هكذا استطاع كبار المبدعين تقطير ابلغ الادب من مطارح الالم

اشتهر عدد من كبار المبدعين العالميين بقدرته على توليد الامل من قلب الالم نظرا لان الالم قدر العظماء، ولذلك لم نسمع على مر العصور بشخصٍ عظيم لم يواجه عقبات كثيرة في حياته.

نعم.. هناك من تصدَّى وقاوم، حتى تحول الى انسان آخر مختلف، حيث حوله كفاحه ضد الآلام الى شخص قوي ومتمكن يستطيع الغوص في أعماق الحياة، والنفس البشرية.

فيما يلي باقة من ابرز الأدباء المبدعين في العالم الذين عانوا كثيراً في حياتهم, ولكنهم حولوا هذا العناء الى عطاء ادبي رفيع..

1- فيودور دوستويفسكي

وُلد الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي عام 1821، بموسكو لأب يعمل طبيباً عسكرياً، وكانت والدته ابنة أحد التجار، وترتيبه الثاني من بين 7 إخوة، انتقل إليه مرض الصرع بشكل وراثي عن طريق والده، الذي كان حاد الطباع، ومدمناً الخمور، وقد عانى دوستويفسكي الفقر منذ الطفولة.

أصابت أولى نوبات الصرع دوستويفسكي، في التاسعة من عمره، واعتاد من صغره الذهاب إلى مشفى مريانسكي، حيث كان يعمل والده؛ ليجالس المرضى هناك، ويستمع لهم، كان ذلك المستشفى يقع في أحد أسوأ أحياء موسكو، الذي ضمَّ بين جنباته أشكالاً متنوعة للبؤس الإنساني؛ إذ احتوى على مجرمين، ومجانين، ودار رعاية للأطفال الأيتام، وأّثر ذلك بشدة في شخصية الأديب الروسي، وظهر في كتاباته.

ببلوغ دوستويفسكي الـ16 توفيت والدته بمرض السل، بالإضافة إلى وفاة شاعره المفضل؛ ما أثار الحزن في نفسه بشكل كبير، وأرسله والده بعدها ليدرس الهندسة العسكرية بمدرسة الهندسة العامة بمدينة بطرسبرغ، ولكن بعد وفاة والده، وحصوله على رتبة ملازم أول ترك الجيش، وآثر الاهتمام بالكتابة؛ والبحث عن المثالية، والتي تنازل عنها فيما بعد عندما أيقن أن النظرة المثالية للأشياء ما هي إلا جمود فكري.

انضم بعد ذلك إلى حلقة زملاء بيتر أشيفسكي الاشتراكية، التي كونت جماعة التفكير المتحرر، والتي اهتمت بمشاكل الفلاحين، من خلال المطالبة بحقوقهم، وضرورة تحررهم، إلى جانب عدة أفكار ليبرالية أخرى، وأدت هذه الخطوة إلى أسوأ محطة في مسيرة دوستويفسكي الشخصية؛ فبعد علم القيصر تسار نيكولاس، بأمر تلك الجماعة التي كانت من الممكن أن تهدد حكمه، حُكم على جميع أعضائها بالإعدام رمياً بالرصاص، ولكن زُيّف مشهد تنفيذ وهمي للحكم، ولم يكتمل تنفيذه؛ إذ صدر مرسوم بتخفيف الحكم في اللحظة الأخيرة، إلى الأشغال الشاقة 4 أعوام، ونفيهم إلى مدينة أومسك عام 1849م، والتجنيد 4 أعوام أخرى.

أما في الجانب العاطفي، فقد عانى دوستويفسكي كثيراً، حتى وجد ضالته؛ ففي البداية، وبعد خروجه من المعتقل، تعرف على الكاتبة ماريا إيسايفا، التي كانت متزوجة، ولديها أبناء، وبعد موت زوجها أعربت لدوستويفسكي، عن رغبتها في الزواج بأحد الأثرياء، ولكنه تزوجها في النهاية، ولم يُكتب لتلك الزيجة الاستمرار؛ فلم تقدم له سوى الألم.

وفي أثناء زواجه، تعرف على الشابة أبوليناريا سوسلوفا، والتي أحبها بشدة، ولكن لم تثمر علاقته بها أيضاً سوى زيادة جرعة الألم العاطفي له، حتى إنها أذاقته العذاب أكثر من غيرها من النساء، وفي النهاية لم يجد قلب الأديب الروسي الراحة إلا بعد زواجه بآنا سنيتكين، التي كانت تسانده في العمل، ولم يتحمل طباعه السيئة غيرها، وظلت مخلصة له حتى النهاية.

ما يتضح من مسيرة دوستويفسكي، أنه كان مؤمناً بأن الإنسان لا يمكن أن ينكشف معدنه إلا في أصعب حالاته، ولذلك غاص باحثاً في أعماق النفس البشرية عن أسرارها، وأهدى الأجيال القادمة من بعده كنزاً أدبياً ثميناً يصعب تكراره.

2- فرانز كافكا

أو كما لقَّبه الأديب الألماني توماس مان بـ”الضاحك الباكي”.. كان كافكا، المولود عام 1883، يهودياً تشيكياً ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، واتسمت علاقته بوالديه بالاضطراب؛ فرغم أنه شخص شديد الحساسية، وفنان، فإنه للأسف وُلد لأب قاسٍ، وظالم. وفي أثناء دراسته بالمدرسة كان كافكا، دائم الخوف من معلميه، ومدير المدرسة، بالإضافة أنه لم يكن لديه القدرة على أن ينهي ما بدأه.

دراسة كافكا، باللغة الألمانية في مدينة لا يتحدث فيها بتلك اللغة إلا قلة قليلة، بجانب كونه يهودياً بين الألمان، ومستقلاً فكرياً عن اليهود الأصوليين- أدت إلى انعزاله اجتماعياً، وقد أكمل دراسته للقانون حسب رغبة والده، ولكنه بعد تخرجه وحصوله على الدكتوراه في القانون، وعمله عاماً من دون أجر بالخدمة المدنية، ترك كل هذا من أجل الكتابة.

ولم يتفهم أبواه سر ميله إلى الكتابة؛ بل كانا يحقّران موهبته باستمرار، والمثير للدهشة أنه على الرغم من كسبه المال لم يستطع الاستقلال عن أبويه؛ لكونه كان دائم الشعور بالرغبة في الهروب من الأشخاص الآخرين، حتى إن ذلك ظهر جلياً في رواياته.

على الصعيد الإنساني، كتب صديقه ماكس برود أن كافكا، في أثناء عمله مسؤولاً عن تقدير التعويضات في “مؤسسة التأمين على حوادث العمال المصابين في أثناء العمل”، أثار استياءه صمتُ الناس عن المطالبة بحقوقهم فعبر عن ذلك بقوله: “ما أشد تواضع هؤلاء الناس! إنهم يأتون، ويتوسلون، بدلاً من اقتحام المؤسسة وتحطيم كل شيء”.

إذا تطرقنا إلى حياته العاطفية، فهي لم تكن أفضل حالاً من حياته العائلية؛ بسبب تحقيره لذاته، ونرى ذلك في رسائله إلى حبيبته ميلينا، والتي يقول لها: “أنا قذر يا ميلينا، قذر بلا حدود، ولذلك أصرخ كثيراً لعدم طهارتي، فكيف من الممكن ألا تشعري تجاهي بالخوف، أو الاشمئزاز، أو أي شيء آخر مشابه لذلك؟”، من هنا نستطيع أن نتفهم حالة السوداوية، والتجرد من العاطفة، التي ظهرت في كتاباته، ولكن يجب أن نذكر في النهاية أن كافكا يظل حالة خاصة في الأدب العالمي.

3- فيرجينيا وولف

وُلدت فيرجينيا في أسرة مترَفة جداً، محبة للأدب، ومتذوقة للفن، وكانت الأسرة مكونة من 8 أبناء؛ إذ أنجب كل من والدها ووالدتها من زيجات سابقة؛ فقد أنجبت والدتها 3 أبناء، وأنجب والدها فتاة، وبعد زواجهما رُزقا بـ4 أبناء آخرين، من بينهم فيرجينيا، والتي تميزت بكونها شخصية مرحة جداً، ورزينة، ومحبة للغير، وبسيطة.

ولكن عند بلوغها عامها السادس، اغتُصبت من أخيها غير الشقيق جيرالد، والذي كان يبلغ من العمر حينها 20 عاماً، ولم يكتفِ باغتصابها فقط، وإنما اغتصب شقيقتها فانيسا أيضاً؛ ما تسبب فيما بعد في ميل فيرجينيا إلى النساء، وجفاء علاقاتها مع الرجال.

في عامها الثالث عشر، أصيبت فيرجينيا بأول انهيار عصبي؛ نظراً لوفاة والدتها، التي كانت العنصر المساند لها في أسرتها، بعد ذلك أخذ الموت يسرق منها أقرب الأشخاص إلى قلبها؛ فقد توفي والدها، ومن بعده أختها غير الشقيقة ستيلا، بالإضافة إلى وفاة شقيقها ثوبي، في الغربة، والذي كانت تحبه بشدة، ولا تتصور الحياة من دونه.

عانت فيرجينيا بعد ذلك، كثيراً، إصابتها بالعديد من نوبات الاكتئاب الحادة، واليأس، وفقدان الأمل، لفترات متفرقة من حياتها، لم تكن أسبابها فقط فقدانها أفراد أسرتها؛ بل أيضاً بحثها المستمر عن ذاتها، وحاجتها للشعور بأنها موهوبة، ويُذكر أن كثيراً من نوبات الاكتئاب كانت تصيبها في أثناء كتابتها العديد من رواياتها، ولكن بمجرد أن ترسل أوراق الرواية لتُطبع، وتُنشر كانت تشعر حينها بالسعادة والراحة، وتُشفى من اكتئابها.

لم تكن فيرجينيا، تهتم لذاتها فقط، فقد كانت دائمة السخط من تقليل شأن النساء وسوء معاملتهنّ في عصرها، وضعف، واستكانة الكثيرات منهن أمام تلك الممارسات، ولذلك بدأت في عام 1916 بإلقاء محاضرات للنساء بمنزلها، كانت موضوعاتها تتعلق بالتربية الجنسية، والعلاقات الزوجية، والتوعية ضد ممارسات التحرش الجنسي بالمرأة داخل الأسرة، واللامساواة بين الرجل، والمرأة، فكرياً، وثقافياً، وسياسياً، وأهمية المرأة في المجتمع، وترتب على ذلك أنه بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتحديداً في عام 1918، أصبح من حق النساء في بريطانيا التصويت.

ولكن، يبدو أنه رغم ما حققته فيرجينيا من نجاحات في حياتها فإن الاكتئاب لم يتركها تهنأ بذلك؛ وفي صباح يوم 28 آذار عام 1941، وضعت حداً لحياتها بعد إصابتها بنوبة اكتئاب عنيفة، عندما استيقظت، ووضعت أحجاراً في جيب فستانها، ثم ألقت بنفسها في نهر “أوس” القريب من منزلها.

يُذكر أنها تركت رسالة لزوجها، أعربت فيها عن خوفها من الجنون، وشعورها بغياب اليقين؛ إذ قالت له فيها: “إنني على يقين بأنني أرجع لجنوني من جديد، أشعر بأننا لا يمكن أن نمر في فترة أخرى من هذه الفترات الرهيبة، وأنا لن أشفى هذه المرة، أبدأ بسماع أصوات، لا يمكنني التركيز، سأفعل ما يبدو أن يكون أفضل شيء ليُفعل، أعطيتني أكبر قدر ممكن من السعادة، وقد كنت أنت في كل شيء كل ما يمكن أن يكون أي شخص”.

4- هيلين كيلر

وٌلدت هيلين بولاية ألاباما الأميركية عام 1880، طفلة طبيعية معافاة لا تعاني أي أمراض، إلا أنه بعد بلوغها عامها الأول أُصيبت بمرض يرجح أنه “الحمى القرمزية”، أو “الحصبة الألمانية”، والذي تسبب في فقدانها السمع والبصر بشكل كامل.

وخلال رحلة علاجها، تعرفت على المعلمة آن سوليفان التي أيضاً كانت تعاني مشاكل في الإبصار، فكانت تتواصل معها عن طريق كتابة الحروف على كف يدها، ثم استعانت بطريقة تادوما والتي تعتمد على لمس شفاه المتحدث وكتابة الكلمات على كف اليد.

عُرفت هيلين بذكائها وسرعة تعلمها، وعند بلوغها سن العاشرة أرادت تعلُّم طريقة برايل للقراءة، ونجحت في أن تحوز إعجاب العالِم الشهير ألكسندر غراهام بيل، والكاتب الأميركي مارك توين؛ لتعلُّمها أكثر من 3 لغات، وحصولها على شهادة الليسانس في الآداب، وأيضاً لكونها أول كفيفة تستطيع الحصول على شهادة جامعية.

أخذت هيلين على عاتقها الدفاع عن حقوق المظلومين، وبالأخص ذوي الاحتياجات الخاصة، لذلك انضمت إلى الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، ومن بعده انضمت إلى المنظمة الأميركية للمكفوفين AFB عام 1942، والتي اختارتها لتتولى منصب سفيرة المنظمة؛ نظراً لجهودها في الدفاع عن حقوق المكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة، حتى إنه اختُرعت الكتب الناطقة بفضلها، وطوال حياتها اعتادت هيلين بث البهجة والأمل والشجاعة في مواجهة الصعاب بين الآخرين، حتى توفيت عام 1968.

5- إرنست همنغواي

وُلد “بابا” كما أطلق على نفسه عام 1899 بالمدينة الأميركية أوك بارك، وبدأ مسيرته ككاتب في إحدى جرائد ولاية كنساس عند بلوغه 17 عاماً، ثم أصبح جزءاً من مجموعة “الجيل الضائع”، التي أسستها الأديبة جيروترد شتاين، وهي مجموعة ضمت المغتربين بمدينة باريس في العشرينات، إلى جانب ذلك عمل الأديب الأميركي مراسلاً صحفياً فترة الحرب الأهلية الإسبانية.

كان همنغواي يرغب بشدة في الالتحاق بالجيش الأميركي، ولكن نظراً لوجود مشكلة بعينيه لم ينجح في ذلك، وعند بلوغه 20 عاماً تطوع بالصليب الأحمر وذلك خلال فترة الحرب العالمية الأولى عام 1918، وعمل سائقاً لسيارة إسعاف، وذات يوم انفجرت قنبلة بجانب السيارة التي كان يقودها ونجا من الموت بأعجوبة، ونُقل إلى مستشفى ميداني قرب مدينة ميلانو الإيطالية، وهناك التقى حبه الأول ويرجح أنها سبب انتحاره.

الفتاة المرحة المحبة للحياة أجنيس فون كورفيسكي، وهي الممرضة الأميركية التي كانت تكبره بـ9 أعوام، أحبها بشدة وأراد أن يتزوجها، لكن بعد تعافيه كان لا بد من عودته إلى أميركا، وهناك اختفت وتوقفت رسائلها إليه.

أخذ همنغواي يبحث عنها كثيراً، ولكن بلغه نبأ غير صحيح بسفرها فجأة إلى لندن وزواجها بالدكتور هارلي، فذهب لصديقتها زيلدا، في المستشفى؛ ليتأكد من الخبر، ولكنها أخبرته بأنها في نابولي بإيطاليا وتزوجت فتىً ثرياً يدعى الدوق دومينيكو كراتشيوللو، فقرر الذهاب إليها وتحدث مع زوجها الدوق الذي أقام حفلة استقبال لإرنست؛ لكونه كاتباً شهيراً ودعاه لحضورها.

ولكن بمجرد أن تُرك إرنست مع حبيبته أجنيس في الحديقة بمفردهما، سُمع دوي إطلاق نار ورأى الحضور إرنست قادماً من الباب المؤدي إلى الحديقة، مخاطباً ذاته قائلاً: “لماذا؟!.. رباه لماذا؟!”، ووجدوا رصاصة في رأس أجنيس، أردتها قتيلة ولكنهم لم يجدوا السلاح المستخدم في قتلها!

وبعد انتحار، إرنست وجد المحقق ورقة بين دفات أحد الكتب بمكتبة عامة في مدينة هيوستن الأميركية، من المرجح أن يكون أخفاها خادمه، كُتب فيها: “لم أعد أحتمل أنها تلاحقني ليل نهار، في عينيها الجميلتين نظرة عتاب مروعة.. لم تكن خائفة مني.. كم كنت نذلاً!.. تعرفين يا أجني أنني لم أقصد”.

يُقال إن همنغواي انتحر في نفس يوم لقائه الأول إياها بسلاح أهداه إليه والده؛ خوفاً من الجنون وتأنيب الضمير، وكان ذلك عام 1961، لم تكن هذه القصة هي جانب الأسى الوحيد في حياته فقد عانى مرضاً نفسياً ثنائي القطب، والاكتئاب كما فشل في الاحتفاظ بصداقاته، بالإضافة إلى فشل زيجاته الأربع، وانتحار والده وأختيه غير الشقيقتين، ومن بعده انتحرت حفيدته، لكن يرجح أن السبب في كل ما حدث وجود مرض وراثي يتمثل في زيادة تركيز الحديد في الدم؛ ما يؤدي إلى تلف البنكرياس، والإصابة بالاكتئاب وعدم الاستقرار في المخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى