مقطوعة دافئة من موسيقى الحياة

ليس من المألوف, او المستحب, الاستشهاد في مطلع مقال تأملي شفاف باغنية شعبية لمطرب عاطفي غالباً ما كان محط اعجاب الشباب والطلبة والمهنيين وانصاف المثقفين في غابر الزمان.. فالمألوف والمعروف ان يستشهد الكاتب, في حال اللزوم الادبي, بآية كريمة, او حديث شريف, او قول مأثور, او بيت من الشعر البليغ.

غير انني لا اجد, في مستهل هذا المقال, ما هو افضل واجمل من الاستشهاد بكلمات اغنية “الحياة حلوة” التي كتبها احمد بدرخان, وصدح بها, منذ نيف ونصف قرن, المطرب المعروف بشعبيته الواسعة ونجوميته المتألقة يومذاك, فريد الاطرش, والتي تقول..

الحياة حلو    بس نفهمها

الحياة غنوة   م احلى انغامها

الحياة وردة   للي يرعاها

والحياة مرة    واحدة نحياها

كلمات موغلة في البساطة, ومسرفة في العامية واللغة المحكية, وتكاد تخلو من فنيات الشعر وتموجاته, غير انها شديدة العذوبة والعمق معاً, فعذوبتها تنبع من بساطتها, وعمقها يأتي من صدقها.. فالحياة حلوة برغم كل عذاباتها ومشكلاتها, لانها نعمة ربانية كاملة الدسم, وفردوس دنيوي وارف الظلال والجمال, وسياحة ممتعة في حدائق الوجود.

العافية شمس الحياة وزخرفها.. بها يطيب العيش, ويصح البدن, ويروق المزاج, وترفرف اجنحة الامل, وينبض القلب بدقات السعادة والدلال.. وفي هذا يقول المتنبي..

زينةُ العيشِ صحةٌ وشبابٌ

فاذا وليا عن المرءِ ولىْ

ارقى مستويات الوعي, وعي معنى الحياة وفهمها والاستمتاع بها, واعظم انواع الفن, فن هندسة الوقت وصناعة  الحياة والتقاط جماليات العيش المشترك, واعذب اصناف الشهد, شهد الحياة ورحيقها ونبيذها المقطر من عناقيد السعادة, والمرتشف على مهل حتى الثمالة.

الاستمتاع بالحياة الدنيا لا يجوز ان يعني القطع مع الحياة الاخرى وانكارها او التنكر لها, بل عكس ذلك على طول الخط.. فلا قيمة جوهرية وفلسفية للحياة الاولى اذا لم تترفع عن الفجور والبوهيمية, بحيث تشكل مقدمة انسانية وايمانية واخلاقية للحياة الموعودة على ضفاف الخلود, والاقامة الدائمة في رحاب الابدية.

تكذب الارقام والاعوام- احياناً- في شهادتها على اعمارنا, وتعهد بها الى جدول الضرب والطرح والقسمة, رغم ان حساب الاعمار لا يكون بعدد سنيها وحولياتها, بل بنوع الاحساس بها والانفعال بمعطياتها.. ففي ميعة الصبا والشباب نغرق في مثاليات الرومانسية الوردية, وفي مرحلة الكهولة ومنتصف العمر نمتطي صهوة الواقعية وننهض باعباء المسؤولية, وفي ديار الشيخوخة نختار هدوء العيش, وسكينة الفؤاد, وتراث المدرسة الكلاسيكية.

ويا لتعاسة الهاربين من الدنيا, والمتحالفين مع المقابر.. الكارهين لشهقة الميلاد, والمغرمين بزفرة المنون.. المتهافتين بقوة الجنون على القاء انفسهم الى التهلكة, وتأجير ارواحهم للشيطان, او بيعها في سوق الارهاب بثمن بخس.. ونجس ايضاً.

على شاهد قبره في بلدة “ام قيس” كتب الشاعر الروماني القديم “ارابيوس” تلخيصاً عبقرياً لمفهوم الحياة جاء فيه : “ايها المار من هنا, كما انت الآن كنت انا, وكما انا الآن ستكون انت, فتمتع بالحياة لانك صائر الى الفناء”.

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى