عن العلاقة بين الاقتصاد والعنف

انشغل البحث العلمى منذ وقت طويل نسبيا بمحاولة تحديد العوامل الرئيسية التى قد تكون سببا وراء تفجر النزاعات العنيفة، سواء بين المجتمعات أو فى داخلها. وكان من الطبيعى أن تكون العوامل الاقتصادية من بين أهم العوامل التى تم إدراجها فى هذا الشأن. لكن يلاحظ بشكل عام ومنذ أواخر الثمانينيات سيطرة ميل قوى إلى نفى وجود علاقة بين عدم المساواة الاقتصادية ونشوب العنف على أغلب الدراسات، وخاصة تلك التجريبية التى حاولت أن تختبر إحصائيا تلك العلاقة. هذا فى الوقت الذى اتجه فيه العنف للتزايد، سواء داخل المجتمعات أو على المستوى الدولى.

فتشير إحدى الدراسات، على سبيل المثال، إلى أنه «منذ سقوط حائط برلين قتل ما يزيد على أربعة ملايين شخص فى صراعات داخلية وإقليمية. ويقدر أن نحو ثلث سكان العالم معرضون لصراعات مسلحة. وبينما لا يقتصر العنف على بلدان الجنوب، فإن النصيب الأعظم منه يجرى فى البلدان الفقيرة. فأكثر من نصف بلدان أفريقيا متضررة من النزاعات المسلحة. ولا تعد هذه النزاعات مؤقتة أو طارئة، ولكنها تكتسب ملامح نظامية ومستدامة.»

والواقع أنه بينما كان من المستقر لزمن طويل أن الأحوال الاقتصادية السيئة تعد من بين أهم العوامل الدافعة للاحتجاج السياسى الذى يتخذ فى أحيان كثيرة، خاصة فى الدول النامية، شكلا عنيفا، نجد أن التطورات خاصة منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين قد اتخذت منحى مختلفا. إذ أشارت العديد من الدراسات إلى أنه «عند الأخذ فى الاعتبار ما إذا كان النزاع العنيف قد تسبب فيه عدم المساواة الاقتصادية، لم يجد البحث الإحصائى دليلا على مثل هذه العلاقة.»

العوامل الاقتصادية كعامل مفسر للعنف السياسى:

يمكن القول أن مجال البحث فى موضوع العلاقة بين الوضع الاقتصادى والعنف شهد انقساما حادا، فى مجرى التيار الرئيسى له، إلى اتجاهين: الاتجاه الأول، يميل إلى عدم وجود أى علاقة بين الوضع الاقتصادى والاتجاه للعنف، وخاصة الإرهاب. أما الاتجاه الثانى، فيرى أن العلاقة هى علاقة اقتصادية بحت، بمعنى وجود دوافع وليس أسباب اقتصادية، وأن ليس للسياسة أى دخل بها.

وربما يكون الانقلاب الكبير التالى الذى شهده هذا المجال البحثى هو ذلك الذى انبثق، إثر أحداث 11 سبتمبر 2001 فى الولايات المتحدة، حيث جرت مجموعة من الدراسات بهدف محاولة الإجابة على السؤال المتعلق بكيف يمكن التنبؤ بحدوث الإرهاب؟ وماهية السياسة التى يمكن أن يتم التعامل بها معه؟ لنجد أن جزءا كبيرا من الجدل الذى ثار خلال العقد الماضى قد تركز حول طبيعة وقوة الارتباط بين الفقر وانخفاض المستوى التعليمى من جهة، والميل لاستخدام العنف خاصة عبر اللجوء إلى العمل الإرهابى من جهة أخرى. والدراسة العمدة هنا هى تلك التى قام بها كل من الاقتصادى الأمريكى «آلان كروجر»، والمتخصصة التشيكية فى دراسات الشرق الأدنى وأفريقيا «جيتكا ماليكوفا».

وذلك لحساب المجلس الوطنى للبحوث الاقتصادية فى الولايات المتحدة الأمريكية فى عام 2002. والتميز النسبى وسبب الجدل الذى أثارته تلك الدراسة هو أنها كانت قاطعة فى استنتاجاتها. فقد كان السؤال المحورى الذى سعت الدراسة لتقديم إجابة عليه هو: هل هناك علاقة ارتباط سببى بين الفقر أو التعليم المنخفض من جهة، ودعم النشاطات الإرهابية والعنف الذى تستحثه السياسة بشكل عام من جهة اخرى؟ وخلص الباحثان إلى أن «أى ارتباط بين الفقر، والتعليم المنخفض من جهة، والإرهاب من جهة أخرى، هو ارتباط غير مباشر، وهو ارتباط معقد وربما ضعيف إلى حد كبير. وبدلا من النظر للإرهاب كاستجابة مباشرة لطبيعة الفرص المتاحة فى السوق أو الأمية والجهل، نرى أنه سيكون أكثر دقة أن ينظر إليه كاستجابة لظروف سياسية ومشاعر طويلة المدى بالإهانة أو الإحباط الذى ليس له كبير علاقة بالاقتصاد» وفى ظل هذه الخلاصة القاطعة، كان من الطبيعى أن تكون النصيحة التى تسديها الدراسة لصناع السياسة هى «هناك سبب ضئيل لكى نكون متفائلين بأن خفض مستوى الفقر أو زيادة التحصيل التعليمى سوف تؤدى إلى خفض يعتد به فى مستوى الإرهاب الدولى». وقد تحولت هذه النتيجة فيما بعد لتشمل كل أشكال العنف السياسى، بحيث صارت الخلاصة هى أنه ليس هناك علاقة مباشرة، أو واضحة أو قوية بين انخفاض مستوى الدخل واحتمالية اللجوء للعنف السياسى بشكل عام. إننا هنا إزاء اختزال سياسى لحقائق الحياة المتعددة والمعقدة.

فى المقابل، كانت هناك نظرة «اقتصادوية» تستند إلى نظرية الاختيار الرشيد النيوكلاسيكية، والتى ترى أن العنف ينشأ، مثله مثل أى نشاط اقتصادى آخر، من سعى الأفراد لتعظيم منافعهم. فالعنف –والحرب الأهلية بشكل خاص-يحدث نتيجة للطمع والجشع أكثر من الإحساس بالظلم أو السخط، أى أن الدافع على العنف والتمرد هو حجم المكاسب المنتظرة لا حجم المظالم الواقعة على الأفراد والجماعات بالفعل. ووفقا لهذه النظرة، فإنه حيثما تزيد فرص تحقيق الربح على التكلفة المرتبطة بالعنف والتمرد (ارتفاع نفقة الفرصة الاقتصادية) فسوف يتجه الأفراد للعنف والتمرد وتشكيل منظمات تخوض الحرب الأهلية بهدف تحقيق مكاسب اقتصادية. وتزيد فرص ذلك فى حالة توافر مورد طبيعى ذى قيمة اقتصادية كبيرة كالنفط أو الماس مثلا، أو حتى نشاط غير شرعى مرتفع الربحية، مثل زراعة وتهريب المخدرات، أو تهريب السلاح.

وقد اتخذ هذا الانقسام شكل اللغز حول العوامل الدافعة لتفجر العنف. فقد ذهب البعض  إلى أنه فى البلدان المنخفضة الدخل تكون نفقة الفرصة الاقتصادية أمام المتمردين المحتملين منخفضة، مما يسهل عملية التجنيد للتمرد واندلاع حرب أهلية، بينما ارتفاع نسبة المقيدين فى التعليم الثانوى تقلل من مخاطر السياسة العنيفة بتشجيعها على المشاركة السياسية وتوجيهها من خلال قنوات مؤسسية، وليس من خلال ممارسة العنف.

بينما ذهبت دراسات أخرى إلى نتيجة مناقضة، وهى أن الذين اقترفوا أعمالا إرهابية قد تلقوا تعليما أعلى من الشخص المتوسط فى البلاد التى تناولتها بالدراسة. فإذا كان التعليم يزيد من العنف، فلماذا إذا نلاحظ هذا الاختلاف فى نفقة الفرصة الاقتصادية، وأيضا فى أثر التعليم على الحرب الأهلية عند مقارنتها بالإرهاب.

التعليم ومستوى الدخل:

الواقع أن واحدة من الإجابات الفورية حول هذا اللغز، وحول مدى أهمية الأوضاع الاقتصادية كعامل مفسر لنشوب العنف السياسى، أو نشوء الإرهاب، قد تتعلق بداية بدراسات الحالة التى تم انتقاؤها باعتبارها ممثلة للإرهاب أو الحرب الأهلية. كما يرجع جزء كبير من هذا اللغز أيضا إلى أنه إذا كان من الممكن بناء نماذج للاقتصاد القياسى كأساس للبحث التجريبى دون نظرية موجهة، فإنها دائما بحكم طبيعتها غالبا ما لا تشترط أى معرفة تاريخية أو أى عودة للتاريخ. إذ أشار بعض الباحثين إلى أن «دراسات كمية حول المشاركين فى أشكال مختلفة من الإرهاب فى مواقف متعددة مختلفة وصلت إلى نتيجة مشابهة … فقد قامت دراسة بجمع معلومات ديموجرافية عن أكثر من 350 فردا انخرطوا فى أعمال إرهابية فى أمريكا اللاتينية، وأوروبا، وآسيا، والشرق الأوسط، بناء على تقارير الصحف خلال الفترة ما بين 1966 إلى 1976 من أجل استنباط صورة عامة عن الإرهابيين.

وتتكون العينة من أفراد من 18 جماعة ثورية من المعروف أنها منخرطة فى العنف الحضرى، حيث شملت تلك الجماعات الجيش الأحمر اليابانى، وعصابة بادر ــ ماينهوف فى ألمانيا، والجيش الجمهورى فى أيرلندا الشمالية، والألوية الحمراء فى إيطاليا، وجيش التحرير الشعبى فى تركيا. وقد توصل باحثون آخرون إلى أن «…الغالبية العظمى من هؤلاء الأفراد المنخرطين فى نشاطات إرهابية ككادرات أو قيادات ذوى تعليم جيد جدا. وفى الحقيقة، فإن نحو ثلثى هؤلاء الإرهابيين المعروفين، هم أشخاص تلقوا بعض التعليم الجامعى، أو تخرجوا من الجامعة، أو طلاب دراسات عليا».  كما ذكر أيضا أن أكثر من ثلثى الإرهابيين المقبوض عليهم «ينحدرون من الطبقات الوسطى أو العليا فى بلدانهم أو مناطقهم».

والظاهرة فى واقع الأمر أقدم من ذلك بكثير فى التاريخ الأوروبى الحديث، إذ قد يصل عمرها إلى نحو قرنين تقريبا. إذ كان هذا هو الوضع تقريبا بشأن جماعات، مثل «الكاربونارى» فى مناطق متعددة من أوروبا، خاصة فى إيطاليا وإسبانيا، أو جماعة الديسمبريين فى روسيا فى الربع الأول من القرن التاسع عشر، والبلانكية الفرنسية فى فترة تالية، سوى على أنها فى الحقيقة جماعات نخبوية. فهى جماعات كانت فى حالة عجلة من أمرها، إذ لم يكن بوسعها الانتظار والعمل على إنضاج الظروف الموضوعية أو بذل جهد فى حشد وتعبئة الجماهير أولا، حيث كانت عقيدتها تنصرف إلى العمل بالنيابة عن هذه الجماهير، فالوضع فى نظرها لا يتطلب أكثر من توافر مجموعة من المخلصين الذين يمتلكون السلاح ويمتلكون الجرأة على استخدامه حتى يمكن القيام بانقلابات أو بثورات فى بلادهم، والإطاحة بنظم الحكم القائمة فيها آنذاك.

ولكن، هنا أيضا تبقى نقطة مهمة، وهى أن واحدة من الدوافع وراء هذا التفكير فى اللجوء إلى العنف كانت هى الأوضاع البائسة للجماهير ذاتها، وضرورة التدخل لإنهاء سلسلة المظالم الاجتماعية التى تميل نحو العنف هو سوء الأوضاع الاقتصادية والتعليمية الخاصة بهم بشكل مباشر، إلا أن أوضاع المجتمع حولهم، بما فيها الأوضاع البائسة للفئات الأكثر فقرا، كان من الثابت أنها من بين الأسباب القوية ضمن أسباب  أخرى، مثل الرغبة فى الإجهاز على الحكم السلطوى، فى القيام بعملياتهم الإرهابية. ويصدق ذلك اليوم كما صدق تاريخيا. فقد لا يكون القائمون بالعنف السياسى اليوم من الفقراء أو محدودى التعليم، إلا أنه سيكون من العسير العثور على شخص واحد من بينهم لم يتأثر بسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التى يحيا فيها الكثير من مواطنيهم.

أشار البعض أيضا إلى أنه ربما تكون مشكلة اللغز المطروح هى فى تعميم النتيجة من حقل الإرهاب إلى العنف عموما، خاصة الحرب الأهلية.

إذ ربما تساعد طبيعة الحرب الأهلية المختلفة عن طبيعة الإرهاب فى تفسير عدم الاتفاق الظاهر فيما يتعلق بعلاقة مستوى الدخل والتعليم بالحرب الأهلية. وربما يكون واحدا من التفسيرات المقبولة ظاهريا هو أن الإرهاب يعد حربا أهلية غير مكتملة أو «بدايات» حرب أهلية. فرغم أن كلا من الحرب الأهلية والإرهاب هى أشكال من التمرد، فإنهما رغم ذلك يختلفان فى عدد من الأبعاد، مثل الضرر الذى يلحق بالدولة، والقتلى المدنيين، ومدى تناسب استخدام القوة بين أطراف النزاع، وأهداف وأغراض العنف، وطبيعة الفاعلين.

وفى الحقيقة يود الإرهابيون لو أن لديهم حربا أهلية، ولكن لأسباب عديدة لا يتوافر لهم ذلك، ولهذا فهم فى الواقع يشكلون كتيبة المواجهة فى التمرد. وعلى هذا فالمنظمات الإرهابية هى منظمات قادة، إنها منظمات ذات أساس نخبوى. والقادة يكونون فى العادة من الذين تلقوا تعليما جيدا، ولذا نجد أن الجماعات الإرهابية بفضل حجمها الصغير بها أعلى نسبة قادة لأتباع. والقادة عادة أكثر تعليما من الأتباع، كما ينبغى أن يكون لديهم استعداد أعلى للمخاطرة، وطاقة وقدرة أعلى على تنفيذ مهامهم، وأن تتوافر لديهم مَلَكة حث الآخرين على القتال. وهكذا، فالأكثر احتمالا أن يكون المستوى التعليمى للإرهابيين، فى المتوسط، أعلى من ذلك المستوى لدى سائر أنواع المتمردين الآخرين.

وفيما لو كانت ظروف الفقر الشديد والقمع السياسى هى السائدة، فإن الإرهابيين يمكنهم أن يجدوا داعمين لتمرد واسع النطاق قد يتحول إلى حرب أهلية. ولكن بدون دعم على المستوى الجماهيرى، لا يمكن للإرهاب أن ينمو ليتحول إلى حرب أهلية. وهذا متسق مع ما يورده البعض كوصف للإرهاب، باعتباره «من حيث الأساس هو نتيجة لسخط النخبة… استراتيجية للأقلية، التى ربما تنشط بالنيابة عن جمهور شعبى أوسع لم يتم استشارته، والذى قد لا يقر بالضرورة أهداف الإرهابيين ولا أساليبهم…الإرهاب من المحتمل أكثر أن يحدث بدقة، حينما تتطابق وتتزامن سلبية الجماهير مع سخط النخبة…إنه ملاذ أى نخبة حينما تكون الظروف غير ثورية».

ومن وجهة نظر أخرى، يذهب البعض بناء على معلومات ميدانية إلى أنه من غير الصحيح أن الفقر أو انخفاض المستوى التعليمى لم يلعب دورا حتى فيما يتعلق بالإرهاب الدولى العابر للحدود. إذ الملاحظ هو لجوء الجهاديين الإسلاميين مثلا إلى الأماكن الفقيرة لكسب دعم الفقراء. ومن اليمن إلى كشمير والشيشان، وأيضا فى الشرق الأوسط يجند الشباب غير المتعلم والفقير فى الجماعات المتطرفة، مقابل المال.

كما أن الانتشار الواسع للفقر فى مالى، واليمن، وباكستان، والفلبين يسمح لهؤلاء المتطرفين باستخدام أماكن وأراضٍ غير مراقبة من قبل حكومات هذه البلدان للإعداد والتمهيد لعمليات هجوم دولية. وحتى فى البلدان الأفضل حالا نسبيا، مثل المغرب ولبنان، تُهيئ العشوائيات البائسة أو معسكرات اللاجئين تربة خصبة لتجنيد الإرهابيين. فعلى سبيل المثال، قامت جماعة المقاتلين الإسلاميين المغاربة بتجنيد شباب غير متعلم وعاطل من عشوائيات مدينة كازابلانكا للقيام بعمليات تفجير إرهابى فى تلك المدينة فى مايو 2003 سقط فيها 45 قتيلا. ومن الصعب، حسب بعض الباحثين، الإشارة إلى عمل هجومى واحد فى البلدان النامية لم يلعب الفقر العائلى، ومحدودية فرص العمل دورا أو آخر فيه.

ويشير البعض إلى أنه ربما يكون واحدا من الأسباب وراء هذه النتائج المتعارضة التى يتم التوصل إليها باستخدام المنهج ذاته والبيانات نفسها فى الدراسات عبر الوطنية هو الميل للتركيز على القائمين بالهجمات الإرهابية ذاتهم، وبالتالى يتم تجاهل المحيط الأوسع من المتطوعين وجنود المشاة الموجودين فى خلفية المشهد، والمنخرطين فى العمليات الأقل بروزا.

فيشير البعض إلى أن البرهان ربما يصبح أكثر إقناعا إذا ما كان يتضمن أيضا المفجرين الذين فشلوا فى تنفيذ عملياتهم، أو أولئك الذين تم القبض عليهم قبل تنفيذ مهماتهم. فالمفجرون الذين لم ينجحوا من المحتمل أن يكونوا أقل تعليما ومهارة بصورة ملموسة مقارنة بهؤلاء الجناة الذين نجحوا فى الهجمات. وعينة المفجرين يجب أن تكون ممثلة لكافة الإرهابيين… قبل إمكانية التوصل إلى نتائج موثوقة يعتد بها عن العلاقة بين الفرص الاقتصادية وتجنيد الإرهابيين. كما أن المشكلة هنا هى أن تلك النتائج حول عدم وجود علاقة بين النصيب المنخفض من الدخل أو التخلف الاقتصادى والمستوى التعليمى من جانب، ووقوع العنف من جانب آخر، تلك النتائج قد تكون غير محايدة. فالمصادر الأساسية للمعلومات عن المتطرفين هى الصحافة، وهو ما يجعل التركيز على العقول المدبرة والمفجرين. ولذا فالأفراد الذين يتم اختيارهم للدراسة ربما لا يكونون عينة ممثلة تمثيلا صحيحا لكل  أعضاء التنظيم الإرهابى. إذ من الوارد أن يكون هناك ميل لأن يتلقى الأفراد العاديين اهتماما أقل بكثير فى الصحافة. فالمعلومات المتوافرة مثلا عن عضوية تنظيم القاعدة لا تتضمن ما فيه الكفاية عن المحيط الأوسع للراغبين فى التطوع أو المجندين الأقل رتبة.

وربما تكون واحدة من النتائج أيضا التى تمت ملاحظتها هى أن الدول الفقيرة والضعيفة ليست لديها الإمكانيات والقدرات اللازمة للسيطرة على حدودها وأراضيها، لذا فهى تشكل ملاذا لخلايا الجماعات المتطرفة التى تميل لاستخدام العنف ، كما أن نظم الحكم فى هذه البلدان قد تكون مفتقدة للشرعية فى أعين مواطنيها…. وكما تظهر الخبرة التاريخية، فإنه حينما تفشل الحكومة المركزية فى مد الخدمات الأساسية يستسلم المواطنون الساخطون بسهولة أكثر لمن يستجيب لسخطهم وتذمرهم، حتى لو أتت هذه الاستجابة من قبل جماعات العنف والتطرف. فقد كسبت طالبان جزئيا موطئ  قدم لها فى أفغانستان فى نهاية التسعينيات بسبب القدرة على توفير الأمن، والقانون، والنظام وإعادة فتح طرق التجارة الرئيسية بعد سنوات من الحرب الأهلية. وقد تحرك الإخوان المسلمون فى العديد من البلدان لإنشاء شبكة واسعة من المساجد، ومدارس للبنين والبنات، والعيادات الطبية، والمستشفيات، وتوزيع الصدقات، والمدارس الليلية للعمال، بل وحتى المصانع، فى الوقت الذى فشلت فيه الدولة فى فعل ذلك.

نقد النظرة الاقتصادية للعنف:

وبينما توافر النقد السابق على النماذج التى تقول إن الدوافع السياسية وحدها كانت هى السبب فى نشأة العنف، أو الإرهاب المحلى، أو الدولى، فقد جرى فى الوقت نفسه توجيه نقد عميق للنماذج التى تبنت نظرة اقتصادوية ضيقة.

فيشير أحد الباحثين إلى أن «هذه النظريات الاقتصادية النيوكلاسيكية حول النزاع العنيف أضحت شعبية بشكل متزايد، ومؤثرة فى بعض الدوائر منذ منتصف التسعينيات. وعلى الرغم من أنها تمثل مجرد جدلية واحدة من نظرية الفاعل الرشيد، فإن النظريات الاقتصادية الأرثوذكسية أو النماذج ذاتها تعد إلى حد ما غير متسقة »، كما يشير إلى أن «عدم المساواة تعد بشكل أو بآخر أمر ثابت فى كافة النظم الاجتماعية التراتبية، والعنف أيضا يعد سائدا فى المجتمع الإنسانى بشكل عام. ولكن على أية حال، فبينما يكون العنف السياسى المنظم عرضة لحالات مد وجزر: يتناثر خلالها فترات من السلام، فربما لا يكون عدم العدالة فى توزيع الدخل سببا فى النزاع وربما حتى لا يكون شرطا ضروريا أو كافيا للنزاع العنيف.

وربما تكون بعض سمات عدم العدالة هذه، لا عدم العدالة ذاتها، وثيقة الصلة أكثر بالعنف. وربما يكون هناك شىء ما يتعلق بكثافة عدم العدالة، مقاسا بطرق مختلفة (متضمنا فى ذلك ولكنه لا يقتصر على معامل جينى الذى يقيس مدى العدالة فى توزيع الدخل) وثيق الصلة أكثر بتفجر النزاع العنيف، وهو ما ينطوى على وجود عتبة لانطلاق العنف تختلف هى ذاتها مع اختلاف الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية، إلى جانب اختلاف مستويات الدخل.»

وتشير دراسة مسحية إلى أنه «من غير المحتمل أن يؤدى الفقر المزمن وحده إلى الصراع. فالفقراء فقرا مزمنا يفتقرون غالبا إلى الصوت والتنظيم السياسى. ولكن، قد تزيد عدم المساواة الأفقية والاستبعاد الاجتماعى من نزعة المجتمع نحو الاتجاه للعنف، وخاصة إذا ما ترافقا مع اختلاف فى الهوية، أو اختلافات إقليمية (جهوية). كما أن مثل هذه الخلفيات يمكن استغلالها عن طريق الفاعلين السياسيين. كما يمكن للعنف أيضا إما أن يكون عاملا ملموسا فى إدامة الحروب، أو الدفع نحو العنف الجنائى، حيث يصبح السلب والنهب هو الاستراتيجية المتاحة لتوفير سبل العيش للفقراء فقرا مزمنا.»

وربما نشير فى النهاية إلى أنه ربما كان هذا النفى لعلاقة الأوضاع الاقتصادية بالاحتجاج العنيف يرجع-بشكل واع أو غير واع- لطبيعة التغير فى الفئات الحاكمة فى بعض البلدان المتقدمة وما سيَّدته من أفكار وسياسات نيوليبرالية. إذ سيطرت أفكار المدرسة النيو ليبرالية على صناعة القرار، بداية، فى بعض البلدان المتقدمة (بريطانيا والولايات المتحدة) منذ أواخر السبعينيات، ثم على المؤسسات المالية الدولية خلال النصف الثانى من ثمانينيات القرن الماضى.

وأعقب ذلك اجتياح هذه المدرسة للعالم الثالث وبلدان الكتلة الاشتراكية سابقا خلال التسعينيات، مع فرض ما يعرف بتوافق واشنطن من جانب صندوق النقد الدولى والبنك الدولى فى شكل برامج تثبيت وإصلاح هيكلى. وهى البرامج التى  دفعت نحو تبنى آليات السوق، وبيع شركات القطاع العام للقطاع الخاص، وغيرها من الآليات.

وكانت هذه المدرسة تؤكد، على خلاف ما أثبته الواقع، من أنه لن يحدث تفاوت كبير فى توزيع الدخل، بل إن جميع المواطنين سيكونون من الرابحين من وضع آليات السوق الحر، دون تدخل من الدولة، موضع التطبيق. ولذا، ربما كان الهدف منذ البداية هو نفى أى أثر سلبى لما يطبق من آليات وسياسات على توزيع الدخل، ناهيك عن أن يكون ذلك هو السبب وراء تفجر العنف وعدم استقرار المجتمعات أيضا. وذلك على الرغم من وجود أدلة وفيرة متداولة عن كيف أفرزت برامج الإصلاح الهيكلى لصندوق النقد الدولى والبنك الدولى خلال الثمانينيات والتسعينيات صراعات أهلية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى