في ذكرى رحيل مؤسس البعث .. مفكر التنوير والعقلانية !

نستذكر رحيل مؤسس البعث الاستاذ ميشيل عفلق في حزيران من كل عام بالمزيد من استنطاق درسه القومي الكبير وتناول وتحليل بعض جوانب هذا الدرس الثري المخصب الذي لا يزال يقدم حتى اللحظة لدعاة التنوير والنهضة نقاط بداية فكرية وتشخيصات تأسيسية هامة تسعف في فتح آفاق نوعية في مجالات التنوير والتغيير ، ذلك أن فكر مؤسس البعث قد تأسس على تدشين رسالة قومية نهضوية تتضمن أفكاراً تنويرية  ، عقلانية ، ثورية  المنحى والمسار وذات طابع جمعي وتواصلي  ولم يكن مجرد داعية ومؤسساً لحزب تقليدي وحركة سياسية مرحلية وحسب .

وكان العنوان الأساس لفكره التنويري الدعوة إلى البعث والانبعاث كأطروحة استنهاضية متعددة الأبعاد والدلالات تبدأ برفض الواقع القائم والانقلاب عليه وإعادة بنائه على قاعدة التنوير والعقلانية والتأسيس  لبدء تاريخي يستنهض في الأمة العربية كل مقومات التغيير والانقلاب والنهضة ويوجه دعوة لصناعة التاريخ العربي المغاير وعهد البطولة الجديد ، وتأسست دعوته من الناحية المنهجية على قراءة نقدية نوعية لواقع الأمة العربية منذ بدايات القرن العشرين وفترة ما بين الحربين العالميتين وما تلاها وقدم من ثم تحليلاً عميقاً للظاهرة الاستعمارية وسبل مواجهتها  وحدد للأمة أهدافاً جمعية وجامعة يمكن عن طريقها وضعها على الطريق التاريخي المحقق لوجودها واستمرارها والمعبر عن استجاباتها الحضارية والتاريخية .

وكانت الدعوة للانبعاث قومية الأبعاد إنسانية المحتوى وخاطبت الأمة بمجموعها ولم تخاطب فئة أو جماعة منها ولذلك كانت من خلال المضامين الفكرية التي قدمها مؤسس البعث فكرة شمولية تنويرية الفحوى والمقتضى ، وإنسانوية توجهت إلى الإنسان العربي لبناء ذاته بناءً هوياتياً قومياً استقلالياً وربطه بتاريخه برباطات وثيقه وحفزه على اكتشاف ذاته وقدراته وتحويل وجوده إلى حضور في التاريخ وليس غياباً  وهامشية وعدمية إزاء ما يجري فيه من متغيرات وتحولات .

والانبعاث كما أراده مؤسس البعث هو اشتقاق وتخليق لوعي جديد يقوم على الحرية والتحرر والاستقلالية والتجدد الحضاري والإنشباك مع قضايا العصر والعالم ، ويتطلب  تأسيس إدراكات جديدة حول الواقع العربي ومهمات الوجود الفاعل ، وهو من جهة أخرى تغيّر وتغيير ، تغيّر على صعيد الذات وانحياز لوعي تاريخي حافز ، وتغيير للماحول والمجال واستعداد وتوثب دائم للمشاركة الايجابية في صياغة الحاضر والمستقبل .

والانبعاث بهذه المثابة هو انتقال من حالة دهشة وخمود وانحسار إلى حالة وعي وامتداد وتطلع تفاؤلي إلى المستقبل ، وهو تطلع تاريخي يرنو إلى إنبعاث صورة جديدة ايجابية لمواطن عربي يدرك ذاته وقدراته الانسانية ويدرك واقع أمته وينطوي على رسالة ومهمات تاريخية   (ولعل غياب هذه الصورة الانبعاثية التي رسمها مؤسس البعث عن خيال بعض من انتموا إلى الحزب هي من العوامل التي باعدت بين الفكر والممارسة في أحايين كثيرة وأسهمت في خلق الصور السلبية اللاحقة التي لا تزال قيد التداول حتى لحظتنا الراهنة ) .

وأنشأ مؤسس البعث ودعى في كتاباته التأسيسية إلى عقلانية سياسية عربية لمواجهة اللاعقلانية السياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة التاريخية – السياسية الحرجة والانتقالية التي بدأ فيها الاستاذ يطرح أفكاره حول البعث والانبعاث والتي تمثلت بالامميات المتخيلة التي دعت إليها بعض التيارات وحاولت توطينها في الواقع العربي بطرائق اعتباطية .

وقامت عناصر عقلانيته في منهجيتها على نقد الواقع العربي ورفع الحصانة عن الكثير من الأفكار السائدة وتخليص الفكر من ذهنيات وفكريات كانت تعيق حراكه التاريخي وتقف حجر عثرة في طريق انتقاله من الوهم والمثالية والتجريد النظري إلى الاشتغال بمعناه التاريخي واستخلاص خط الجماهير وصور الواقع العربي المرتجى لتكون حافزاً ومطلقاً للإبداع والتغيير ، وطرح أفكار حداثية جديدة وجاذبة تخلص الواقع السياسي العربي من متاهاته وانشطاراته وشططه وتضخ فيه تجارب وأفكار قد تسهم في بناء فكر عربي معاصر وقادر على استيعاب العصر والمعطيات وحركة التاريخ والتحولات الشاخصة .

وأنشأ مؤسس البعث في مدارات أفكاره التنويرية موقفاً متقدماً عن الدين بين من خلاله أهمية الدين الاسلامي بالنسبة للأمة العربية ولأبناء الأمة جميعاً بما فيهم أبناء الدين المسيحي باعتباره يؤطرهم  في سياق قومي وحضاري واحد ويشكل خلفية ومرجعية لانتمائهم القومي ، كما بين ارتباط القومية العربية  بالدين الاسلامي واقتران نشوء القومية العربية بالدين  ، وميز بين الدين بمعانيه الأصيلة والسامية والدين – القناع الموظف لأغراض سياسية واجتماعية لبعض الجهات ، واعتبر الدين الاسلامي  ثورة نموذجية في حياة العرب وحّدت صفوفهم ونقلتهم من الجاهلية إلى حالة حضارية متقدمة.  وقد تكون أطروحته عن الدين الاسلامي من بين أبرز وأهم أطروحاته النظرية التنويرية التي أشارت إلى دور الدين في الحياة العربية وحسمت الجدل حول علاقة العروبة بالإسلام بما بينته من تفاصيل ومفردات لا تزال تشكل مرجعية لدراسة هذه العلاقة كما لا تزال لها دلالاتها وحضورها في الجدل والسجال الفكري الدائر حتى يومنا هذا .

في ذكرى رحيل الأستاذ واستعادتنا لبعض أطروحاته النظرية وأفكارة التنويرية لا نتحدث عنه كتراث ماضوي بقدر ما نرى أن تأسيساته النظرية لا تزال معاصرة لنا وتندرج على جدول اعمال الحاضر العربي ولا تزال تشكل مساحة للتفكير ببعض مسائل الواقع العربي ، إذ ما أحوجنا في المرحلة الراهنة إلى فكر التنوير والعقلانية السياسية وطرح تصور جديد عن الدين وتوظيفاته السياسية الخاطئة وقد نجد الكثير في فكر الأستاذ مما يفيد في تعميق هذه القضايا في العقل العربي وإنضاج وعي حولها كما قد يتيح ذلك حضوراً متواصلاً ومتجدداً لإسهاماته في تطوير وتحديث الفكر العربي واستذكاراً لدوره في النضال العربي   وليكون كل ذلك استحضاراً لفكره ونضاله وسبّة في تاريخ الغزاة الذين جاءوا برابرة ومغولاً لبغداد عام 2003 واقتلعوا ضريحه من  أرض العراق تحت وهم اقتلاع فكره وحضوره الذي لا ينقطع .

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى