في رثاء الفجر العربي الممنوع  من الصرف !!

مشكلة النخب في الاردن ومعظم اقطار الوطن العربي، انها تعرف الحق ولكنها تحيد عن دربه.. ترى الجمل ولكنها تقص في اثره.. تعاين الهدف ولكنها تصوب على ظله.. تسمع الصوت ولكنها تتجه الى صداه.. تدرك الحقيقة ولكنها تتعامى عنها  وتغض الطرف.

مشكلة هذه النخب بمختلف تلاوينها السياسية والاقتصادية والاعلامية، انها تجيد فن اللف والدوران، وتتقن لعبة التكاذب الاجتماعي، وتدمن عادة تبديل الاقنعة وتغيير الولاءات وتشبيك الكلمات المتقاطعة واللعب على كل الحبال.

في برزخ بين العصا والجزرة، او بين الترهيب والترغيب، تتكاثر وتتناثر هذه الكائنات النخبوية.. تتوالد وتتواجد بشكل عنقودي وبلا لون او طعم او روح او رائحة، وليس في حسبانها ووجدانها ان تقوى على بق البحصة، او تعليق الجرس، او اطلاق كلمة حق وصدق في وجه التعسف، ولوجه الوطن والصالح العام.

هذه النخب تفهم اين يكمن الخلل الاستراتيجي الذي تتفرع عنه كل الاختلالات، وتعرف الدرب والوسيلة الى اصلاحه والتعافي منه، ولكنها تمسك – طمعاً او جزعاً – عن تشخيص الداء وتوصيف الدواء، وتدير ظهرها لشرف المسؤولية الادبية, وبلاغة الحكمة القائلة ان ”الساكت عن الحق شيطان اخرس”.

كلنا ندرك بوضوح ان الحياة السياسية الاردنية قد نضبت، وان حالة امنية وبيروقراطية تهيمن الآن على البلاد والعباد.. فالحكومات لم تعد ذات حيثيات سياسية ومسؤوليات تتعلق بالولاية الدستورية، والاحزاب -على كثرتها – لم تعد ذات فاعلية سياسية وتأثير كبير على الرأي العام.. حتى النقابات المهنية والعمالية التي طالما لعبت ادواراً سياسية تتجاوز مهماتها الفنية والتنظيمية، اوشكت ان تتقوقع على ذاتها الوظيفية، وتتخلى عن سابق طموحاتها وتطلعاتها السياسية.

اما طوائف المعارضة الوطنية والسياسية فكان الله في عونها، احزاباً وصالونات وشخصيات.. فقد جارت على ذاتها بقدر ما جارت الدوائر الحاكمة عليها، وتضاءل حضورها برغم شدة الحاجة العامة الى دورها، وكفت عن انجاب القيادات الشابة بعدما رحلت او تقاعدت قياداتها الجريئة والعريقة.. والاسباب كثيرة لا لزوم لذكرها في هذا المقام.

كنا نحسب – او نأمل- ان تكون الاردن وباقي الاقطار التي سلمت من محنة ”الربيع العربي” قد استوعبت الدرس، واستخلصت العظة والعبرة، واستفادت من تجارب الاقطار العربية المنكوبة.. فالعاقل من اتعظ بغيره، لكن واقع الحال يشي بان الدول الناجية من ذلك الحريق قد ابقت القديم على قدمه، وصعّرت خدها للناس، وربما زادت من منسوب الفساد والاستبداد, والانفتاح على العدو الصهيوني, والتبعية المكشوفة للمراكز الاجنبية.

يحار المرء في فهم هذا العالم العربي – حكاماً ومحكومين- فهو ما زال طائشاً يصطرع مع ذاته، وتائهاً يبحث عن مستقبله، وقاصراً يعجز عن اكتشاف طرائق نهضته ووسائل انقاذه وصلاح امره، رغم ان شعوباً عالمية كانت فيما مضى تشاركه الفقر والتخلف (الهند والصين واندونيسيا وكوريا وماليزيا وجنوب افريقيا) قد عرفت كيف تتجاوز واقعها، وتصنع نهضتها، وترتقي بمستويات شعوبها، وتهيل التراب على عهود بؤسها وتخلفها.

نظرة فاحصة ومتأنية تثبت ان هذه الدول الآسيوية والافريقية التي غادرت خرائب العالم الثالث، والتحقت بركب العوالم المتطورة والمتقدمة، قد حققت ما حققت من نجاحات، وانجزت ما انجزت من مشروعات بفعل عاملين اساسيين، هما الحكم الرشيد والشعب النشيط، مع ما يتفتق عنهما بعد ذلك من عوامل فرعية وعناصر تفصيلية وآليات اجرائية ومحطات تنفيذية.

قد يتولد الحكم الرشيد من رحم الديموقراطية شأن الحاصل في الهند، وقد يصدر عن خلفية مركزية شأن الحاصل في الصين، ولكنه يتصف في كل الاحوال بالبعد عن الفساد، والقرب من نبض الشعب، والتعبير عن الروح الوطنية، والاعتماد على اهل الخبرة والكفاءة والجدارة في التخطيط والتمويل والتنفيذ والمهارة الادارية التي تضمن صنع القرار باقتدار، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، دون تمييز او تفريق عرقي او عشائري او طائفي.. الخ

اكثر من هذا، هناك حالة حب رومانسية، وعلاقة مودة كاريزمية تجمعان بين الحكم الرشيد والقاعدة الشعبية العريضة، وتدفعان الحاكم والمحكوم نحو توطيد التوافق الوطني، وتعظيم القواسم المشتركة، وتذليل المصاعب الكأداء، وتعميم ثقافة العطاء والانتاج والاخلاص والابداع والشفافية والمبادرات الريادية الفردية والجماعية.

انظروا كيف استطاع الحكم الرشيد بقيادة فلاديمير بوتين انقاذ روسيا من براثن النهب والضعف والتفكك والخراب في عهد بوريس يلتسين، وكيف استطاع اعادتها، خلال عشر سنوات فقط، الى مكانة الدولة العظمى، والقطب المنافس للولايات المتحدة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.. بعد ان حسب الكثيرون ان روسيا المثقلة بهمومها الصعبة، والمنشغلة بلعق جراحها الراعفة سوف تغيب طويلاً عن المسرح العالمي.

بالمقابل، انظروا الى زمرة الحكام وولاة الامر الجاثمين على صدر امتنا، ولاحظوا كيف يتماثلون في الجهالة حيث الفقر في العقل والضمير، وفي العمالة حيث الافتراق عن الشعب والالتحاق بالشرق والغرب، وفي مداومة الفشل حيث العجز – او التعاجز – عن النهوض بامانة المسؤولية، والقيام باداء الواجب، والاهتداء الى درب الخلاص وجادة الصواب.

وعليه، فقد ابتدأ مقالنا بتقريع النخب الخرساء الساكتة عن الحق، وانتهى بتجريم الانظمة الحمقاء السادرة في الظلم والباطل.. وما من ضوء – بعد – في نهاية هذا النفق !!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى