السياسة الفلسطينية: الأولوية للعبة أم للاعب؟

 

أصبح في حكم المؤكد أن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية ستستأنف قريبًا من دون وقف الاستيطان ومن دون بقية الشروط التي كان يرددها الرئيس محمود عباس. ولتقييم هذا الموقف، هناك أكثر من وجهة نظر، سأعرض اثنتين منها، وهما الأكثر أهمية وتعبيرًا عن الاتجاه العام:

وجهة النظر الأولى ترى أنّ لا مفر أمام الرئيس سوى الموافقة على الانخراط في العملية السياسية القادمة بغض النظر عن الثمن الفادح الذي سيدفع جراء ذلك، لأنه عبر هذا الطريق يمكن تقليل الخسائر، والحصول على مكاسب سياسية واقتصادية، كالاعتراف بوجود شريك فلسطيني، والمساهمة في الحلف الجديد الذي يشكله الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتحميل إسرائيل المسؤولية عن فشله في تحقيق صفقته “التاريخية” التي يبشر بها، ولو من خلال إظهار مواصلة وتعميق أهمية الدور الأمني الذي تقوم به السلطة في مكافحة “الإرهاب”، وتوفير الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.

كما من الفوائد المترتبة على الموقف الفلسطيني هذا إمكانية فتح تعديل اتفاقية باريس الاقتصادية، والاستثمار في مناطق (ج)، وتسهيلات متنوعة على المعابر وغيرها، وإنهاء أو تخفيف حدة الخلافات الفلسطينية العربية، خصوصًا مع أطراف اللجنة الرباعية العربية التي تفاقمت العام الماضي بعد طرح خطتها للوضع الفلسطيني.

ويعزز بعض أصحاب وجهة النظر هذه حججهم بالقول إن المصالحة ليست على الأبواب نتيجة تعنت “حماس”، وعدم استعدادها لتمكين حكومة الوفاق الوطني أو حكومة وحدة وطنية ملتزمة ببرنامج الرئيس والتزاماته، وأن الرئيس إذا لم يغير موقفه سيفتح باب المواجهة مع ترامب، ما سيزيد الضغوط الممارسة ضد السلطة، وتزايد مساعي البحث عن بديل أو بدائل أخرى.

أما وجهة النظر الثانية، فتعارض الالتحاق بالمفاوضات على أسس أسوأ من المفاوضات السابقة، التي لم  تؤد إلى تقليل الخسائر والحفاظ على الوضع ومنعه من التدهور، بل أصبح التدهور متزايدًا على جميع المستويات والأصعدة.

من ينظر الآن إلى مكانة القضية وترتيبها في سلم الأولويات في المنطقة والعالم، يجد أنها تراجعت بصورة تنذر بالخطر الشديد، ومعرضة للتصفية إذا نجحت خطة ترامب القائمة (التي يتم التغني بالانضواء تحت مظلتها) على تقديم الحل الإقليمي، وتشكيل حلف ناتو، وتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل أولًا، ما يعني وضع القضية الفلسطينية والفلسطينيين تحت رحمة اليمين واليمين المتطرف الذي يحكم إسرائيل. والجدير ذكره هنا أن تعنت الحكومة الإسرائيلية لن يقود بالضرورة إلى تحميل إسرائيل المسؤولية عن الفشل، وإنما من المرجح تشديد الضغط على الفلسطينيين وتوظيف العرب في ذلك لجعلهم يقدمون تنازلات أكبر.

إن استئناف المفاوضات من دون وقف الاستيطان وبلا مشاركة دولية ولا مرجعية ملزمة سيغطي على تكثيف الاستعمار الاستيطاني، ويشجع إسرائيل على المضي في فرض شروطها وإملاءاتها على الفلسطينيين الكفيلة بتحقيق الحل الإسرائيلي، مدعومة مما تعتبره فرصة تاريخية جراء ما يجري في المنطقة العربية من حروب وصراعات تستنزفها، ومن إدارة ترامب التي هي ليست مجرد داعمة لإسرائيل، بل هي صهيونية كما قال عن حق عاموس يدلين، مدير مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، في تعليقه على خطاب ترامب في إسرائيل.

إن وجهة النظر هذه تصر على ضرورة توفر قناعة عميقة باعتماد إستراتيجية مغايرة، والإقلاع عن التهديد اللفظي بها أو باستخدامها المحدود في السنوات الماضية، حيث جرى التهديد بالمقاطعة، والمصالحة، والمقاومة الشعبية، والتدويل، وخصوصًا تفعيل العضوية الفلسطينية في محكمة الجنايات وغيرها من المؤسسات الدولية، باعتباره تكتيكًا لتحسين شروط العودة إلى المفاوضات، وليس باعتباره إستراتيجية ترمي إلى تغيير أسس وقواعد ومرجعية المفاوضات. وانتهى الأمر بالاستعداد لاستئناف المفاوضات بشروط أسوأ من قبل.

المطلوب تغيير الإستراتيجية المعتمدة منذ اتفاق أوسلو، التي تفاقمت بعد اغتيال ياسر عرفات، بإستراتيجية تقوم على السعي لتغيير موازين القوى، وتعزيز مقومات الوجود والصمود، وإحباط المخططات الإسرائيلية، عبر الانطلاق من أن القضية الفلسطينية تمر بمرحلة تحرر وطني تتداخل معها بشكل جزئي مهمات البناء الديمقراطي، وأن الحل ليس على الأبواب، لأن إسرائيل، خصوصًا في المرحلة الحالية، ليست جاهزة ولا مستعدة لأي حل يحقق أي حق من الحقوق الفلسطينية، وماضية في تطبيق الحل الإسرائيلي خطوة خطوة عبر سياسة الضم الزاحف للاستعمار الاستيطاني، وخلق الحقائق الاحتلالية على الأرض، وسن المزيد من القوانين العنصرية.

وتتضمن هذه الإستراتيجية كذلك إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، وتفعيل المؤسسات الفلسطينية وإصلاحها وتجديدها وتغيير أسلوب عملها وإعادة بنائها، والتركيز على الوضع الداخلي، بما يحفظ سيادة القانون والتعددية والمشاركة وتكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن الدين والجنس واللون والجهوية والعائلية والعقيدة.

كما تشمل احترام المؤسسات والعمل الجماعي والمساءلة والمحاسبة، وضمان استقلال القضاء بدلًا من الإمعان في سياسة القضاء عليه، ومكافحة الفساد والهدر والمحسوبية وقلة الإنتاجية، والاحتكام إلى الشعب عبر إجراء الانتخابات الدورية المنتظمة على جميع المستويات والأصعدة حيثما يمكن ذلك، بما يضمن إنهاء حالة الفردية والتفرد وبقايا المحاصصة الفصائلية وجمع كل السلطات في يد سلطة واحدة وشخص واحد، واحترام حقوق الإنسان وحرياته.

إن إعادة إنتاج العملية السياسية في ظل المعطيات الراهنة، المحلية والعربية والإقليمية والدولية، لن تؤدي إلى الحفاظ على القضية، وإنما – في أحسن الأحوال – إلى الحفاظ على السلطة وبقاء الرئيس، ولن تحقق مكاسب اقتصادية معتبرة. فإسرائيل تحرص دائمًا على أن يبقى الوضع الفلسطيني على حافة الانهيار.

حاول أبو مازن طوال حكمه الحفاظ على الوضع الراهن إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وتجنب الاستسلام والمواجهة مع أنها مفروضة على الفلسطينيين، إلا أنه لم يستطع المحافظة على الوضع، رغم التنازلات الكبيرة والمستمرة، وسيكون من الصعب عليه تجنب الاستسلام في الفترة القادمة إذا أراد البقاء بموقعه وإستراتيجية المفاوضات، وإذا لم يستسلم سيكون الموقف الفلسطيني أضعف عندها، وتصبح إمكانية إزاحته وخلق البدائل منه أكبر. فقد ضاعت سنوات ثمينة كان يمكن توظيفها لبناء البديل الواقعي عن أوسلو بصورة تدريجية، وخطوة وراء خطوة.

ما يرجح كفة وجهة النظر الثانية أن أهمية القضية الفلسطينية تنبع من أنها عامل عدم استقرار، ويجب المحافظة عليها كذلك، ومن استعداد الشعب المستمر للدفاع عنها، وأنها تمنح أو تحجب الشرعية للدول والحركات العربية وفي الإقليم، لذلك الموقف الفلسطيني مهم جدًا، ومن دونه لا يمكن أن ينجح ترامب في سياسته لتغيير سلم الأولويات بحيث تُطبع العلاقات العربية مع إسرائيل أولًا، بما يؤدي إلى أن تصبح القضية الفلسطينية ثانوية. وليس إنجازًا أن تكون لاعبًا في لعبة جوهرها يستهدف الحقوق والمصالح الفلسطينية.

لولا “انتفاضة السكاكين” التي انطلقت في تشرين الأول 2015، ولولا الإضرابات الفردية للأسرى، وصولًا إلى إضراب “الحرية والكرامة”، وحركة المقاطعة والمقاومة بكل أشكالها، خصوصًا المقاومة الشعبية ومقاومة الاستيطان والجدار؛ لما بقيت القضية حية وفرضت حضورها على الجميع، ولما اتصل ترامب بأبو مازن واعتبره شريكًا.

هناك طريق آخر واقعي ليس مغامرًا ولا خاضعًا للواقع، يهدف إلى إزالة الاحتلال وليس إلى تحسين شروط الحياة تحته. طريق المشاركة والوحدة الوطنية بدلًا من التنافس على الخطوات الانقسامية. فـ”حماس” الآن في ظل وضعها المأزوم جدًا إذا طُرح عليها عرضًا أن تكون شريكًا كاملًا في النظام السياسي وفق ما تستحق  ليس أقل ولا أكثر فيمكن أن تقبله، وإذا رفضته ستعزل نفسها، وربما تتشرذم، وستكون الغالبية الشعبية ضدها، أما وضعها أمام خيار “إما أو”، أي أن تخضع طواعية أو مجبرة عن طريق تشديد الحصار وتجويع الشعب، فهذه ليست سياسة حكيمة ولا واقعية.

الهدف الوطني ليس بقاء السلطة ولا الاعتراف بالشريك الفلسطيني ولا بالرئيس، فلتذهب السلطة إلى الجحيم، وإنما الهدف الاعتراف بالشعب وحقوقه. لقد دفعنا ثمنًا باهظًا لإعطاء الأولوية للاعتراف بالقيادة في أوسلو وليس بالحقوق، الأمر الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه. وإن الاستمرار في هذا النهج سيوصلنا لما هو أسوأ بكثير. سيوصلنا إلى ضياع القضية والحقوق ومفاقمة معاناة الشعب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى