صخب الماء

لمن تشتكي أمرك لغير الورق..

تتوالى ضربات الماء الساخن على ظهري، تموج بعنف من الرأس إلى القدمين، ضربات صاخبة، ضجيج. يندلق الماء يحملني إلى المجهول. كأنه الطوفان.. كأن السماء فتحت مزاريبها ولكن بماء حار.. حار.. كم أحتاج أن أشفى من كل طوفان الحروب، من كل الجروح التي تدميني، من كل الوجع الذي يزلزلني، من فراغ خلّفه كل أحبائي الذين رحلوا وطواهم الموت تحت أنيابه، من كل الانتظار العبثي، ولا أحد يأتي.

أغفو قليلا.. والماء يطوّح بي. يا ليزا.. لو تدركين فقط عمق البئر الذي ألوب فيه، تبتسمين، لكن خلف عينيك يلوح حزن بعيد، كرايات بعيدة بعيدة تتلاشى خلف الأفق، نراها داخل روايات تحكي عن التاريخ، أي تاريخ. أفتح عينيّ على صوت أمي تقرأ على رأسي المعوذات. يا أمي.. يا أمي. منذ الأزل، وأنا أحمل الصخرة على كتفيّ. عيناي مثقوبتان وأنا أحمل قنديلي وأبحث عن يقين.

أستعيدني وأسألني: لمَ كل هذا الهراء، لمن تبوحين إلا لنفسك. أغرقي نفسك في أكوام الكتب من حولك، ففيها عوالم تأخذك بعيدا عن هذا الصخب العبثي.

نعم..

أقرأ وأقرأ كتبا كثيرة، ألتهم الحروف وأغرق فيها، فالكتب تخلق عيونا كثيرة تخترق الظلمات..

في روايته الجميلة والممتعة” زيارة طبيب صاحب الجلالة” للكاتب السويدي بير أولوف إنكويست، والتي تعتبر من روائع الأدب السويدي، صدرت بالعربية عام 2015 بترجمة الكاتبة الفلسطينية سوسن كردوس قسيس. يصور الكاتب الفترة المهمة من حياة الدنمارك زمن الطبيب الألماني سترونزي(1737-1772) الذي جيء به من مدينة ألتونا في زيارة قصيرة إلى الدنمارك لعلاج ملك الدنمارك كريستيان الذي لم يتعدّ الثامنة عشر من عمره، وذلك لعلاجه من النوبات العصبية التي تعتريه، وهو طبيب مختص بالحجامة وصحة الأطراف. وقد سميت تلك المرحلة ب”فترة سترونزي” التي امتدت طيلة أربع سنوات انتهت بإعدام سترونزي. وصفه أحد رجالات القصر بأنه كان” طبيبا مهذبا، يمارس الطب في ألتونا، وهو مختص بالحجامة. ألماني. والداه ملتزمان بالتقوى، أبوه عالم لاهوت، اسمه سترونزي. إنه ماهر جدا”. رفض سترونزي في بادئ الأمر هذه المهمة، فهو طبيب معروف في ألتونا، ولديه مهام كثيرة بالأضافة إلى الطب. فهو ينتمي إلى حركة التنوير التي ابتدأت آنذاك في فرنسا. يقول أحد رجالات القصر والذين ينتمي معظمهم إلى حركة التنوير”كوبنهاغن كلها مريضة… بإمكانك أنت الطبيب، أن تعالج الدنمارك أيضا. الدنمارك عبارة عن مستشفى مجانين. البلاط الملكي مستشفى مجانين. الملك ذكي ولكن ربما.. مجنون. وجود رجل ذكي متنور إلى جانبه قد ينظف البيت المقرف هذا والذي اسمه الدنمارك”.

أما الملك الصغير، فكان مسكونا بالحركات الغريبة، يبكي في معظم الأحيان، يصرخ، يكسر كل ما حوله، لكن سترونزي كان يعطف عليه، ويراه يتمتع بنوع من الذكاء خاصة وقد عشق الملك المسرح. وكانت أمنيته أن يصبح ممثلا بدلا من أن يكون ملكا. وكان يعتقد أن المسرح هو الشكل الوحيد للحياة، وأن فهم ما يحدث في الواقع ممكن ما دام المسرح هو الواقع.  وقد وصف السفير البريطاني حال الملك حين عرض مسرحية”الشرير” للكاتب الفرنسي غريسيه:” قام كريستيان من مقعده في الصف الأول وصعد مترنحا إلى المسرح وأخذ يتصرف كما لو كان أحد الممثلين. أخذ يتلو على خشبة المسرح كلاما كأنه سطور من نص المسرحية. لم يُفهم من كل ما قاله بالفرنسية إلا كلمة “متوحشون” وكلمة”آكلة لحوم البشر”..

كثر أعداؤه في القصر الملكي، وكان يعنى بالملك عناية شديدة، وقد وكله الملك بإدارة شؤون البلاد ومنح صلاحية التوقيع عنه. بعد أربع سنوات من فترة سترونزي،تم التآمر عليه  وحكم بالإعدام ، وكانت التهمة الملفقة له من قبل الوالدة أم الملك أنه يخطط لاغتيال الملك.

هل ارتكب خطأ ما.. فهو قد قام بتوجيه الثورة الدنماركية بصمت وهدوء من مكتبه، دون أن يقتل أو يسجن أحدا، ودون أن يجبر أحدا على شيء. فعل ذلك دون أن يتلوث بالفساد أو أن يجزي أصدقاء له، أويحقق منافع شخصية. لم تكن له شهوة السلطة بغرض تحقيق منافع ذاتية.. وقد حكى للملكة التي عشقها، ذات مرة عدم رغبته في أن يكون سائس جهاز السلطة، محركها. قال له القسيس الذي جاءه في السجن وكان ألمانيا يتعاطف معه” كونت سترونزي، من أين لك أن تعرف الصحيح من الخطأ وأنت منعزل في مكتبك؟ لماذا اعتقدت أنك تملك الحقيقة بينما أنت لا تعرف عن الواقع شيئا؟”. وتم إعدام سترونزي ببتر يده وقطع رأسه وأعضاء جسمه بالفأس..

التهم كانت جاهزة، ومنها علاقته بالملكة الشابة زوجة الملك كريستيان، والتي أنجبت من سترونزي طفلة، وثم نفي الملكة وهي أنجليزية أخت الملك جورج الثالت ملك بريطانيا، نفيها إلى قلعة هاملت وأخذ طفلتها منها.

يضيف الكاتب” لقد قطع الرأس، لكن الأفكار ما زالت هناك..”ـ والجماهير التي تجمعت لمشاهد عملية الإعدام، كانت ستكون فرحة، لكنها اكتشفت بأنها كانت على خطأ، فغادرت ساحة الإعدام حزينة”كنهر من النائحين في مسيرة جنائزية مرّوا. لا كلام ولا عواطف إنما هو الحزن خيّم عليهم.. نعم إنه الحزن. كان حزنا صامتا كالموت، ولكنه حزن لا يمكن لأحد أن يتحكم به…ويتساءل غولدبرغ الذي دبر كل المؤامرة” هل أفلت من يديه شيء لا يمكن للفأس أن تقطعه؟”. كان أحد القوانين التي حلم به سترونزي”منع الرّق”، لكنه لم ينفذ في عهده،واستمرت حركة التنوير وتركت آثارها على الدنمارك، وقد صار حلم سترونزي بمنع الرّق حقيقة عام 1788.

رواية ممتعة، امتزج فيها التاريخ بالأدب، بحكاية العشق، بالفلاسفة والمفكرين التنويريين والأدباء أمثال روسو، فولتير، غوته، وغيرهم، بالتآمر ثم .. بالموت.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى