع” ، المغلق و المفتوح ، في نظرة أنثروبولوجيّة و بنيويّة إلى واقعنا الموصوف ، و بخاصّة من خلال تعقّبنا للخصائص الوصفيّة لمجتمعنا و التي تجعل منه مجتمعاً ما قبل حداثيّ ، و هذا إذا أحسنّا الظنّ بمجتمعنا فوق حدود التّفاؤل .
– في المجتمع المغلق :
لن نكرّر هنا ما قد تناوله البعض ، تناولاً سياسيّاً ، بخصوص المجتمعات المتخلّفة و المجتمعات المتطوّرة إلّا ما ندر ، و ذلك عندما نجد أن قيمة الاقتباس أو التّكرار هي قيمة مضافة أو مضاعفة لدلالات الواقع ، من خلال بعض الوقائع و الظواهر التي سنتناولها بالحديث . و على العكس فسوف نبقى نتحرّك في مقصورة المعالم الأنثروبولوجيّة التي توضّح لنا مقدّمات التّخلّف السّياسيّ ، بدلاً من اعتباره فرضيّة معطاة و ناجزة ، ليس لأنّ هذه الفرضيّة كاذبة ، بل على العكس ، لإثبات صدقيّتها و واقعيّتها إثباتاً تطوّريّاً ، يُغلق الباب على جميع المثقّفين الذين تعلّموا في كتاتيب الانغلاق نفسه ، دون محاولاتهم المستمرّة في تسويغ السّياسيّ بالسّياسيّ . و هذ دأب الثّقافة الاجتماعيّة الفارغة و الحاقدة و التي تتصدّى لأيّة واقعة أو ظاهرة اجتماعيّة جديدة ، بالتّجهيل و التّعمية الفكريّة ، بدلاً من اعتبارها مناسبات للفكر الذي عليه أن يتجاوز نفسه ، معرفيّاً ، باستمرار .
نحن يمكننا أن نتلمّس انغلاقيّة أيّ مجتمع بواسطة حدوده و أحكامه الثّقافيّة على مجمل أشياء تتعلّق بطرائق التّفكير و العمل و الاعتقاد و التّديّن و القيمة و الأخلاق .
و نحن أوّل ما نفتقر في مجتمعنا ، إلى تاريخيّة الوعي الذي يتراكم في التّطور الزّمانيّ ليُحدث في كلّ مناسبة تاريخيّة تقتضيها الضّرورة ذلك الانعطاف المسمّى بالقطيعة الثّقافيّة ، التي تؤهّل إلى معرفة علميّة تتناسب مع تطوّرات الوقائع الجديدة .
و لقد كان تاريخ مجتمعنا مصاباً دوماً بالانقطاع بدلاً من القطع التّاريخيّ الثّقافيّ و المعرفيّ ، الأمر الذي منع تاريخيّة الوعي من الوجود و التّواصل و الاستمرار .
و تقتضي “التّاريخيّة” ( Historicism ) تحقّق المراحل المختلفة في سنن التّطوّر الحضاريّ العالمي ، و المعاصرة الدّائمة لمقتنيات الفهم عندما يكون هذا الفهم بواسطة المفاهيم التي اخترعها الآخر و أنجبت منه قيمة عمليّة و نظريّة و أخلاقيّة متقدّمة .
و يفتقر مجتمعنا ، من ثمّ ، إلى ثقافة المرحليّة ( التّمرحل أو التّاريخيّة ) في القضايا التّعريفيّة المسمّاة حدوداً ، فيما نحن يتولّع مجتمعنا بشموليّاته مختلطة الأصول و الفروع في الثّقافة و الإدراك و التّعبير ، ما يعكس جهلاً هائلاً بخصوصيّات المفاهيم و التّخصّصات التّعبيريّة بخاصّة و هذا ما يعني أنّ الثّقافة الاجتماعيّة لم تُبارح ، بعد ، خرافيّتها البدائيّة عندما كانت الرّوح الزّمانيّة غير محدّدة المعالم ، إذ أنّها كانت ترى بالعين الواحدة شتّى المناظر التي تُحيط بوجودها المتوتّر و المهدّد دائماً بالانفصال : الانفصال عن الذّات و الانفصال عن العالم في وقت واحد .
يؤدّي الافتقار إلى “التّاريخيّة” مع الافتقار إلى “التّمييزيّة” الإدراكيّة ، كما وصفناهما أعلاه ، إلى جملة من الاختراقات التي تحقّقها السّذاجة الّلئيمة في بنية مجتمعنا على ما هو في الواقع عليه .
إنّ الانشطار في الدّوائر الصّغيرة المغلقة هو أهمّ صفات المجتمع المغلق ، حيث يُحافظ في دوائره هذه على ذاكرة العزلة و الانعزاليّة المولّدة للخوف و كراهيّة الآخر ، و هما ما يعبّران بدقّة عن الاستعداد الدّائم لدحر كلّ جديد يُحاول أن يخترق حدود التّقليد الكتيمة ، حفاظاً على “نقاء” الوحشيّة البنيويّة التي تؤهّل أصحابها ، كفاعلين اجتماعيين ، لجميع ما هو قادر على أن يُقيم السّواتر العقليّة أمام الثّقافة ، التي من ميزاتها التّشارك و الاشتراك .
ما يُحقّق التّطور و الانفتاح الاجتماعيّ ، هو ذلك الإنتاج الجمعيّ للمفاهيم و الأفكار و الأهداف و الآمال ؛ و هو أيضاً ذلك التّواصل و الانفتاح الدّاخليّ البينيّ على الذّاكرة التّاريخيّة المشتركة ، الكفيلة بتوحيد الرّوح العموميّة المعاصرة ، لإنتاج الأهداف المشتركة .
و هذا أمر لا يتمّ إلّا بعلاقات اجتماعيّة مجرّدة لذاتها ، أوّلاً ، و هي التي تتكفّل ، ثانياً ، بإنتاج الرّوابط المعاصرة الكفيلة ، عبر انضيافاتها المتواشجة و التّبادليّة ، من إنتاج معالم الثّقافة المعاصرة المشتركة بالمفاهيم و اللغة و المصطلحات و الرّموز .. ، إلخ ، و المواكبة لروح العصر و المتطوّرة و المفتوحة و المنفتحة على “الآخر” هنا و هناك .
في التنشئة السّابقة على الثّقافة يمكن لنا أن نكتشف جميع الفصامات المستقبليّة التي ستكون عنواناً ثقافيّاً ، لمضمون بدائيّ في التّربية و التّعليم المنزليّ و الاجتماعيّ المؤسّسيّ سواءٌ بسواء .
إنّ الانشطار الثّقافيّ البنيويّ المجتمعيّ كفيلٌ ، إذاً ، بإنتاج المكمّل السّياسيّ للفكرة الفرديّة على العالم .
إنّ الخوف و الكراهيّة المفضيتين إلى التّعصب التّقاليديّ ، هو السّبب الجوهريّ و الأوّل لإنتاج المفهوم المغلق عن العالم و المجتمع و السّياسة و هو ما سوف يؤسّس ، مباشرة ، لتحدّ ذاتيّ و تحدّ موضوعيّ لرياح التّغيير و الانتقال التي ستتحطّم على أبواب المتاريس الدّاعمة للتّخوم الاجتماعيّة النّاجزة .
يُنتج “التّخلّف” العدوّ الوهميّ الذي يفترضه في “الآخر” . و “الآخر” هنا ، هو الفرد الاجتماعيّ المرتبط ذاتيّاً و قسراً بالحياة المشتركة مع “الآخر” ، أو هو الفرد العالميّ المرتبط موضوعيّاً بالحياة المشتركة العالميّة المؤسّسة للثّقافة العابرة للحدود .
هنا من النّافل القول إنّ شعور الخوف و الكراهيّة و عقدة الاضطهاد و الحداد و النّفور من “الآخر” ، هي ، على الأغلب ، أشياء مرتبطة بالخلق الذّاتيّ الدّاخليّ لها جرّاء الموقف المثيل الذي يتّخذه الفرد ، افتراضيّاً ، من الأغيار و الآخرين.
هكذا يُنشئ الفرد مفهومه على “الآخر” بحسب ما يُكِنُّ هو من مواقف تجاه ذلك “الآخر” . فالصّورة العدائيّة التي ينظر بها إلى “الآخر” ، هي صورة “الذّات” ، في الأصل ، التي أنتجت صورة افتراضيّة عن “الآخر” سوف يُحوّلها السّلوك و الموقف إلى صورة حقيقيّة في صيغة من الفعل و ردّ الفعل في التّراكم الهادئ و المتفاعل و الطّويل .
في هذه الشّروط تنشأ ثقافة مطابقة لعنصرها التكوينيّ الواقعيّ و المحدّد ، و عليها تُبنى نظرة شاملة نحو الأشياء ، يكون أهم ما فيها تلك الحدود الصّخريّة التي يتغلّف بها الفرد الاجتماعيّ ، و منها تتألّف أصغر الدّوائر المغلقة التي تحدثّنا عليها أوّلاً ، لتنشا من بعدها دوائر متكافئة و متشابهة و بأقطار مختلفة و متعدّدة و متناوبة ، بناءً على مركز منغلق واحد و أوّليّ في البنية المجتمعيّة ، فإذا بنا في انغلاقات متوالية تكاد تتطابق لولا ضرورات المسافات الكميّة التي تقتضيها الحركة أو التّحرّك في العلاقات المختلفة في الأبعاد و الكيانات الواقعيّة العمليّة المتعدّدة .
إنّ اختناق الدّيموقراطيّة الذّاتيّة على الصّعيد الفرديّ ، يخنق الجسور الدّيموقراطيّة مع العالم الخارجيّ بأفراده و مواضيعه المختلفة ، ما يعود بالاستبداد الشّخصيّ إلى الذّات نفسها خالقة المحدوديّة ، و هذا ما يظلّ يتردّد إلى الدّاخل و إلى الخارج ، ليخلق عالماً مكتفياً بذاته و لكنّه غريب ، بالمطلق ، عن الصّورة الحقيقيّة للواقع العمليّ في العالم الخارجيّ .
هكذا تنشأ الثّقافة المنغلقة المنتجة للمفاهيم القاصرة و الخطأ على العالم ، و التي تؤدّي إلى المجتمع المغلق الكتيم .
يرافق هذا الواقع في إنتاج ثقافة الجمود و الانغلاق ، غياب الإنتاج الاجتماعيّ الحقيقيّ المكرِّس للقيمة التّبادليّة ، و أعني غياب إنتاج وسائل الإنتاج ، و هو الشّرط الماديّ الضّروريّ و الحاسم لاختلاف صورة العالم في نظر الفرد و المجتمع ، من جهة أنّه يُحقّق تراكماً في القيمة الاستعماليّة و القيمة المضافة إلى رأس المال الصّناعيّ ..
و هو ما يجعل فائض الإنتاج و القيمة سبباً جوهريّاً في إنتاج الثّقافة المعاصرة ، من حيث هو يضيف وقتاً آخر إلى فاعليّة التّفكير و التّأمّل ، و لكنْ ليس بغياب التّمهيد الذّاتي التّربويّ للثقافة المحليّة المنفتحة و المفتوحة على قيم العالم المعاصر .
هذا هو البعد الموضوعيّ لثقافتنا المنغلقة التي أفضت إلى مجتمعنا المغلق ، و بصورة عامة إلى مجتمعاتنا المغلقة في هذه المنطقة العربيّة الإسلاميّة من عالم اليوم .
و في إطار امتناع المشاركة الدّاخليّة و الخارجيّة ، تقود العزلة إلى المفاهيم التي تتقلّص باتّجاه الفرديّة و الذّاتيّة شبه الكاملة ، و التي تتنفّس فقط من مرجعيّاتها المحدودة ، لتصبح هذه المفاهيم المحدودة و المنغلقة هي الأساس الواهم في النّظرة إلى “الخارج” و إلى العالم ، ليبدو هذا العالم ، أيضاً ، عدوّاً ، لأنّه لا يُطابق تلك النّظرة الذّاتيّة الموهومة و المنحرفة إلى الواقع و إلى الآخر و إلى العالم بشكل كلّيّ و شامل .
خلال ذلك تتوسّع أكثر فأكثر ثقافة “الشّفاهيّة” و “العنعنة” و “التّلقين” ، و هي “الثّقافة” الأكثر سهولةً و التي تتمتّع بمرجعيّات مكتوبة محدودة و قليلة ، تعفي الأفراد و الجماعات من واجب و مهمّة الاضطلاع بثقافة العالم المعاصرة المكلفة جهداً و عملاً ، في مجتمع اعتاد تخنّث الإرادات ، الّلهم إلّا عندما يتوجه إلى هدف ارتكاب الجريمة الثّأريّة و الموتورة على أساس الماضي الجامد المستمرّ في الحاضر السّكونيّ القتيل .
إنّ التّبادل التالي بين واقع ثقافيّ جامد و عقل اجتماعيّ جامد و لا تاريخيّ ، يُكرّس ما هو أخطر ما يعانيه مجتمعنا ، اليوم ، من تجمّد مزمن خارج العالم المعاصر و خارج التّاريخ ..
كما و يجعل دخول الغالبيّة الاجتماعيّة في لوثة شعور التّفوّق المعادي على دونيّة مفترضة ، يجعل إمكانيّة التّراكم الطّبيعيّ لِعُرى الاجتماع مستحيلة ، ممّا يُعيد إنتاج الاضمحلال الاجتماعيّ ، الذي يودي بمحاسن و ضرورات الّلحمة النّفسيّة العامّة ( العموميّة ) التي تزيد من واقعيّة التّراكم ، المؤدّي إلى استقرار النّسق الثّقافيّ الخاص بالمجتمع أو بالأمّة أو بالدّولة ؛ و هذا ما يجعل الثّقافة ، على المدى الطّويل ، مجرّد نزعات مشوّهة من وعي العالم الذي دخل في غيبوبة أو موت في مكوّنات الفرد الخارجيّة .
و تعمل الانطوائيّة أو الانعزاليّة الثّقافيّة على إعادة تأسيس و تأثيث البدائيّ في الفرد و المجتمع عن طريق الالتحاق بثقافة الجماعات المسلّحة بأفكار العدوانيّة النّوعيّة ، التي تُحيل الفرد الاجتماعيّ ،إحالة دائمة و متكرّرة إلى المرجعيّة التي تؤمّن له الطّمأنينة و الأمان الحجريّ ، الذي يحتاج لتوفّره كهفاً و مرصداً ، للصّيد و بعض الأدوات الثّقافيّة المحدودة الّلازمة لعمليّة التّفوّق على الفرائس الاجتماعيّة المفترضة ، ما يجعل النّسيج الاجتماعيّ كلّه مهدّداً بالدّخول في حفلة قتل و استئصال كلّما سنحت الظّروف الصّنعيّة بذلك ؛ .
فإذا بالتّطور المفترض يخضع ، ببساطة ، إلى قانون وحشيّ معروف باسم قانون “الانتخاب الطّبيعيّ” الذي ينطبق على العضويّات غير الثّقافيّة و التي تتجاوز عقبات تحقّق قصّة البيولوجيا و الفيزيولوجيا بواسطة شريعة الطّبيعة المحضة .
ينغلق ، إذاً ، مجتمع من المجتمعات ، بثقافته أوّلاً ، ثمّ ينغلق بالنّتيجة المباشرة بنمطيّاته البنيويّة المؤسّسة على درجة الثّقافة ، كما بنسقيّاته التّفكيريّة و الفكريّة و المعرفيّة و العلميّة بجذورها الثّقافيّة ، ثمّ بالتّالي بمؤسّسات المجتمع المدنيّ ذات الطّابع الأهليّ و المقيّد ثقافيّاً ، بحدود و شروط الأسرة و القبيلة و الجماعة السّريّة ، إلى أن يكون مغلقاً بمؤسّساته السّياديّة المزيّفة التي تعمل على نقل مفردات و نظم التّجربة الأهليّة إلى واقع الإدارة و السّياسة في المرفق العموميّ .
من الظّواهر الثّقافيّة المفارقة في الانغلاقات و الاستعصاءات التّاريخيّة في المجتمعات المنغلقة و المغلقة ، كما هو مجتمعنا بطبيعة الحال ، أن نلاحظ ذلك الميل إلى الأحكام النّهائيّة التي تخصّ التّاريخ الماضي ، و كأنّ هذ التّاريخ تأليفٌ حيّ في لحظة الدّراسة المعاصرة و في لحظة متطلّبات مواقف العصر .
تشبه هذه الأحكام النّبوءات التي تميل إليها الثّقافة المحدودة ، بدلاً من بحثها على “المناهج” العلميّة المستقرّة في حضارة الثّقافات العالميّة في نقد الماضي و التّاريخ ..
و تتّخذ هذه “النّبوءات” بُعْداَ سياسيّاً لاهوتيّاً في جوهرها يأخذ من “الميتافيزيقا” حلولاً عمليّة ، لمواجهة أو معالجة مسائل مادّيّة و فيزيائيّة خالصة في الواقع اليوميّ الذي يُلحّ فيه السّؤال .
يُشير ( كارل بوبر ) في كتابه “أعداء المجتمع المفتوح” إلى هذا الأمر ، فيقول : ” إنّ ميتافيزيقا التّاريخ تعرقل تطبيق مناهج العلم المتدرّجة على مشكلات الإصلاح الاجتماعيّ ؛ و هي تحاول [ المناهج ]، فضلاً عن ذلك ، أن تبيّن أنّنا قد نصبح صانعو [ صانعي ] مصيرنا عندما نكون قد توقّفنا عن وضع أنفسنا كأنبياء” .
[ كارل بوبر . المجتمع المفتوح و أعداؤه . ترجمة د. السّيّد نفادي . دار التّنوير للطّباعة و النّشر. لبنان. الطبعة العربيّة الأولى- 1998م . ص(12)].
و يقول : ” و يبدو أنّه يمكن أن نجد باعثاً آخر ، لو أنّنا اعتبرنا أنّ الميتافيزيقا التّاريخيّة تميل إلى تحرير النّاس من ضغط مسؤوليّاتهم .
” و لو علمت أنّ الأحداث تجري على نحو مترابط ، مهما حاولتَ أن تتفادى ذلك ، فإنّك سوف تشعر بأنّك حرّ في أن تكفّ عن مجابهتها . و قد تكفّ ، بصفة خاصّة ، عن محاولة التّحكّم في تلك الأشياء التي يوافق معظم النّاس على أنّها شرور اجتماعيّة ، كالحرب ، أو التّنويه بأمور أقلّ أهمّيّة من الحرب ، مثل طغيان موظّف تافه” .[ المصدر . ص(12- 13) ] .
لسنا هنا بطبيعة الحال في صعيد أن نكتب جميع ما هو من أسباب الجمود التّاريخيّ ، الذي أصاب مجتمعنا بتكوينه الثّقافيّ المتردّي و الذي نعاني اليوم ، كما في السّابق ، من آثاره الوخيمة على طريقة التّفكير و دوافع السّلوك ..
و لكنّنا عملنا على إحاطة بسيطة بالصّفات التّكوينيّة و البنيويّة الاجتماعيّة في ضوء أنثروبولوجيا المعالم الأساسيّة الأقرب إلى مفاهيمنا اليوميّة ، و التي أسهمت قبل غيرها في انغلاقيّتنا التّاريخيّة ، في مجتمع جامد أو متردّد أو متقهقر أو غائب عن ثقافة العالم و معطيات العصر العالميّ ، في إطار من التّهديد العالميّ لنا ، و ممارسة هذا العالم تطوّراته “الطّبيعيّة” أو “الموضوعيّة” على أسس “متحضّرة” ( و متحضّرة جدّاً ! ) و من ضمنها استهلاك الشّعوب المتخلّفة و السّطو عليها و تحويلها إلى توابع ، تدور في فلك جرم الحضارة العالميّة ، فيما تفقد هذه الشّعوب المتدنيّة معه قدرتها على الاستجابة إلى جاذبيّة “الآخر” ، الذي نجهله نحن اليوم بوصفه نتاج تاريخ من الثّقافة المطّردة و التّراكم العلميّ النّظريّ و التّطوّر العمليّ ، في إطار آفاق رحبة لمجتمعات حرّة و منفتحة على المستقبل ، باستثمار الّلحظة المعاشة لإضافتها إلى المخزون المتجدّد ، عبر انضيافاته الدّائمة المكوّنة من كلّ فتح حضاريّ جديد .
إنّ ما تمظهر ، في سورية مع الحرب ، من مفرداتٍ و استجابات تلقائيّة لواقع و ضرورات الحرب الدّاخليّة ، من السّواتر التّرابيّة و الإسمنتيّة و الشريّة و الحواجز “الأمنيّة” و الاختناقات و الاستعصائات الظّرفيّة المكانيّة و الزّمانيّة في حُيوزٍ ، و الخلاءات و العراءات و الفراغات و الموت المشهديّ الشّامل في حُيوزٍ أخرى ، إنّما كان جميع ذلك قد استقرّ و شغل أشكالاً أخرى و مواضع ضمنيّة و خفيّة في الوعي الاجتماعيّ المباشر و في الوعي الخلفيّ ( الّلا وعي) ، ما قبل الحرب ، بحيث أنّ التّظهير الفعليّ لأشكال التّخوم و الحدود الاجتماعيّة المكانيّة و الجغرافيّة و السّياسيّة المباشرة ، إنّما كان موجوداً بصيغ أخرى من الاستعدادات و قابليّات الانفصال و التّحييز و الانعزال في المخيال الاجتماعيّ المنقسم و الممزّق و المنغلق و المغلق على إمكانيّات واقعيّة وجدت انعكاساتها المادّيّة الملموسة و المشهودة ، في الاستحالات العمليّة لحقائق واقع نظريّ لم تكن ممكنة رؤيته بالعين المجرّدة ، و لكنْ كان مرصوداً و مفهوماً و ملموساً في مجازيّات الرّؤية بواسطة العقل النّقديّ الذي استطاع مبكّراً ، في الحقيقة ( نعم البعض رأى اليومَ في الأمس البعيد !)،
معايشة هذه الإمكانيّات و الاحتمالات كلّها على أنّها واقع “مباشر” ، و لو أنّه لم يكن ليمنح ذاته للوعي السّياسيّ السّاذج ، الذي لا يستطيع ربط المجتمع و التّاريخ بالسّياسة ، إلّا عن طريق الصّدمة التّاريخيّة المدويّة كما هذه التي نعيشها و قد أتاحت الحرب تحويلها إلى تفاصيل تقضّ مضجع العقل .
التّعصبُ ، أخيراً ، هنا ، هو الحالة الأبرز التي تتحكّم بمحيط إدراكات الشّخصيّة المجتمعيّة النّمطيّة في المجتمع المغلق ، و هو الأساس في إنتاجات المدارك الثّقافيّة المحدودة ، بل و هو يَضيفُ إلى الانغلاق التّاريخيّ الذّاتيّ و الموضوعيّ الهلوسة العقليّة و الاعتقاديّة الضّروريّة ، لتصنيف هذا النّوع من المجتمعات بمجتمعات الجنون الشّامل و المقيم . أعني العته العقليّ الذي يغزو بنيان الشّخصيّة المجتمعيّة التي يعبرها العالم في كلّ لحظة و يخترقها و لا يترك فيها إلّا الأثرَ الانسحاقيّ الحضاريّ ، و هو (العالم) بوصفه هواء كونيّاً ، للتّنفّس ، لا يُقيم .
– في المجتمع المفتوح :
تعني ” التّاريخيّة ” ، فيما تعنيه ، التّمرحل المتراكم للتّحوّلات الثّقافيّة و العلميّة الزّمنيّة ، بحيث تشهد الثّقافات المنفتحة على الأشياء و على العالم صوراً متحرّكة لنظام التّاريخ الذي يتوجّه في مسيره في خطّ شعاعيّ نحو جهة واحدة هي المستقبل أو إلى الأمام .
و بحسَبِ المناهج المختلفة المتّبعة في رصد حركة المجتمعات التّاريخيّة المنفتحة أو المفتوحة المعاصرة ، فإنّه يمكننا تتبّع خطيّة “عامّة” تطوّريّة للمجتمعات ، اجتازتها في إيقاعات ذاتيّة و موضوعيّة واعية و مفهومة و مثمرة ، تتراوح في عموميّتها بين الشّموليّة و الغالبيّة ، من الوحشيّة إلى الكهفيّة إلى الحجريّة إلى الخرافيّة إلى الأسطوريّة إلى السّحريّة إلى الدّينيّة إلى العلميّة و العلمانيّة و التّكنولوجيّة المعاصرة ، وفق قراءة المنهج الأنثروبولوجيّ الاجتماعيّ التّاريخيّ ؛ أو من المشاعيّة البدائيّة إلى الرّعويّة إلى نظام مجتمع القنانة الزّراعيّة إلى الإقطاعيّة إلى الرّأسماليّة إلى الإمبرياليّة المعاصرة ، وفق قراء المنهج “التّشكيليّ” التّاريخيّ (من “تشكيلة تاريخيّة”) الاقتصاديّ الاجتماعيّ السّياسيّ .
يخضع المجتمع المتحضّر ، المفتوح ، لمبادئ التّراكم الثّقافيّ الذي تؤلف أجزاؤه المتعاقبة ، بعضُها بعضاً ، عن طريق الاستناد و التّساند للمغزى و الغرض و الهدف ، هذه التي تكون قد توحّدتْ في مجرى السّيرورة الاجتماعيّة المقترنة بوعي تاريخيّ متعضٍّ مع الوجود العمليّ ، المستند إلى نزعة اجتماعيّة نظريّة تتميّز بإدراك ذاتها المختلفة ، اختلاف التّفوّق الحضاريّ بدلاً من اختلاف الدّونيّة الذّاتيّة الهادفة إلى إخضاع المكوّنات الاجتماعيّة ، المتعدّدة إخضاعاً دونيّاً و إذلاليّاً متبادَلاً في ما بين الجماعات كما يحصل في المجتمعات المغلقة .
و نحن ، في المجتمعات المفتوحة ، لا يمكننا تمييز شيءٍ أو أشياء تسمّى “مكوّنات” ، و أحياناً على رغم تعدّد الأصول و المشارب و المذاهب القوميّة و الدّينيّة و الاعتقاديّة و الثّقافيّة لأبناء المجتمع الواحد ، و لكنْ تلك التي يجعل منها المجتمع المفتوح مشروعاً واحداً منسجماً ، مع غرضه الواضح الذي يتجلّى بالتّفوّق الشّامل على من عداه من المجتمعات الأخرى ، و من دون الدّخول في أقبية مظلمة للإدراك التّاريخيّ الثّقافيّ ، و أعني من دون نزعات التّعصّب و جنون العته و التّعوّق التّاريخيّ ، بل في حرّيّة مباحة لكلّ من يستطيع إدراك هذه الحرّيّة في العمل و الإنتاج و مراكمة الجدوى بكلّ عناصرها ، التي تتراوح بين إنتاج الذّات الثّقافيّة و إنتاج القيمة الفائضة التي تعود ، بالتّوّزع و التّوزيع على جميع المنتجين و الفاعلين و الهامشيين .
لا يتمفصل المجتمع المفتوح على ذكريات الثّأر و الانتقام التي تجعل من الدّوائر الثّقافيّة المغلقة ، جبهاتٍ متنازعة في “السّلم” و خنادقَ متحاربة في النّزاعات المسلّحة ، كما هو الحال في المجتمعات المنغلقة و مغلقة التّكوين .
نحن لم نقف مع الوعي السّياسيّ الحديث و المعاصر ، في ثقافة أو ثقافات مجتمعنا المنغلق على دوائره المنيعة ، عند بدهيّة أساسيّة و هي أنّ التّاريخ يستطيع إنتاج الثّقافة الاجتماعيّة و السّياسيّة العامّة للمجتمع المفتوح ، الواحد ، فقط إذا اتّكأ على “المعرفة” العلميّة ، أي العقلانيّة النّقديّة ، الكفيلة بنموّ ذاتها و إنماء “الواقع” في إطار الغاية المعرفيّة الحضاريّة المعاصرة .
و من الواضح أنّ هذا الأمر هو من قبيل السّبب – الشّرط لانفتاح الوعي على “الآخر” ، أوّلاً ، بما هو “الآخر” تجربة متقدّمة و قد أثبتت صحّتها بالبرهان العمليّ على التّنمية .
فعلى عكس المجتمع المغلق ، فإنّ المجتمع المفتوح مهيّأ ، بحكم ثقافته الاجتماعيّة ، على التّطوّر الثّقافيّ و المعرفيّ ، من دون أن يجعل كلّ إنتاج موضوعيّ للثّقافة و المعرفة إنتاجاً “مجتمعيّاً” منقسماً و متعدّداً تعدّد التّغاير و التّناقض و التّضادّ .
و لأنّ “العلم” يتواضع كثيراً أمام الحكم على كيفيّات التّطوّر المقبل و آفاقه ، فإنّه لا يُصادر الواقع بواسطة “المطلق” ، الفرديّ و الاجتماعيّ و السّياسيّ ، و إنّما يجعل “العمل” الاجتماعيّ مقياساً للحاجة و الهدف ، في ما يعتمد على تراكم نتائج هذا العمل بعد أن يُضيفها إلى قاعدة ثابتة من القيمة ، بأنواعها المتعدّدة ؛ على عكس المجتمع المغلق الذي يسير بوهم حتميّاتٍ تاريخيّة (هذا بعضٌ من “التّاريخانيّات”) يعتقد أصحابها ، المختلفون في ما بينهم أيضاً ، بأنّها قواعد مطلقة و خالدة على رغم تغيّر المكان و الزّمان .
لا يوجد في المجتمع المفتوح نظريّة ثابتة على التّاريخ . و حيث المجتمع جزء من التّاريخ بلحظته الحيّة ، فإنّه لا يتحوّل إلى تطبيق أو تنفيذ عمليّ لأصول نظريّة ثابتة تزعم أنّها تاريخ ثابت ؛
ففي الّلحظة التي تتّجه فيها “الثّقافة” إلى خرافات التّفوّق و المطلقيّات و الوَقْفيّات و الحصريّات النّوعيّة في الانتساب و الاختيار و الانفراد و التّميّز ، فإنّه في الّلحظة ذاتها تكون المجتمعات قد بدأت طور الانغلاق ؛
و في هذه “الّلحظة” نفسها يبدأ المجتمع الواحد في البحث على تفوّقات داخليّة تتبع النّوع أو الجنس أو الانتماء الوهميّ أو الحقيقيّ ، أو تتبع الفرق والملل و النّحل و غير ذلك ، من أجل تعليلٍ و تسويغٍ ممسوخين و مَرَضيينِ لمفهوم “التّفوّق” الفارغ ، و ذلك بممارسته على “الذّات” ، داخليّاً ، بعدما تمّ الفراغُ من “ممارسته” التّوهّميّة على “العالم” .
غير أنّ “المجتمع المفتوح” يتجاوز جميعَ هذه الخزعبلات التّكوينيّة الثّقافيّة و السّياسيّة المجتمعيّة ، في أفق مختلف و مغاير ، مطلقاً ، بما هو أفق العمل على مجاوزة “الذّات” بتكريس أفضل ما فيها و اختباره عمليّاً و اختزانه و حفظه و اعتماده من أجل النّقلة التّالية في طريق هو عبارة عن نقلات حضاريّة متواليّة ، بدل أن تكون قفزات ناجحة وماهرة وحرفيّة ومتفوقة إلى الخلف..!!؟
و طالما نحن في سيرة ” المجتمع المفتوح ” ، فإنّنا لا نستطيع ، بالطّبع ، أن نظنّ أنّ هذا النّوع من المجتمعات قد خلق لتّوه ، كذلك ، منفتحاً ، من دون أن يمرّ في حقب العطالة و التّعصّب و الوحشيّة الحديثة ، كما هو الأمر بالنّسبة إلى مجتمعنا أو مجتمعاتنا العربيّة- الإسلاميّة ، اليوم .
غير أنّ الفارق النّوعيّ الحاسم بين تاريخيّة مجتمعاتنا و تاريخيّة المجتمعات المفتوحة ، هو في أنّ تلك المجتمعات قد تجاوزت انغلاقيّتها و محدوديّتها و حدودها التّعسّفيّة ، نتيجة ثلّة من عباقرة التّنظير المبكّرين بالنّسبة إلى حجم الزّمن الذي مرّت به تلك المجتمعات في انغلاقها ، فيما نحن ما يزال « مفكّرونا » الدّعيّون غير حاسمين لأبسط قواعد التّنظير الفكريّ التّنويريّ الثّقافيّ أو السّياسيّ ، و ما زالوا بعد أربعة عشر قرناً من “السّياسة” الكيديّة ، يكرّرون ما كان قبل نهاية القرن الأوّل الهجريّ من ممارسات ثقافيّة و سياسيّة انتقاميّة و ثأريّة و انعزاليّة و حاقدة .
تعالوا ، مثلاً ، لنقرأ نصّاً طريفاً و موحياَ ل( فولتير ) (1694- 1778م) من القرن الثّامن عشر ، لنفهم كيف انتقل الغرب من طور المجتمعات المغلقة إلى طور المجتمعات المفتوحة .
و ربّما سيكون هذا النّصّ ( لفولتير ) صادماً للكثيرين ممّن أعيتهم عواطف الالتصاق بالذّاتيّة المتخلّفة و المحدودة ، و التي تشرّع الحقّ على هواها من دون أن تنظر إلى “الآخر” على أنّه ، أيضاً ، على الحقّ ، و لكنْ اختلفت النّظرة و زاوية النّظر ، فكانت معها أن اختلف حتّى الإيمان بالحق و حتّى الحقّ نفسه قد دخل في موجة الاختلاف و القتال .
يقول ( فولتير ) : ” لئن كانت يد النّسيان تطوي بسرعة صفحة الآلاف المؤلّفة من الضّحايا الذين يقضون نحبهم في ساحات الوغى ، فما ذلك فقط لأنّ تلك هي ضريبة الحرب المحتومة ، بل أيضاً لأنّ أولئك الذين يلقون حتفهم بسّلاح العدوّ ، كان يمكنهم بدورهم أن يُنزلوا المصير نفسه بذلك العدوّ ، فضلاً عن أنّهم لم يسقطوا و هم عزّل من وسائل الدّفاع عن النّفس .فحيثما تتعادل كفّتا الخطر و الغلبة ، تنعدم أسباب التّساؤل و الاستغراب ، و تفتر أيضاً مشاعر التّعاطف و الشّفقة .
” ولكن عندما يذهب ربّ أسرة بريء ضحيّة الخطأ ، أو الانفعال الأهوج ، أو التّعصّب ، و عندما لا يكون بين يديّ المتّهم من سلاح للدّفاع عن نفسه سوى فضيلته ، و عندما لا يُجازف المتحكّمون بمصيره إلّا بالوقوع في الخطأ إذا ما قرّروا نحره ، و عندما يُباح لهم أن يقتلوا ، بلا عقاب ، بمجرّد إصدارهم حكماً ، عندئذ ترتفع الصّرخة العامّة ، و يعصف بكلّ فرد الخوف على نفسه ، و يدرك الجميع أنّ حياتهم ما عادت مضمونة الأمان في مواجهة محكمة يُفترضُ فيها ألّا تكون نُصّبت ، أصلاً ، إلّا للسّهر على حياة المواطنين ؛ و عندئدٍ أيضاً تتضافر كلّ الأصوات على المطالبة بالثّأر و الانتقام” .
[ فولتير . رسالة في التّسامح . ترجمة هنرييت عبودي . دار بتراللنّشر و التّوزيع . سوريا- دمشق . الطّبعة الأولى – 2009م . ص(9) ] .
مرّت الشّعوب المختلفة بتجارب قاسيّة و مرّة و دمويّة ، أيضاً ، حتّى رأيناها في مجتمعاتها المعاصرة المتطوّرة على ما هي عليه اليوم ..
و لكنّ الفارق بين شعوبنا و بين تلك الشّعوب ، هو أنّه كان فيها من المفكّرين من يُعلي صوت “العقل” في الاجتماع و السّياسة ، بينما نحن ينحدر مثقّفونا قُدُمَاً في الانزلاقة إلى الهاويّة التّعصّبيّة الفكريّة و السّياسيّة ، في كلّ مناسبة تحتّم عليهم أن يفعلوا العكس .
لقد كانت الحرب السّوريّة ، على ما شاهدناها و عاصرناها ، مثالاً بذيئاً ، فكرّيّاً و سياسيّاً ، فيمن نظّروا لها منذ بدايتها و هم محسوبون على الفكر و الثّقافة و السّياسة و التّقدّم .
– في الاندماج :
يتطلّب تجاوز انغلاق المجتمع ثقافيّاً ، أوّل ما يتطلّب ، الاندماج الذّاتيّ بين عناصر الثّقافة التي يقتنيها مثقّفونا أو يمتلكونها إلى جانب ملكيّاتهم “العزيزة” ..
و لا يمكن لأحد الجزم بمستقبل مجتمعنا بعد هذه الحرب ، و أعني بعد أن تنتهي هذه الحرب .. !؟
إنّه ، تقريراً ، لا يبدو آنّ الدّرس التّاريخيّ قد وصل إلى أدمغة المثقّفين ، بدليل المواقف التي اتّخذها المجتمع بدوائره في الحرب ؛ إذ لا انفصال ، عندنا ، بين المثقفّ و مجتمعه ، و أعني أنّ المجتمع هو الذي يقود مثقّفينا بدلاً من العكس ، إذ من المفترض في الثّقافة و السّياسة انفصالٌ نسبيّ عن خليط العواطف العمياء ، و التّنظير من خارج هذه المستنقعات ، من أجل العمل على إعداد آليّات الاندماج الذّاتيّ للثّقافة ، أوّلاً ، و من ثمّ ليكون للثقافة قدرة و مصداقيّة في التّحويل الاجتماعيّ لاتّجاهات الثّقافة العامّة و تحويرها نحو المستقبل .
في مجتمعنا المغلق تبقى الأسئلة الفكريّة مشروعة ، كلّها ، على الحاضر و المستقبل و آليّات الانتقال . و لا أدري كم من المصيب أن تكون هذه الأسئلة ، بحدّ ذاتها ، هي الموجّه للثّقافة و السّياسة العامّة حالاً بحال .
إنّ التّعصّب الذي هو أساس المجتمع المغلق .. هو الذي جعل هذه الحرب التي نعيش نتائجها ، ممكنة . ” إنّ العنف المسعور الذي يدفع إليه العقل الّلاهوتيّ المغلق ” ( حسب تعابير فولتير ) ، هو ما شهدناه في تفاصيل دوافع و استمراريّات هذه الحرب في كفاياتها الضّروريّة .
و يقول ( فولتير ) : ” إنّ الحقّ في التّعصّب حقّ عبثيّ و همجيّ إذاً ؛
” إنّه حقّ النّمور و إنْ فاقَهُ بشاعةً : فالنّمور لا تمزّق بأنيابها إلّا لتأكل ، أمّا نحن فقد أفنينا ، بعضُنا بعضاً ، من أجل مقاطع وردتْ في هذا النّصّ أو ذاك”.[ المصدر . ص(48) ] .
و عندما لا تنفصل ثقافتنا عن تعضّيها العميق مع الجذور العفنة للوعي و للّلاوعي الاجتماعيين ، لا يمكنها أن تُنتج مستقبلاً فكريّاً مندمجاً مع ظرفه و ضروراته الحاضرة و المستقبليّة ، بحيث تصبح الثّقافة نفسها مكوّناً فكريّاً فعّالاً يساهم في اندماج المجتمع .
إنّ المجتمع المندمج هو تعبير آخر على المجتمع المفتوح ، و العكس أيضاً صحيح .
في الخلاصة ، دعونا نتقيّد بما هو واجب علينا جميعاً ، أوّلاً ، و أعني أنّ الاندماج الاجتماعيّ العامّ ، يتطلّب اندماجاً ثقافيّاً ، أوّلاً ، و هذا يعني أنّه – و هذا ما عنيته بالتّقيّد – علينا أن نبني ثقافة نقديّة شاملة للذّات و للآخر ، تكون جسراً اجتماعيّاً نحو مؤسّسات سياسيّة عادلة .
أُدركُ أنّ هذا المطلب مطلبٌ عزيز و كبير ، و لكنّه صغير بآنٍ واحد ، كما يمكن أن يفهم الجميع ، أمام ما يمكن أن ينتظرنا من مستقبل مغلق ، أيضاً ، يعاود و يعيد إنتاج مجتمعنا المغلق على مرّ الدّهور ، لتكون نهايتنا الحضاريّة انقراضاً شاملاً و ربّما نحن على عتباته ، اليوم ، إذا لم نَرْتَقِ إلى المستوى الحضاري المطلوب !
عندما لا نجد بدّاً من أن نقول ، اليومَ ، ما كان على الجميع أن يقولوه منذ الأمس البعيد ، فهذا يعني أنّنا قد تخلّفنا ردحاً طويلاً عن الحضارة الإنسانيّة التي لا يقف في وجه تخطّيها لذاتها ، باستمرار ، غير الأقوياء .
إنّ مفهوم القوّة العالميّة يقاسُ بالثّقافة و إنتاجاتها الحضاريّة ، أوّلاً ، تلك الكفيلة بتحقيق المندمَج أو المُتَّحَدِ الاجتماعيّ الذي تتبوتق فيه طاقاته من أجل الجميع ، بدلاً من أن تتبوتق فيه طاقات “المكوّنات” الخرافيّة ، فيه ، في مواجهة بعضها البعض .
و الاندماج الذّاتيّ الثّقافيّ كما قلناه أعلاه ، مثلما قلنا على الاندماج الاجتماعيّ ، هو ، أو هما ، الشّرط الحضاريّ الوحيد ، اليومَ ، لانتقالنا من هذا المنغلّق المجتمعيّ الذي أدمتنا حروبه ، إلى المجتمع المفتوح الذي يتنفّس هواءه الجميع بدرجة واحدة و من دون تمييز .
كيف ننتقل (؟) و ما هي الوسائل الانتقاليّة الكفيلة بالانفتاح على “الذّات” كما بالانفتاح على “الآخر” (؟) ، هو ما يمكن و ما يجب أن يكون الاشتغال عليه من قبل جميع “الفاعلين” ، اليومَ ، و سيكون لنا ، نحن ، عودة ، هنا ، إلى هذا الحديث .
من “الاندماج الذّاتيّ” ( الثّقافيّ ) إلى “الاندماج الاجتماعيّ” إلى الاندماج مع “الآخر” ؛ ربّما هنا يتلخّصُ كلّ مستقبل الحرّيّة التي يتطلّع إليها الجميع ، سواءٌ منهم من يقصد و الذي لا يقصد ؛ و ربّما كان هذا هو شرط “الانفتاح” على العالم المعاصر الذي ينجرف في تيّاراته كلّ من لا يرغب أو لا يستطيع .