“ابا الوليد”.. الله يعطيك العافية

اعترف، سلفاً وابتداءً، ان شهادتي في القائد الحمساوي خالد مشعل مجروحة، بل مثخنة بالجراح، وحافلة بالتحيز، ومدونة بحروف المودة والرضا.. ذلك لانه صديقي الصدوق المتواشج معي في ”عروة اخوية وثقى” عمرها يناهز ربع قرن، وجوهرها الصفاء والوفاء والاحترام المتبادل.

ولكن اذا كانت شهادتي في اخي خالد مجروحة بحكم صدورها عن صديق، فليس من شك ان شهادة عدوه اللدود نتنياهو غير مجروحة، وانما جارحة وقاتلة وغير قابلة للطعن والتشكيك، نظراً لتوثيقها بحروف الفعل التآمري وتصديقها بخاتم الامر الواقع، حين عمد ذلك النتن لارسال فرقة موسادية لاغتيال مشعل في قلب عمان، مجازفاً بخرق معاهدة وادي عربة الطازجة آنذاك، واثارة غضب المرحوم الملك حسين المهجوس دوماً بامن عاصمته.. فلو لم يكن ”ابوالوليد” يشكل خطراً جدياً على اسرائيل، ولو لم يكن اصطياده يشكل مكسباً استراتيجياً ثميناً, لما غامر النتن كل هذه المغامرة، واقترف مثل هذه المؤامرة والمقامرة.

اواخر عام 1993 التقيت اخي ”ابا الوليد” في الخرطوم، خلال احدى دورات المؤتمر العربي-الاسلامي التي كان يعقدها المرحوم الشيخ حسن الترابي.. تعارفنا هناك عبر الاخ المجاهد محمد نزال، وتقاربنا بعدها في عمان الى حين ابعاده عنها عام 1999، ثم تعززت اواصر العلاقة، وتوطدت عرى الصداقة بيننا في حضرة الياسمين الدمشقي، وتحت ظلال قاسيون الاشم، وعلى امتداد العشرية الاولى في عهد الرئيس الفارس بشار الاسد.

فيما بعد، اختلفت بيننا الرؤى والآراء السياسية، واضيفت الى ما كان بيننا اصلاً من تباينات ومباعدات ايدلوجية، فهو ”اخواني” المنبع والمصب، او المبتدأ والخبر، فيما انا – العبد لله- ناصري الولاء قومي الانتماء.. غير ان اختلاف الرأي لم يفسد للود قضية، حيث تواصينا بالخير وتواصينا بالصبر، وبمثل ما سبق ان تغلبت قوة الصداقة على التباين الايدلوجي، تغلبت صداقتنا الاخوية مجدداً على الخلاف السياسي حول عدة قضايا آخرها اخصاء وتأنيث ميثاق حماس ليتحول الى وثيقة رشيقة.

آفة السياسة، في صيغتها العربية، انها مستبدة وطغيانية تسخط كل ما عداها من العلائق الشخصية والروابط الاجتماعية والثقافية وحتى الدينية.. فما ان يطرأ خلاف سياسي بين صديقين او رفيقين او حزبين او دولتين، حتى تزلزل الارض زلزالها، ويعجز ”مقياس ريختر” عن رصد اهوالها، وتدور آلة انتاج وتوزيع الشتائم والسخائم والاتهامات باقصى سرعتها، وتتداعى في لمح البصر صروح الوشائج والقرابات والصداقات والاخوانيات التي كانت سائدة بالامس بين افرقاء اليوم.

طيب، لماذا لا نحصر, نحن العرب, خلافاتنا السياسية والفكرية والعقائدية في اطارها المعياري, ونجدولها- دون شخصنة – ضمن حدودها الموضوعية والعقلانية، ثم نترك ”لهمزة الوصل” ان تتابع اعمالها في الحفاظ على باقي شبكات الترابط والتواصل والتفاعل الاخرى ؟؟ هل من الحتمي والضروري ان يقترن الخلاف في الرأي بالقطيعة والجفاء وافساد ذات البين ؟؟ أليس من واجبنا ان نتمعن ونتبصر ونستخلص العبر من الحديث النبوي الشريف : ”احبب حبيبك هوناً ما، عسى ان يكون بغيضك يوماً ما، وابغض بغيضك هوناً ما، عسى ان يكون حبيبك يوماً ما”.

وعليه، يصعب على من تقارب او تصاحب مع ”ابي الوليد” ان يقاطعه ويتباعد عنه، لدى افتراق الطرق السياسية وتباين الاجتهادات الايدلوجية.. فهو فنان موهوب في تدجين الخلافات، واحتواء التناقضات، ونزع فتيل المنازعات، وتدوير زوايا الخصومات، ومد جسور التفاهمات، وسكب كوثر العواطف الاخوية على لهيب المواقف الخلافية والمشاحنات الانقسامية.. والثابت ان هذه المواهب والقدرات التوفيقية والتنسيقية قد اسهمت اسهاماً كبيراً في صون وحدة حركة حماس وتماسكها.

كل من عرف هذا الرجل يشهد له بدماثة الخلق، وعذوبة الروح، وكاريزما البشاشة والبساطة والسماحة، ولا اخال احداً قد ضبطه ذات يوم متلبساً بالتعالي والعجرفة والغرور، او سمعه ذات مرة يعاقر فحش القول ودناءة الخطاب وبذاءة اللسان.. ربما لان تربيته الدينية الصارمة، وبيئته الاصولية والقرآنية المحافظة قد اكسبتاه هذه السجايا الحميدة, رغم انها لا تلقى رواجاً واسعاً في دكاكين السياسة العربية الحاضرة.

قبل بضعة ايام, سلّم “ابو الوليد” امانة المسؤولية الاولى, وغادر موقعه القيادي المرموق, وانهى مقرره التنظيمي على رأس حركة حماس, بعدما استنفذ كل مرات التجديد والتمديد.. ورغم انني تمنيت لو انه تنحى قبل اعلان الوثيقة اياها, الا انني ساظل ارجو له كل الخير, ولا اجد من تحية وداعية ازجيها له اليوم, افضل من تلك التحية التراثية والتقليدية المحببة التي كان الفلاحون واهل الريف في عموم بلاد الشام يوجهونها لمن ادى واجباً وانجز عملاً وبذل جهدا وتعباَ : “الله يعطيك العافية”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى