بين “النكبة” و”إضراب الأسرى”.. الاشتباك المستمر

 

كتب الروائي المغربي “الطاهر بن جلون” في روايته “تلك العتمة الباهرة”: “الكرامة هي ما تبقّى لي.. هي ما تبقى لنا.. كلٌّ منا يبذل ما بوسعه لكي لا تمس كرامته.. وتلك هي مهمتي أن البث واقفاً أن أكون رجلاً”.

وتناول الأسير المحرر “هيثم جابر” في روايته “الأسير 1578″، أخطر ما يواجه المعتقل وهي مسألة الوقت فكتب: “الوقت/الزمن من العناصر التي تؤذي الإنسان خاصة عندما لا يقدر أن يتحكم فيه، فيكون الوقت هو الحاكم والإنسان هو المحكوم، مفروض عليه أن يخضع له: “لا عين لنهار .. ولا نور شمس، عقارب الساعة تأبى أن تدور، وزمن متوقف في صمت القبور، هنا.. المكان مكفهر وقاتم”.. فالوقت في المعتقل هو أصعب الأشياء؛ إن مرّ بسرعة فمروره صعب، وإن ضنّ على الأسير فهو قاتل بطيء. وفي الحالتين لا يستطيع المعتقل التحكم بهذا الوقت الذي ينغّص عليه تفاصيل حياته.

ففي المعتقل وفي الأوقات العادية تجد الأسير يقاوم كل شيء؛ عتمة السجن، والسجان القاتل، والوقت الذي يمر ببطء وبشكل قاتل، والذاكرة والحنين إلى كل شيء.. أما عندما يخوض الأسير أو الأسرى إضرابات فهذا يعني أن الزمان يتوقف من ناحية، ومن ناحية أخرى يُصنع من جديد. ففي المعركة ضد الاحتلال والسجّان يصنع الأسير بأمعائه الخاوية جسر عبور للحرية. وبهذا لا يبقى للأسير إلا كرامته التي يصنع منها، ومن أمعائه الخاوية، إلا من الإرادة، نصرًا وحرية. وما بين إضراب الأسرى المستمر والاشتباك اليومي ضد السجّان، والفعاليات المساندة والمتضامنة مع هؤلاء الأسرى، يصنع الفلسطينيون تاريخًا جديدًا من النضال المتواصل ضد الغزوة الصهيونية التي مارست عصاباتها التطهير ضد الفلسطينيين منذ العام 1948، عبر ـتدميرها (531) قرية ومدينة فلسطينية بالكامل، وارتكاب المجازر المروعة التي تم إحصاء أكثر من 50 مذبحة موثّقة ارتكبتها العصابات الصهيونية ضد الفلسطينيين، الذين أصبح أكثر من (75%)،  من مجمل عددهم اليوم من اللاجئين.. وقد بيّن الدكتور سلمان أبو ستة أن نحو (5000) شهيد سقطوا في محاولاتهم الرجوع إلى أرضهم بعد طردهم منها!! واستشهاد ما يزيد عن 15 ألف فلسطيني خلال فترة النكبة. ومع أن الفلسطينيين عاشوا “نكبات” عديدة، إلا أن إصرارهم على المقاومة والبقاء جعل الشعب الفلسطيني رقماً صعباً في معادلات مقاوَمَة التطهير، والقدرة على الحفاظ على الهوية الفلسطينية والعربية والإسلامية.

وقد جاء التطهير العرقي الذي نفذه الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني في إطار إستراتيجية إسرائيلية متكاملة وتجسيداً للنزعة الإيديولوجية الصهيونية التي استهدفت أن تكون فلسطين لليهود حصرًا، عبر إخلائها من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. وناقش الدكتور “إيلان بابه”، أحد المؤرخين الإسرائيليين الجدد، في كتاب (ناقشه وعرضه: صلاح عويس)، التطهير العرقي في فلسطين، والذي تضمّن سبعة محاور للإستراتيجية الإسرائيلية لشل قدرات الفلسطينيين، وهو شهادة تفصيلية موثّقة وحافلة بالأسماء والأرقام والوقائع قدّمها “إيلان بابه” حول حقائق التطهير العرقي الذي نفذته العصابات الصهيونية المسلحة قبل النكبة في 1948. ولم تكتف العصابات الصهيونية بذلك، بل تلازم مع إقامة “إسرائيلذ” أكبر عمليات التهجير القسري في التاريخ الحديث، والتي أسفرت في البداية عن طرد نحو مليون فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم، وتعرض أصحاب الأرض الحقيقيون للمذابح، وتدمير مئات القرى الفلسطينية عمداً في مؤامرة “تطهير عرقي” صهيونية بمعايير القرن الحادي والعشرين، بالرغم من المحاولات الصهيونية لطمس معالمها ومحوها من ذاكرة العالم.

ويشدّد “إيلان بابه” خلال محاضرة له جرت مؤخرًا، أن المشكلة المطروحة اليوم فيما يتعلق بفلسطينيي الداخل المحتل “لا تتعلق بالحقوق بل هي وجودية، لأنهم ببقائهم قد أفشلوا المشروع الصهيوني ببقائهم وصمودهم”.

ويرى “بابه” أن أن قرار التقسيم عام 1947 أفضى إلى النكبة، ويحذّر من أن حل الدولتين سيُفضي إلى نكبة جديدة، و”أنه بدون وحدة فلسطينية وبدون هدف وطني واضح لا يمكن استثمار الدعم الدولي الأهلي لقضية فلسطين”.

أما على أرض الواقع، فإن الإحتلال الإسرائيلي بحسب تقرير صادر عن “مركز الاحصاء الفلسطيني”، لا يزال يستغل أكثر من 85% من مساحة فلسطين التاريخية، ولم يتبقّ للفلسطينيين سوى حوالى 15% فقط من مساحة الأراضي. وحوّلت سلطات الاحتلال 40% من مساحة الضفة الغربية لأراضي دولة، وواصلت سياسة التطهير العرقي بحق المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية من خلال سياسة هدم المنازل والمنشآت بهدف اقتلاع المواطنين من أراضيهم، وسيطرت على أكثر من 85% من المياه المتدفقة من الأحواض الجوفية…

وعلى الرغم من كل المحاولات الإسرائيلية المستميتة لفك الارتباط بين الفلسطيني وأرضه، إلا أن كل ذلك فشل؛ فالفلسطينيون أثبتوا تمسّكهم بالأرض، والدليل على ذلك الأجيال المتعاقبة في داخل فلسطين المحتلة، أو خارجها، داخل المعتقلات أو خارجها، التي تنتفض على الاحتلال وتقاومه تأكيدًا على عمق الانتماء والارتباط بالوطن كل الوطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى