انتفاضة الأسرى

يدخل اضراب الأسرى الفلسطينيين اسبوعه الثالث. والأسرى، وقبلهم الشهداء، هم، وكما قلنا في مقالنا السابق ونعيد هنا ما قلناه، وحدهم، وعلى امتداد الصراع، من توِّجوا شعبياً قادةً لا خلاف معهم ولا اختلاف عليهم.  هؤلاء الأبطال يخوضون الآن الصراع من خلف القضبان، وحيث لا من سلاح لديهم سوى ما تيسَّره لهم اغلالهم، أي ما اصطلح على تسميته سلاح “الأمعاء الخاوية”، فقد بدأ تأثيرهم الكفاحي يتجاوز اسوار معتقلاتهم إلى حيث المعتقل الأكبر الذي هو الوطن الأسير المغتصب من نهره إلى بحره، إذ أن هذا المستجد النضالي للحركة الأسيرة أول ما كان منه هو الشروع في معانقة روح الفدائية لدى فتية إنتفاضة الفدائيين محفِّزاً ورديفاً رافداً،  وتعداه ليأخذ صداه مسراه المتوقَّع فيشعل كوامن مكامن الإرادة الكفاحية الثرية لدى شعبهم المناضل.
لكنما، وإذ لكل فعل رد فعل مقابل، ولا نعني هنا ردود فعل الأعداء المحتلين، وهي المتوقعة والمتجلية الآن في تكثيف القمع والتنكيل الجاري في المعتقلات، وكل ما تتكفل الآن بنقله أول بأول وسائط الإعلام، حيث بلغت كيديتهم الحاقدة درك إقامة حفلات الشواء حول المعتقلات المضربة عن الطعام، ما نحن بصدده هنا هو ردود الأفعال الفلسطينية، والعربية على قلتها، وعليه، وبالنظر لما صدر منها حتى الآن، نرى إنه لزاماً علينا التنبيه إلى ما يلي:
أولاً: إن هذا الإضراب بالذات يشكِّل حالة نضالية هي أكبر من مسمى “إضراب الكرامة والحرية” الذي يطلقونه عليها، لأنه إلى جانب وظيفة الذود عن كرامة الأسير وحريته، يأخذ بعداً وطنياً، إذ يحمل ارهاصاً لإنتفاضة ما خلف القضبان الشاملة المحفِّزة لإنتفاضة ما هو خارجها، أي المعتقل الأكبر الوطن المغتصب المنتظرة والشاملة أيضاً، هذه التي رأس حربتها الراهنة إتفاضة الفدائيين المستمرة، أو التي هي ستأتي تطوراً مأمولاً لها. إنه بالضبط ما يخشاه العدو ويحذِّر منه ويتحسَّب له، ويحاول عبر التنسيق الأمني مع السلطة الحؤول دونه.
وثانياً: من الخطل بمكان تقزيم نضال هؤلاء الميامين بحسره فيما يدعى “بالحقوق المشروعة”، وكأنما هناك ما هو غير مشروع منها ونحن نقارع غازٍ استعماري استيطاني اغتصب الأرض وشرَّد أهلها وانتهك كافة الحقوق التي يعرفها قاموس البشرية، ووجوده أصلاً في أرضنا نقيض لكافة ما هو مشروع وكل ما هو انساني…حقوق الأسرى المنتهكة ليست محصورة في قائمة من مثل، الإهمال الطبي، والاعتقال الإداري، والعزل الانفرادي، أو منع زيارات ذويهم لهم، أو سوء أحوالهم المعيشية، والتنكيل بهم، وإنما هي اصلاً في مبدأ اعتقالهم، ومصادرة حريتهم، ومنعهم من مقاومة محتل وطنهم، وحرمانهم منه محرراً.
وثالثاً: هذا الإضراب في نسخته الراهنة يشكل حالةً نضاليةٍ تشارك فيها كافة فصائل العمل الوطني على اختلاف الأيدولوجيات والمشارب والمواقف السياسية التي تعرفها الساحة الوطنية، ومن ثم تجسِّد حالة ريادية من الوحدة الوطنية المنعدمة خارج القضبان، ولا يجوز منح امتياز رفع رايتها لفصيل بعينه، أو مسارعة هذا المسمى أو ذاك لإحتكارة، ولننسى الأيام العجاف التي كانت تتم فيها المسارعة لتبني العملية الفدائية الواحدة من قبل نصف دستة من التنظيمات في آن واحد…زد عليه، أنها تتويج لمراكمة نضالية مديدة عرفها عالم الأسر، الذي شهد متوالية من محطات إضرابات عديدة عن الطعام، فردية وجماعية، سجلت من حيث طول مددها أرقاماً لم يشهد مثلها هذا العالم. وهي اليوم إذ بدأها 1650 أسيراً، ويتم التحضير لالتحاقات مدروسة وموقَّتة لأعداد لاحقة أخرى من المضربين، فليس من المستبعد أن تتطور لتشمل انخراط كامل السبعة آلاف أسير وأسيرة الرازحين في عشرات المعتقلات الاحتلالية، كما لا يصعب تصوُّر خروج هذه الحالة من وراء القضبان لتتحول لحركة عصيان مدني شامل خارج اسوار معتقلات الأسر الصغيرة، أي حيث معتقل الأسر الفلسطيني الكبير الشامل لكامل الوطن المأسور.
رابعاً: يهم التسوويون ركوب موجة اضراب الأسرى بجلبة خادعة وقعقعة مفتعلة جل مستهدفها التغطية على ما لم يعد خافياً على أحد من نذر المدبَّر في راهن المحطة الترامبوية التصفوية المنتظرة بعد أيام، والتي يجري الآن، وفق المعلن والمسرَّب، الإعداد لها على قدم وساق، وكنا قد تحدثنا عنها تفصيلاً في مقالنا السابق…وفي نفس الوقت تمرير المزيد من الإجراءات التجويعية الهادفة لتركيع غزة وإسقاط البندقية المقاومة من يدها، الأمر الذي تتناقل تفاصيله التسريبات الاحتلالية نقلا عن مصادر فلسطينية سبق وأن اشَّرت ثم عادت فجاهرت به!
…الأضراب الذي بدأته الحركة الأسيرة والهب أشكالاً تتصاعد من حراك تضامني عمَّ الشارع الفلسطيني وشمل كامل الوطن الأسير المغتصب، ما بعد النكبة وما بعد النكسة، الضفة، وغزة، والمحتل في العام 1948، تطرح تداعياته سؤالا ملحَّاً في الساحة الوطنية الفلسطينية، لم يعد انتظار جوابه ينسجم مع ما يُدبَّر لتصفية القضية، ولا مع ما يتطلبه هذا الحدث النضالي الذي يصنعه هؤلاء القادة اللا مختلف معهم ولا عليهم، وهو متى يوازيه عصيان مدني شعبي شامل آن أوانه وبات في حكم الضرورة في هذه المرحلة الأخطر من مراحل صراع الوجود التي لا يواجهها الفلسطينيون وحدهم بل تتهدد أمة بكاملها ؟؟؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى