القُدسُ.. خمسون حسرةً وألمًا وحزنًا وأكثر

تمضي أعوام القدس مجدبةً قاحلة، والمدينة منذ ما يربو عن 69 عامًا مسربلةٌ بقيد المحتلّ، ذلك القيد الذي ران على صدر المدينة الوادعة، وأباد ذاكرة المكان، مدمرًا الحجر ومشتتًا ما بقي من البشر… لم تكن المشكلة في قيد المحتلّ فقط، بل بما أراده وخطط له وعمل على تنفيذه ذلك المتغوّل، بالبارود والنار، أو بالقانون الجائر والأمر الواقع، متغلبٌ فيه جنون نيرون وعنجهيّة أخيل، يحاول قضم تاريخ وحاضر ومستقبل المدينة، احتلالٌ عابثٌ حتى الثمالة، تترنح وحشيته في أسمال دولة دخيلة على شرقنا المقهور…

لم يُدرك الاحتلال أن للقدس روحًا علويّة، روحًا يعزّ عليها الخنوع، وتأبى الذلة والمهانة، وهي على ما بها من سموٍ ورفعةٍ وشرف، فيها رقةُ بنية تلهو في أزقة القدس، تتطلع بعينيها السوداوين صوب الأقصى، تتهادى لأبوابه بدلالٍ وتطلع، هو مكان الترويح عن النفس، وحضن الأبوة الدائم… وفيها كذلك إباء أسير يشمخ في وجه سجانيه، وشجاعة شاب يخوض الوغى وسلاحه إرادةٌ وسكين جيب.. روح القدس تائهةٌ منذ خمسين سنة وأكثر، لا لعدد السنوات التي تتابعت ويداها مغلولتان، بل من هول ما شاهدته وعاينته في تيك الأعوام المتطاولة، روح انحسرت في بقعة يطلقون عليها شرقي القدس بعد ما قضى الاحتلال على غربيّها، تراها تطلّ من جبل المكبر، ترقب أطلال ما بقي في تلك القطعة الحبيبة، وتحاول أن تلمح عائدًا يطمئنها بأن في ذلك الطلّ ثغاء طفل ما هدّه البعد والحرب… وبقيت تنتظر…

لم يكن انتظارها ضربًا من العبث، فقد كانت تستجمع أطراف أشجانها، تلملم انكسار من فقدتهم، وتعلل نفسها بالعودة إليهم كرةً أخرى، وبأن المدينة لا تموت، حلم العودة داعب مخيلة تلك المدينة البريئة تسعة عشر عامًا، ظنت بأن الغائبين هم في مدارج العودة، ولكنها لم تتصور بأن ذلك الوحش سيأتي إليها، وأسنانه تقطر من دماء من أحبتها ومن رعتهم في كنفها.. وينقض عليها ذلك الوحش محاولًا خنقها من جديد… ولكن هذه المرة في مركز نورانيتها، وأسّ انبعاثها… وتظلُّ الأماني أحلامًا مجهولة، لا يمكن – أحيانًا – أن تتحقق…

دخل الاحتلال لما بقي من القدس الجريحة مزهوًا طربًا، وأخاديد الزمن تذرع وجه المدينة الحييّ، بحسرات واقع مكلوم، وأوجاع أخرى مؤجلة لأيام قهرٍ قادمة… طوت القدس سنواتها العجاف، وأصبحت الأعوام تتلاحق في نزفٍ متتابع، وروح المدينة تترنح من هول الواقع ومرارته… لقد تعمقت جراح المدينة أكثر، وأصبحت قانية دائمة النزف، فالخسارة لا تقاس بمنطقٍ محدد… قضم المحتل بعد احتلال المدينة مباشرة حارة المغاربة، وأحالها كومة تراب في مهب مشروعه، واستولى على حائط البراق، وجعله لذلك البكاء المصطنع السخيف، ولم تندمل ندوب حريق الأقصى بعدها بعامين فقط، واختفى منبر الملك الصالح نور الدين، الذي أرسل حبه للقدس منبرًا للتحرير، لم يرَ منبره في كنف الأقصى، لكن يوسف الأيوبي أبرّ له وعده، وبقي المنبر رمزًا للاجتهاد والجهاد والوفاء حتى تآكلته النيران، وأحالته رمادًا…

وتستمر المدينة بالنزف، فجراح الإنسان تُشفى بالعناية والتضميد، ولكن جراح المدن عصيةٌ على الشفاء، فكيف بجرح الذاكرة وتلف الروح… والاحتلال لا يترك فرصة إلا ويُعمل سكينه الصدأة القذرة في جسد المكان والتاريخ، ويزيد ما قد انكلم فيها، وينثر ملح التهويد فوقها، فتنتفض القدس من ألم وخسران…

خمسون عامًا مضت على احتلال القدس، وتلك المقولة التي تجف في رمق عربيّ يزيل عن كاهله حسرات الأعوام المكتومة، وينطقها بقليلٍ من الحنين “لا عمر لها أو صلاح”، ويؤوب إلى ملاذه، وتلك الأكوام المتراكمة من هموم يومه وجراح أمسه تحاصره، يلتحف قهر أنظمة البؤس ويحلم بصلاح الدين يحرر القدس، أو على الأغلب برغيفٍ ساخن يلقمه لابنه من غير جراح في اليد أو في الضمير.

خمسون عامًا مرت على القدس والأقصى، بل هي خمسون حسرةً وألمًا وحزنًا وضياعًا… والاحتلال جسم سرطاني ينتشر في أرجائها، ويشرع الباب لكلابه تنهش جسد المدينة، وتفتك بأحشائها، ويذرعها بمكوناتٍ وصروح دخيلة عليها، تغيّر معالمها وتطمس تاريخها، أجسادٌ فارغة مهما حاول الاحتلال أن يلبسها لبوس البهاء والجمال، ستبقى مسوخًا تجول في المدينة كجثث أموات مهترئة.

خمسون سنة من التهويد، والقدس لم تعد تحصي آلامها، ولم تعد تعي وتذكر من فقدتهم، كثر الراحلون عنها مضطرين مغلوبين، فمنطق المتغلب لا يرعوي في زمنٍ لا يعرف إلا لغة الأقوياء… ولكن القدس ستبقى عصيّة على الخضوع، وهي ترفل في ثوب قدسيتها الأجلّ، ومآثر الأنبياء والصالحين تحفّ بها من كل حدبٍ، تتلطف معها، وتأخذ بيدها، تقول لها بأنها لن ترى صلاحًا فزمن الأبطال قد ولى منذ أمدٍ بعيد، ولكنه زمن آلاف الأبطال الصغار، الذين سيأتون لا محالة، ولو بعد حين…

ومع أن المشهدية بالغة القتامة، ومع أن الواقع لا يُنبئ إلا بمزيدٍ من ضمور الأفعال، إلا أن التاريخ يعلمنا بأنه ما دام احتلالٌ مدى الدهر، وما كتب لكيانٍ دخيل أن يعيش أبدا، وما يقوم به الاحتلال لخنق القدس وَوَأد روحها، ما هي إلا إرهاصات نذير قادم، ونبوءة انبعاثٍ متجددة، طال انتظاره في مسارات متشابكة من اللاممكن واللامعقول… ولكنه لن يرتبط بأسمال سياسيين أضاعوا وفرطوا، ولا بمسارات متأزمة من الخنوع والتماهي مع الاحتلال، ولن يمرّ طريق القدس إلا من فلسطين… وفلسطين فقط. انبعاثٌ سيحمله شبان بعمر الزهور، ومقاومة عرفت كيف تواجه المحتلّ، واستحقت أن تتموضع في قلوب الملايين.. ومرابطين أرعبوا الاحتلال ولا يحملون إلا مصحفًا، تتهادى آياته على شفاهم دفاقة قوية.

خمسون عامًا والثأر كامنٌ في نفوس الأحرار، سنراهم كأجدادهم الأوائل، رهبان ليلٍ، آساد نهار، وستعود القدس، لا من وعد بشر مهما علا فضله وشأنه، ولكنه وعد رب العالمين…

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى