مرة أخرى.. بدو أم فلسطينيون؟!

حتى الآن، هدم المحتلون قرية العراقيب في النقب الفلسطيني المحتل للمرة التاسعة عشر بعد المئة، وفي كل مرة تزيلها جرَّافاتهم يعيد أهلها بنائها من جديد، ويستعدون لإعادة بنائها في قادم المرات إذ ستعود الجرافات مجدداً لهدمهاً. العراقيب هنا أنموذج بسيط يعبَّر عن طبيعة العدو الذي يواجهه الشعب الفلسطيني وعن جوهر الصراع الذي يخوضه معه، وبالتالي معنى صمودهً في وطنه المحتل متشبثاً بترابه ومتمسِّكاً بعناد بوجوده الوطني مادياً ومعنوياً عليه.
بيد أن النقبيين الفلسطينيين جنوباً ومعهم آخرين في الشمال الفلسطيني يتعرضون لمظلمة مزدوجة تأتيهم من عدوهم وأهلهم الفلسطينيون والعرب على السواء، ذلك بإصرار عدوهم على نعتهم ب”البدو” حصراً والتعامل معهم على هذا الأساس وكفئة مختلفة عن مجتمعهم الفلسطيني، ثم تأتي المصادر الفلسطينية والعربية بدورها فتردد ببغائياً ما يصر  عدوهم عليه ودون التنبُّه إلى مراميه…هذا المصطلح يهدف الصهاينة منه إلى مسألتين:
الأولى: ليسهل له الزعم بأنهم رحًّل غير مستقرين ولا أرض لهم، وبذا يصوُّغ جريمة سطوه على ارضهم ومصادرتها، وتعلة لمنعهم من امتلاك حتى حق بناء بيت لهم على ارض توارثوها عن اجدادهم…ما يجري للعراقيب، تحت مظلة هذا المصطلح، ومعها مثيلاتها من عشرات المواقع في النقب التي يطلق عليها الاحتلال القرى غير المرخَّصة، ليس سوى أحد أوجه استراتيجية سرقة الأرض وتهويدها وبذرائع مختلفة.
والثانية، مواصلة ذات السياسة التي انتهجوها بعيد النكبة اتجاه من بقي صامداً ولم يتمكنوا من تشريده من الفلسطينيين. أي محاولة ضرب وتفتيت اللحمة الاجتماعية الفلسطينية باضعاف عرى الروابط بين فئات المجتمع الواحد وعزل كل منها عن سواها…لذا، قسَّموا ما دعوهم ب”عرب إسرائيل” إلى مسلمين ومسيحيين ودروز وشركس وبدو،  ولاحقاً أضافوا فقاعة لم تمكث طويلاً هي الأراميين! وفي سياق محاولتهم حرص المحتلون على التعامل مع كل من هذه التصنيفات تعاملاً، وإن هو احتلالياً، لكنما مغايراً عن سواه، والهدف منه تصويرهم وكأنما هم مجموعة من قوميات مختلفة واثنيات لكل منها خصوصيته. ذلك للاستفراد بكل منها على حدة لاحتوائها وتحييدها إزاء الصراع الوجودي الذي يخوضه فلسطينيو المحتل إثر النكبة الأولى للبقاء على أرضهم، وكذا الصراع الرئيس الذي يخوضه شعبهم عموماً من أجل التحرير والعودةً.
لقد سبق وأن تعرضنا لذات المسألة، وتحديداً مصطلح “بدو النقب”، وقلنا أنا البداوة أو الفلاَّحية أو الحضرية هي صفات اجتماعية لم تعدً منطبقة على غالبية شعب نمت اغلب اجياله بعد النكبة في المخيمات، أكان في الوطن أم الشتات، حيث تساوى في بؤسها وانصهر فيه ابن حيفا ويافا مع أبناء فلاحي الجليل وقرى غزة والمنحدرين من العشائر والقبائل ذات الأصول البدوية المعروفة شمالاً وجنوباً…قطاع غزة، مثلاً لا حصراً، جمعت مخيمات اللجوء فيه متعدد فئات هذا الشعب الاجتماعية بعيد النكبة، من حيفا شمالاً وحتى أم الرشراش على خليج العقبة جنوباً، وفيها الآن لم يعد بالإمكان التفريق اجتماعيا بين فئة وأخرى من هؤلاء، حتى اللهجات المحلية السابقة بعد أن اختلطت بدأت تذوب في ما بدت تتجه بوضوح نحو لهجة غزِّية واحدة لمليوني فلسطيني حشروا فيه.
بالنسبة للنقبيين، أو ما نحن بصددهم، فهم، وإن انتموا لقبائل ذات أصول بدوية معروفة ولها امتداداتها في الأقطار العربية، فهم كانوا قبل النكبة أهل النقب المستقرون لا المترحلون، وحتى  كان هذا في حقبة ما قبل الإسلام، إذ تخبرنا المصادر التاريخية أنه في ما كانت تدعى الولاية الأولى، وفق التقسيمات الرومانية اوائل القرن السادس الميلادي، كان هناك اسقفاُ بدوياً. بعد النكبة من بقي منهم حوَّل الاحتلال غالبيتهم إلى عمال في خدمة اقتصاد محتليهم، إذ ُسلبت الأرض منهم ومنعوا من بناء بيوتهم في مسقط رؤوس أجدادهم، كما هو الحال في قرية العراقيب.
مخططات سلخ أهل النقب وعشائر الشمال عن باقي مجتمعهم الفلسطيني بدأت مبكِّراً وبعيد النكبة الأولى مباشرةً، وآخرها ما طرح مؤخراً سعياً لتحفيز شريحة الشباب للالتحاق بالجيش الصهيوني بعرض حزمة من تسهيلات وامتيازات تهدف لإغراء فئة تعاني تهميشاً بالأصل، كتخفيضات كبيرة عند شراء قسائم البناء الي سيسمح بها، وتمويل أقساط التعليم والإقامة للجامعيين، وتسهيل الالتحاق بسوق العمل وخاصة في الشركات الحكومية…ويصوِّغ تقرير لجيش الاحتلال تبني هذا المخطط باستهدافه ابعاد المستهدفين عن الحركات الإسلامية والحؤول دونهم والالتحاق بداعش!
هذا المخطط يأتي بعد افشال فلسطينيي النقب لمخطط “برافر” الذي سعى لمصادرة ما بقي لديهم من أراض، ويتناغم ويتكامل مع حزمة أخرى من المخططات، ومنها، مخطط اوري اريئيل الساعي لاقتلاعهم من قراهم غير المعترف بها، ووزيرة العدل ايليت شاكيد الساعية لمحاربة تكاثر الفلسطينيين الطبيعي، ووزير التعليم نفتالي بينت لتهويد مناهجهم التعليمية، ناهيك عن ما تدعى مشاريع التطوير الاقتصادي، وسلسلة القوانين العنصرية التي ما انفك الكنيست يستنَّها.
…ليس لمخططهم التجنيدي حظاً من نجاح. قبله فشل مثيله ومع نفس الامتيازات المدعو “الأربعين يوماً”، لاسيما وأنه في حومة الصراع تنحو الأجيال الفلسطينية المتلاحقة نحو الأصلب والأعلى وعياً والأكثر تشبُّعاً بثقافة المقاومة.

.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى