الصالونات الثقافية الجديدة في مصر.. عود على بدء

اقترنت الصالونات الثقافية في مصر بأسماء لافتة لها إسهام بارز في حركة التنوير منذ مطلع القرن الماضي، فكان هناك صالون الكاتبة اللبنانية مي زيادة وصالون العقاد، ثم ظهر عهد الصالونات الأبرز ببزوغ نجم الروائي نجيب محفوظ الذي تعددت صالوناته على مدار رحلته الزاخمة وكانت مجالسه منارات يرتادها الحرافيش في مقاهي ريش والأوبرا وقصر النيل والفيشاوي وقشتمر وعلي بابا..

لم يلحق نجيب محفوظ بصالون مي زيادة ولم يحضر صالون العقاد لانشغالاته الكثيرة، وعلى الرغم من اهتمامه بإقامة صالون أسبوعي فقد كان له رأي سلبي في الصالونات الثقافية الحديثة التي انتشرت في أواخر القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة إذ وصفها الأديب الحاصل على جائزة نوبل بأنها باتت في معظمها سبيلًا للمنظرة الاجتماعية وقلّ تأثيرها الثقافي.

في السنوات الأخيرة انتعشت حركة الصالونات الثقافية المصرية، فلا يكاد يمر أسبوع دون الإعلان عن عقد صالون هنا أو هناك لمناقشة أعمال إبداعية وعقد ندوات وأمسيات وتكريم أدباء ومبدعين وإقامة فعاليات أدبية وفنية وفكرية مختلفة. من الكتّاب والأدباء المعاصرين الحريصين على إقامة صالونات ثقافية نجد نوال السعداوي، علاء الأسواني، لوتس عبدالكريم، أحمد تيمور، فاطمة ناعوت، نانسي إبراهيم، عبدالناصر هلال، عادل ضرغام، السيد الجزايرلي، تغريد فياض، سلوى علوان.

بقدر جهدهم يسعى أصحاب الصالونات الثقافية الحالية إلى ممارسة تأثير إيجابيّ حيويّ في المشهد الراهن، ويطلق كل صالون جملة من الأهداف التي يعمل على إنجازها، لإثبات دوره التنويري ودرء الصورة السيئة التي تلاحق الصالونات، وتسمها بأنها باتت مجرد وجاهة اجتماعية أو مدعاة لتسليط الأضواء الإعلامية دون تفعيل منجز ثقافي عميق أو نشاط جاد.

وقد تحدث بعض مؤسسي وأصحاب الصالونات الثقافية عن تجربتهم ومنجزهم في هذا الإطار وما يهدفون إلى تحقيقه من خلال تلك الفعاليات الدورية التي تمد جسور التواصل المباشر مع الجمهور.

روح مي زيادة

الكاتبة اللبنانية تغريد فياض، المقيمة في القاهرة، تستحضر روح وتجربة مواطنتها مي زيادة في صالونها الذي تعقده بالقاهرة، وقالت : إن “صالونها الثقافي الشهري يأتي لإيمانها بدور مصر في احتضان الإبداع والثقافة العربية والعمل على انتشارها، ويأتي من ولعي بالثقافة وبالأدب والفن منذ صغري، وتأثرّت كثيرًا في هذه التجربة بمي زيادة التي قرأت لها منذ مراهقتي وشكلت حافزًا إضافيًّا لإنشاء الصالون”.

أما الدافع الحقيقي الذي كان يؤرّق تغريد ويلّح عليها أنها ترى الثقافة ومنتجاتها أصبحت رفاهية عند عدد كبير من الشباب في مختلف المجتمعات العربية، وأن أمّة الضاد التي كانت منارة ثقافية لوقت طويل تتنحى عن مكانتها لصالح التكنولوجيا وثقافة الاستهلاك السائدة في العالم بعد العولمة والتي لا تمنح أفرادها الوقت للاطلاع إلا عبر كبسولات وسائل التواصل الاجتماعي.

وتطمح تغريد إلى خلق عالم جميل يمزج بين الحداثة والتكنولوجيا ووسائلها التي لا نستطيع الاستغناء عنها، وبين عبق التراث الرائع الذي ننحدر منه كعرب، وتقول “أردت أن أسهم في تشكيل مجتمع ثقافي متكامل يجذب الجميع للمشاركة فيه ويدفعهم للقراءة والكتابة والاطلاع حتى يتاح لهم أن يكونوا ضيوفًا دائمين في الصالون وفي برنامجه الشهري. أردت أن أمنح الفرصة للكثير من الموهوبين سواء كانوا في مقتبل العمر أو كتابًا لم يأخذوا فرصتهم ولم يتحققوا”.

مؤسسة غير ربحية

انطلق صالون الكاتبة سلوى علوان في العام 2015 ثم توسع نشاطه إلى الحد الذي لم يعد فيه قادرًا على استيعاب النشاط الثقافي الزاخم ما دفعها إلى تحويله من صالون ثقافي شهري إلى مؤسسة ثقافية غير هادفة للربح لتستوعب هذا الكم من المشروعات الثقافية المتعددة.

ويسعى إلى تغيير المفاهيم التي استمرت سنوات طويلة عن فكرة الصالون الثقافي، وعن هذا تقول لـ “العرب” لقد “تحول الصالون من مجرد جلسة ثقافية تضم نخبة من الأدباء والمثقفين ليستمعوا لإبداعات بعضهم البعض في غرف منعزلة إلى مشروع تنويري يحتاجه عامة الناس في الشارع المصري والعربي بغض النظر عن كونهم كتابًا وأدباء معروفين، فالمراد التأثير عليهم وعلى توجهاتهم وتقويم سلوكهم وتوعيتهم، هم العامة وليسوا النخبة التي من المفترض أنّ لديها الوعي الكافي لقضايا المجتمع والسلوك القويم”.

مثل هذا التوجه الشعبوي أدى إلى اختيار شعار للصالون وللمؤسسة هو “هويتنا ثقافتنا”، وتضيف سلوى “نؤمن بأن الثقافة ليست ترفًا، إنما هي قضية أمن قومي، ويجب على الجميع أن يعوا ذلك، والهوية هي هذا المضمون الذي تعبر عنه ثقافة الشعب، وندرك جيدًا أن من يسعى لتدمير دولة ما عليه باغتيال وطمس هويتها، ولإدراكنا أهمية ذلك جيدًا بدأنا نستهدف الأجيال التي ستحمل راية الحفاظ على بلادنا وهم الأطفال والشباب”.

من نشاطات الصالون عقد ورش تعليمية وتدريبية في الرسم والموسيقى والغناء وفن الكتابة الصحافية وكتابة القصة القصيرة والرواية وشعر العامية والفصحى والإلقاء والعروض والتمثيل والتصوير، وغيرها، فضلًا عن تنظيم مسابقة أدبية على مستوى الوطن العربي لدعم فكرة الوحدة العربية عن طريق الأدب والفن.

حراك ثقافي فاعل

اللافت للانتباه أن غالبية الصالونات الجديدة توجد في العاصمة المصرية القاهرة وتقتصر الفعاليات الثقافية في محافظات مصر على أنشطة موسمية محدودة ترتبط بفعاليات معينة.

وأوضح عادل ضرغام مؤسس “ملتقى رؤى للإبداع والنقد”، أن فكرته تقوم في جانب منها على استضافة واحد من أصحاب المشاريع المؤسسة للحديث عن تجربته وإسهاماته المهمة في مجالاته الفكرية، بالإضافة إلى وجود مقاربات جادة لهذا المشروع من خلال وجهات نظر قد تكون متباينة أو متجاوبة.

تتمثل أهداف صالون “رؤى” في الهم الثقافي العام من خلال سمات محددة تتجسد في الجدية والاهتمام بإحداث حراك ثقافي فاعل من خلال تكاتف مجموعة من المهتمين بالدرس الأدبي والنقدي يجمعهم اهتمام بتوجيه أعين الناس إلى قيمة ما لدينا من ثقافة وفكر نقدي، واختباره ومقاربته بشكل قد يكون أكثر جدية.

ومن أهدافه إعادة تشكيل وصقل عدد من الباحثين، ويقول ضرغام “هذا الصالون في جانب منه يمثل ورشة مهنية لممارسة تحويل في تشكيل ملامح التكوين الخاصة بهؤلاء الباحثين وتحويل دائرة اهتمامهم من اهتمام يقف عند حدود الباحث إلى براح الناقد، وهذا مهم جدًّا لإعادة التداخل والاشتباك بين البحث الأدبي والنقد، فصناعة الناقد ليست شيئا سهلا، فأستاذ الجامعة يمكن أن يظل جليلا في أداء مهمته ولكنه يعيش في انعزال عن الواقع الثقافي المحيط، فهدف الصالون الأساسي يتمثل في إسدال هذا التداخل وتمكين جدواه”.

ما يتردد ضد كثير من الصالونات الأدبية المعاصرة بوصفها وجاهة اجتماعية أو تسليطا للأضواء الإعلامية، فهذا “قول فيه الكثير من التعميم”، بحد تعبير ضرغام، فالطبيب الذي يعالج المرضى بدواء واحد على اختلاف مواجعهم يميت معظمهم.

ويضيف ضرغام ”من ثم، كانت نقطة الانطلاق الأساسية لدينا تتمثل في الجدية الصارمة والترتيب الواعي للفعاليات التي نعلن عنها، وأي متأمل حقيقي لهذه الفعاليات سيدرك مشروعية وقيمة ما نقول. أما الوجاهة الاجتماعية فأظن أننا في لحظة حضارية مغايرة لا تسمح بهذا الترف”.

تعدد الصالونات لم ينعكس بصورة إيجابية على الحالة الثقافية، وبدت هذه المسألة عادة أو تقليدا أكثر منها تعبيرا عن رؤية ومشروع فكري يريد استنهاض الهمم وتحفيز القوة الناعمة المصرية على النهوض من الركود الذي واكبها على مدار السنوات الماضية.

كما أن النتيجة تظل محصورة في نخبة ضئيلة لم تستطع الخروج من قوقعتها والوصول إلى قطاع عريض من الجمهور، فمعظم فعاليات الصالونات الثقافية تظل محصورة في أصحابها ولم تتمكن توسيع نطاق خطابها ليصل إلى الجمهور العريض عبر وسائل الإعلام المختلفة.

وتحدث الشاعر السيد الجزايرلي عن تجربة مغايرة هي إنشاء صالون ثقافي مصري للمغتربين في المملكة العربية السعودية، مشيرًا إلى أن الصالونات التي تنحاز للنزعة الفردية تنكشف سريعًا وتخفت ثم تموت، وفي المقابل تحتفظ الصالونات التي تنشأ من حاجة الجماعة الثقافية بقدرة أكبر على النجاح والاستمرار والتأثير برغم المعوقات.

ويوضح الجزايرلي أن تجربة الصالون المصري بالسعودية انطلقت في الأساس من الاحتياج الثقافي الجمعي لمجموعة من المغتربين الذين يقاومون الفقد بمحاولات جادة للتعويض، ويقول “تولدت لدينا رغبة في الاتفاق على لقاء دوري يجمعنا في موقع ما، وقد تحمس للفكرة العم مجدي شحاتة رحمه الله، وكان يكتب القصة القصيرة ويعيش وحيدًا في منزله معظم الوقت، فاستمر لسنوات يجمعنا في بيته كل خميس ويحرص على توفير أجواء مصرية خالصة أثناء السهرة”.

وتطور الصالون بانتقاله إلى أحد المقاهي ذات الطابع المصري وسط العاصمة السعودية الرياض، تحت مسمى “صالون مجدي شحاته الثقافي” برئاسة هشام السحار، ثم كبر الصالون وصار يعقد بمكتب جامعة القاهرة في الرياض، وصار له برنامج ثقافي دوري متنوع، جنبًا إلى جنب مع صالون آخر يرعاه المركز الثقافي المصري بالرياض.

ويقول الجزايرلي “هدفنا الاحتفاء بالإبداع والمبدعين أينما كانوا على اختلاف جنسياتهم، ودائمًا الحاجة الثقافية ذات البعد الجماعي هي التي تعطي الصالون الثقافي القدرة على التأثير والاستمرار”.

ثقافة بديلة

أصبحت الصالونات الأدبية من أبرز النشاطات التي يحاول المثقف من خلالها مناقشة التطورات التي يمرّ بها المجتمع، ويساهم بشكل أو بآخر في خلق الوعي المناسب، ويزدهر النشاط الثقافي والمجتمعي بشكل كبير بعد الثورات والتحوّلات المجتمعية الكبرى.

وظهرت الصالونات أو المجالس الأدبية في العصر الجاهلي، وكان الشعراء يعكفون على مدح الملوك والأمراء، مثلما هو الحال في عكاظ، وغيره من المجالس التي كانت تقام لمناقشة الأشعار والقصائد وتبيان أوجه الجمال بها.

كما أقام سيف الدولة الحمداني واحدًا من أشهر المجالس الأدبية وكان يضم عددًا كبيرًا من الشعراء البارزين كالمتنبي وأبي فراس الحمداني، فضلا عن المجالس الأدبية في العصرين الأموي والعباسي، ومن أبرزها مجالس المأمون، عبدالملك بن مروان، والشريف المرتضى وغيرهم.

وقال الناقد عبدالناصر هلال إن صالونه الثقافي حلقة جديدة موصولة تضيف إلى جهود من سبقوه في هذا الإطار لتقديم محتوى فكري وثقافي جاد والعمل على نشر ودعم الثقافة المصرية والعربية ودفع حركة الإبداع بمجالاتها المختلفة إلى الأمام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى