في ذكراها الـ 65: ثورة (ناصر).. وإسرائيل !!

 

تمر هذه الأيام الذكري الـ 65 لثورة يوليو (تموز) بقيادة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وفي أجواء التحالفات الاستراتيجية والتطبيعية مع الكيان الصهيوني خاصة مع دول الخليج وفي ظل التراجع الكبير للدور العربي (دولاً وشعوباً) في القضية الفلسطينية، وفي أجواء زمن الإرهاب الداعشي، تلك القضية التي اعتبرها عبدالناصر قضية الأمة المركزية، نحتاج اليوم، إلى أن نستعيد الأسس التي قامت عليها المدركات السياسية تجاه الصراع وسبل إدارته كما فهمها عبدالناصر في عصره، وهل لاتزال صالحة في زمن ترامب ونتنياهو وحلفائهما من الحكام العرب ؟ في سبيل الإجابة دعونا نسجل ما يلي :

أولاً : مدركات عبد الناصر للصراع :

يحدثنا التاريخ ووثاقه أن ثمة ثلاثة مدركات رئيسة حكمت الرؤية والموقف الناصري تجاه الصراع العربي الصيوني، تلك المدركات هى :

المدرك الأول : مصيرية الصراع : تجمع وثائق الثورة وتحديدا وثائق عبد الناصر، على أن هذا الصراع الذي تجرى أحداثه فوق أرض فلسطين، كان ولا يزال، صراع وجود، صراع بقاء بين الأمة العربية من جانب وقوى الاستعمار من جانب آخر.

في هذا المعنى تحديداً يحتوي الخطاب الناصري على عشرات المقولات والتي من نماذجها قول عبد الناصر “إن الأرضية الأصلية وراء الصراع العربي الإسرائيلي هي في الواقع –على وجه الدقة- أرضية التناقض بين الأمة العربية الراغبة في التحرر السياسي والاجتماعي وبين الاستعمار الراغب في السيطرة وفي مواصلة الاستغلال”.

المدرك الثاني : قومية الصراع : تؤكد وثائق ثورة يوليو، وخطابات عبدالناصر تحديداً في الـ18 عاماً من حكمه لمصر أنه بالإضافة إلى مصيريته ، هو صراع قومي ، صراع بين أمة عربية ذات أهداف وطموحات مشروعة من العصابات الصهيونية كمقدمة للاستعمار العالمي ، وأن القضية لم تكن قضية أبناء فلسطين فحسب ، وإن كانوا هم الطليعة والمقدمة في عملية المواجهة السياسية والعسكرية مع إسرائيل ، فالقضية قضية صراع قومي بالأساس.

المدرك الثالث : حضارية الصراع : لقد أكسبت ثورة يوليو الصراع العربي- الصهيوني سمة هامة أثبتت التطورات الأخيرة وخاصة وتنازلات دول الخليج ومصر ومعهما أبومازن ووثيقة حماس السياسية التي تعترف ضمنياً (وليس صراحة بحدود إسرائيل !!) هذه التطورات المؤسفة التي تعيشها قصة الصراع اليوم تؤكد صحة رؤية (ناصر وثورته) حول حضارية الصراع، حيث الصراع مع إسرائيل ليس فقط مع مجموعة من العصابات الصهيونية القادمة من أوروبا والأمريكتين ولكنه صراع مع “الجذور” التي تنتمي إليها تلك العصابات وهي الجذور التي تُشكَّل الوجه الحقيقي للصهيونية السياسية، وحيث تمتد هذه الجذور لتصل إلى جوهر الحضارة الغربية، إلى طبيعته العنصرية التي قامت عليها هذه الحضارة، وإلى الوجه العدائي الذي مَيَّزها في نطاق تعاملها مع غيرها من الحضارات وتحديدا الحضارة العربية الإسلامية، وإلى الطبيعة الأنانية والفردية والعدوانية، وفي هذا السياق يقول عبدالناصر : (إن الاستعمار قد سلك في سبيل ذلك كل الوسائل الخبيئة والخبيثة، فهو لم يكتف بأن يكون له عملاء يتسترون بالوجوه الوطنية ليكونوا أكثر فاعلية في خدمته، وإنما أقام لنفسه بين الدول العربية دولة عميلة تتكلم باسمه، وتسير على نهجه وتكون رأس جسر لأغراضه، وحربة في قلب قارتنا تسعى للسيطرة بما تقدمه من قروض واستثمارات لتسيطر على اقتصادياتها بالاحتكارات الاستعمارية”.ويؤكد ما يعنيه أكثر حين يقول “حينما نعالج قضية فلسطين لا يمكن أن نتصور أننا نعالج قضية سهلة، إنها قضية إسرائيل ومن وراءها، وهي بوضوح أكثر قضية أمريكا).

تلك هي مدركات عبدالناصر وثورته للصراع مع الكيان الصهيوني، حيث هو، صراع مصيري – صراع قومي.. صراع حضاري ! .

ثانياً : إدارة عبدالناصر للصراع :

إن المتأمل في الموروث الخطابي، وفي المواقف السياسية لجمال عبدالناصر يخرج بثلاث منطلقات مثلت لديه المرتكزات الرئيسة في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني ونحسب أنها لاتزل فاعلة في واقعنا المعاصر الذي تملأه (داعش) وأخواتها من جماعات الإرهاب التي حرفت البوصلة بعيداً عن فلسطين، تلك المنطلقات هي :

(1) إن إدارة الصراع تنطلق من مبدأ رئيسي وهو أن هذا الصراع صراع طويل الأجل متعدد المستويات وليس فقط صراع القوة المسلحة أو المواجهة العسكرية المباشرة فوق بقعة واحدة فحسب، وهو أيضاً صراع متعدد الأطراف (الإمبريالية–الرجعية–الاستعمار–إسرائيل) وفقاً لأدبيات عبدالناصر وجيله !

(2) أن حل الصراع العربي – الصهيوني يأتي من حل الصراع العربي – الغربي بأبعاده الأيديولوجية والاجتماعية وبأبعاده التاريخية الحضارية، وفي هذا السياق وجدنا في خطابات عبدالناصر ووثائقه المنشورة أنه كان يؤكد دائماً أن حسم الصراع لا يمكن أن يتم في الأجل القصير أو المتوسط أو بالقوة العسكرية فقط إن حسم الصراع له مستوياته ودرجاته ، من أمثلة الإحالة للأجل الطويل ، يقول عبد الناصر للصحفي الهندي كرانجيا فى حواره الشهير معه فى 6/2/1964 “سيعودون ، ولقد جاء وقت في الماضي استطاع فيه الاستعمار المستتر بالصليبية احتلال أرضنا في فلسطين لمدة 70 عاماً طوالاً ولكن العرب واصلوا القتال من أجل أرضهم إلى أن استعادوها في النهاية وليس لدىّ شك من أن التاريخ سوف يعيد نفسه ” ، إنه الإدراك التاريخي لدى عبد الناصر يوطده الإدراك الأيديولوجي وخبرة عبد الناصر حين حوصر في الفالوجا (1948) فميزا رؤيت بهذا العمق والدقة !! .

(3) المنطلق الثالث لدى عبد الناصر في إدارته للصراع العربي الإسرائيلي هو تحديده أن مجال المعركة ومتطلباتها ينصرف أساساً إلى مواجهة العوامل التي تعوق تقدم حركة الثورة العربية التقدمية والتي لخصها عبد الناصر – هنا – في :أ) ظاهرة التخلف .ب) ظاهرة التجزئة..من ثم صار منطلقه بهذا الصدد تحقيق التقدم والعدل الاجتماعي والسياسي، مضافاً إليه وموطداً له تحقيق الوحدة العربية كوسيلة نحو المواجهة الكبرى.

(4) إن ثلاثية ” الحرية – الاشتراكية – الوحدة ” كشعار تاريخي حاول عبدالناصر تحقيقه طيلة الـ18 عاماً من حكمه لمصر، يقدم نفسه هنا كمنطلق رابع وأخير حيث رأى (ناصر وثورته) في مجمل وثائقه وخطاباته أنه بدون تحقق هذه الثلاثية خاصة فى البلاد العربية المحيطة بفلسطين، فإن المواجهة مع العدو الصهيوني ستكون فاشلة.

***

* وبعد .. ما أشبه الليلة بالبارحة، في هذه المدركات والمنطلقات في فهم وإدارة الصراع مع العدو الصهيوني، كما أدركها ومارسها ناصر، لاتزال حاضرة وصحيحة رغم تباعد السنين (مات عبدالناصر في ستمبر 1970 أى منذ 47 عاماً !!)؛ إن الإخفاق الكبير اليوم، يعود – في تقديرنا – وفي جزء رئيسي منه إلى فقدان الفهم الأصيل لجوهر هذا الصراع كما أدركه عبدالناصر، من كونه صراع وجود وليس صراع حدود ولأن من يتصدرون لعملية المواجهة اليوم، غير راغبين أصلاً في فهم الصراع باعتباره (صراع وجود)، لذلك فشلوا، وهزموا ولايزالون يُهزمون؛ إن الحل في تقديرنا هو إعادة امتلاك وإحياء ذات الأسس الناصرية لفهم وإدارة الصراع مع الكيان الصهيوني، وهي أسس تنتهي دائماً إلى القول مع عبد الناصر وثورته ورحلة مواجهته الطويلة مع هذا العدو، إلى مقولته التاريخية أن”ما أخذ بالقوة لن يسترد بغير القوة”،لماذا؟لأنه ورغم أية انتقادات لزمن وتجربة عبدالناصر،فإنه الطريق الصحيح في الصراع مع العدو الصهيوني، هكذا تقول سنن التاريخ وحقائق الجغرافيا،وهي الحقائق التي حركت ذات يوم شاعراً كبيراً مثل محمود درويش ليقول وعيونه على فلسطين منطلقاً فى فهم ناصر وإدراكه لطبيعة الصراع الممتدة والمصيرية إلى القول شعراً:(سنطردهم من إناء الزهور..وحبل الغسيل سنطردهم من حجارة هذا الطريق الطويل) !!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى