الانظمة الخليجية ترشو شعوبها كي لا تثور على فسادها واستبدادها

ما الذي يفسر سقوط حكام الجهوريات العربية مقارنة بصمود الملوك في ممالك الخليج؟ التفسيرات الرائجة مرتبطة باستغلال النفط للأغراض السياسية، فالحكام في الممالك الغنية بالنفط يشترون مواطنيهم بثمن الخنوع السياسي، يستخدم الملوك نفوذ النفط الذي بحوزتهم ليمدوا المواطنين بالكثير من الموارد، ولكنهم يطالبون في المقابل بثمن باهظ؛ أن يسلم المواطنون بحق الملوك بالحكم وألا يطلبوا لأنفسهم تمثيلًا سياسيًا.

عندما اندلعت الثورة العربية، زاد ملوك ممالك النفط إلى حد كبير العطايا للمواطنين، لكي يمنعوا الاحتجاجات مثل تلك التي شوهدت في الجمهوريات العربية. وقد أثمر الأمر: دول الخليج نجت إلى الآن من الاضطرابات الإقليمية، وسيما بفضل قدرتها الاستثنائية على”شراء” مواليهم بالعطايا وبالدعم وبالمنح وبمختلف الهدايا الأخرى.

من خلال نظرية دولة المعاشات (Rentier State Theory) يمكن تفسير طبيعة العلاقة بين المجتمع ونظام الحكم الحاكم في الدول التي يأتي فيها أغلب الدخل الحكومي من بيع الموارد الطبيعية، يوزع نظام الحكم في هذه الدول على المواطنين نسبة كبيرة من الأرباح، حتى انه لا يجبي منهم الضرائب. في المقابل – وحسب هذه النظرية – فالحكم طليق من حاجته لأن يقدم للمواطنين وصولًا للمنظومة السياسية، كما أكدنا ذلك سابقا فإنها ممارسة تقمع المبادرات الاقتصادية، وبالتالي الاقتصاد المحلي (ففيم التعب ما دام الدخل يتدفق من دون أي مجهود؟)، لكن الأنظمة في دول الخليج لا ترتبط بأموال الضرائب التي لها هي الأخرى “نصيب” من النفط ومن مصادر أخرى.

نظرية دولة المعاشات اشتهرت للمرة الأولى خلال السبعينات من القرن الماضي، في أعقاب الارتفاع الدراماتيكي على أسعار النفط، والذي حدث في تلك السنوات.

حسين مداوي كان هو الباحث الذي صاغ الأسس الأولى لهذه النظرية، والدولة التي استخدمت كنموذج لها كانت إيران ما قبل الثورة، بمعنى ان هدف هذه النظرية الأساسي هو كشف التفاعل بين المجتمع والحكم – أولًا وقبل كل شيء في الدول المنتجة للغاز والنفط – والأنظمة التي تمكن للحكم البقاء في ظل عدم وجود الديمقراطية.

حازم الببلاوي كتب ان دولة المعاشات تتميز بأن جزءًا صغيرًا من السكان شريك في إنتاج الثروات، بينما الأغلبية تنشغل على الأغلب في استهلاكها. وحسب الببلاوي كلما كانت الثروات المنتجة من النفط ومن الغاز أكثر وكلما كان سكان البلد أقل عددا؛ يكون بتالي من الأسهل إيجاد نموذج دولة المعاشات. إذ ا ففي ممالك الخليج – عدا عن العربية السعودية – هناك القليل من السكان، وحسب قول الببلاوي فممالك الخليج تزود مواطنيها بالعطايا الاقتصادية الكثيرة )خدمات ترفيهية ووظائف عمومية(، وكذلك استيراد ملايين العمال الأجانب الذين يستخدمون في الأعمال الإنتاجية المبغوضة من قبل السكان المحليين؛ بهذه الطريقة أبعدت دول المعاشات مواطنيها عن أي عمل إنتاجي، وحولتهم إلى مرتبطين باستمرار إعطاء العطايا من قبل الدولة بدلًا من خلق مرحلة انتقالية فاعلة.

هذه هي إحدى السبل المركزية لشراء الهدوء السياسي، وهناك سبل أخرى؛ على سبيل المثال تقيم العائلة المالكة علاقات سياسية أو عائلية مع مجموعات مختلفة من السكان، علاقات توفر لمتصل بهم الوصول إلى الكثير من الموارد والثراء، طالما بقي الشعب راض يًا عن هذا الوضع تبقى احتمالات انتفاضه قليلة.

المصطلح “رينتا”، “النصيب” أو “الحصة” مذكور كثيرًا في الاقتصاد الكلاسيكي، وسيما في كتابات الاقتصادي البريطاني الشهير ديفيد ريكاردو ) 1772 – 1823 (، ويعبر عن التعويض بسبب ملكية الموارد. في دولة ال “رينتا” فإن نسبة كبيرة من دخلها ومن دخل مواطنيها مصدره “الحصص التي تعود بها الموارد الطبيعية”. استنتاج ريكاردو الأساسي هو ان دولة كهذه، التي هي المحرك الرئيسي للاقتصاد، والتي توزع على مواطنيها قسمًا كبيرًا من مدخلاتها تخلق “عقلية حصصية” ميزتها المركزية هي غياب الحافز للخروج إلى العمل؛ هذا هو السبب الرئيسي للنماء الاقتصادي البطيء الذي يميز دول المحاصصة، رغم انها تتمتع بمدخلات كبيرة وموارد طبيعية نفيسة.

رغم ان هذا لم يكن هدفها، يمكن استخدام هذه النظرية لكي نفسر أيضًا الاستقرار السياسي في دول المعاشات الواضحة مثل دول الخليج العربية، الاستقرار السياسي في هذه البلدان مرتبط ارتباطًا مباشرًا بمستوى المعيشة العالي التي يتمتع به مواطنوها؛ هذه الحقيقة تبرز على وجه الخصوص في الحقبة التي فهم فيها مواطنو الدول العربية الذين يستطيعون تغيير النظام السياسي القائم في دولهم، هذه الأطروحة قدمها للمرة الأولى وبشكل واضح وشامل جريجوري جوس، حسب زعمه الثراء الذي مصدره النفط تفسر طرق استخدامه كيفية نجاح الأنظمة الهشة في الخليج الفارسي )العربي(بالخروج بسلام من الاضطرابات التي ضربتها.

إذ ا في المنتصف الأخير من القرن حولت أرباح النفط قرى الصيادين في الخليج إلى عدد من الأماكن الأكثر ثراءً في العالم، وفي المتوسط فأكثر من 40 % من مجمل الناتج المحلي في دول الخليج وأكثر من 80 % من مدخلات العائلات المالكة تأتي من أرباح النفط والغاز؛ هذه المدخلات تمكن العائلات المالكة من أن تقدم لمواطنيها دعمًا كبيرًا، مستوى دعم المواطنين يختلف من دولة لأخرى بما يتناسب ومدخلاتها: البحرين )التي تعتمد في الأساس على مدخلات حقل نفط سعودي( وعمان )التي يعتبر إنتاج النفط فيها متواضعا، وليست عضوًا في أوبك( تقدمان لمواطنيهما أقل مما تقدمه الدول الأكثر ثراءً : العربية السعودية والامارات المتحدة وقطر والكويت، وما تزال أيضًا الدول الفقيرة نسب يًا تقدم لمواطنيها مبالغ لا بأس بها.

قادة دول الخليج وزعوا مليارات كثيرة ليبعدوا أبناء شعوبهم عن الشوارع، ولو كانوا يعتقدون ان الشرعية الملكية وحدها تساعدهم لما كانوا أزعجوا أنفسهم بتوزيع هذه المبالغ الضخمة، الحقيقة انه ومع اندلاع الاضطرابات كانت أسعار النفط المرتفعة قد ساعدت الأنظمة في الخليج على تقديم المساعدات السخية لمواطنيها، لكن إذا ما اندلعت احتجاجات حقيقية في الخليج في أيامنا هذه، في الوقت الذي فيه سعر برميل النفط منخفض جدا مقارنة بما كان عليه في العام 2011 ، وبعد ان تآكل احتياط العملات الأجنبية في هذه الدول؛ ستجد الأنظمة صعوبة في ان تكون سخية كما كانت، وأن تقطع دابر لاحتجاجات في مهدها من خلال إغراق المواطنين بالأموال.

مواطنو الدول الخليجية اعتادوا ألا يدفعوا الضرائب، لذلك فالأنظمة هناك ليس بمقدورها حق ا ان تزيد مدخلاتها إلى حد كبير من خلال جباية الضرائب من المواطنين دون ان تخاطر بإغضابهم. مستوى دخلها اليوم من الضرائب من بين مجمل الناتج المحلي هو الأكثر انخفاضًا: 2.5 % في عمان و 3.4 % في البحرين و 3.7 % في العربية السعودية و 5.1 % في قطر.

وهكذا، من جهة المدخلات لا تستطيع دول الخليج ان تفعل الكثير سوى أن تأمل بأن لا تنهار أسعار النفط مرة أخرى، ومن جهة النفقات فيديها مكبلة. في معظم دول الخليج يوجد توافق اجتماعي مضمن في دستورها، ويقضي بأنه يقع على عاتق الحاكم واجب توفير التعليم والصحة المجانيين للمواطنين، وكذلك الإسكان والكهرباء والنفط مدعومين، إضافة إلى ذلك تلتزم السلطة بإيجاد عمل مناسب لكل مواطن، مفهوم انه إذا استمرت أسعار النفط في كونها منخفضة أو أن تنخفض أكثر فستكون هناك حاجة إلى تغيير العقد الاجتماعي القائم بشكل كبير، ولكن ساعة يخرق أحد الطرفين العقد فإن الطرف الثاني من شأنه أيضًا ان يخرقه.

رؤساء الدول في الخليج لا يعرفون طبعا هل ستضرب الاضطرابات في نهاية المطاف وبكامل قوتها بلدانهم أيضًا؛ لذلك فهم يخرجون مبالغ مالية كبيرة من أجل إخراج شوكة أي ثورة شعبية محتملة. عندما شرعت المظاهرات الشعبية في الانتشار بداية العام 2011 رد الملوك سريعا حسب منطق الحصص.

الكويت أعلنت عن خطة لتقديم 3500 دولار لكل مواطن، ومنتجات غذائية مجانًا ولمدة عام، وقطر أعلنت عن رفع الراتب في القطاع الشعبي وقوات الأمن، والعربية السعودية أعلنت عن نيتها تخصيص 130 مليار دولار لرفع الأجور في القطاع الشعبي من أجل خلق وظائف جديدة، ولكي تقدم خطط تطور مختلفة. وعندما ارتقى الملك سلمان بن عبد العزيز سدة الحكم في العربية السعودية أصدر أوامره بمواصلة تدفق الأموال لصالح المنح والدعم للمواطنين، الخوف على العائلات المالكة في الخليج من وقوع الانتفاضات مخاوف جدية أكثر في المستقبل لا يستبعد على الإطلاق، إذ ان عددا من عوامل الانتفاض في أماكن أخرى موجودة أيضًا في دول الخليج.

حقيقة كون النفط غير العلاقات بين الدولة ومواطنيها في ممالك الخليج غير قابلة للطعن، ثراء السكان – بفضل قدرات الدولة الاقتصادية، وبفضل استعدادها لتقاسم هذا الثراء مع المواطنين – أدى إلى انخفاض كبير على مطالبة أولئك المواطنين بالمشاركة في الحياة السياسية، وقلل الحاجة لدى الحكام لضمهم إلى العملية السياسية. في جميع دول الخليج هناك برلمانان منتخبان فقط: برلمان الكويت الذي أقيم العام 1961 ، وبرلمان البحرين الذي أقيم في العام 2002 ؛ ولكليهما صلاحيات محدودة. الموارد الضخمة التي تملكها الممالك في الخليج تحرر حكامها من الحاجة إلى التفاوض مع المواطنين.

على ضوء هذا الواقع فلا غرو ان نظرية دولة المعاشات هي النموذج البارز في دراسة ممالك الخليج العربي ، لكن ومع مرور الوقت – من بين الكثير من الأسباب بسبب صعوبة تفسير الكثير من الخطوات في هذه النظرية – أضيف لها المزيد من الأركان التي تأخذ بالحسبان معايير أخرى مثل العولمة والضغوطات الداخلية للتحضر ومجهود الدول لتقليل ارتباطها بالنفط من خلال تطوير اقتصاداتها. هذه النظريات المتقدمة خاصة دول المعاشات تسمى Late Rentierism، لكنها تؤكد ان النظرية الأساسية ظلت سارية بشكل أساسي.

بعض من دول الخليج سنت قوانين وفقها يعتبر أي رجل أعمال أجنبي يعمل ضمن حدودها يجب ان تكون لديه بعضًا من الكفلاء المحليين، هذه القوانين وفرت فرصًا للكثير من المواطنين – حتى لغير المقربين من العائلة المالكة – للحصول على حصص من تلك الشركات الأجنبية.

رغم دخول شركات أجنبية كثيرة إلى دول الخليج بقيت الأنظمة الملكية المحرك الاقتصادي المركزي، فهم المشغل الأساسي والموفر لمعظم احتياجات السكان، لذلك يمكن القول بأنهم هم العامل المركزي في حياة المواطنين اليومية في دول الخليج.

يزعم الببلاوي ان دول المعاشات مثل ممالك الخليج والبناء الاقتصادي جعلت المواطنين يعتمدون أسلوبًا فيه الربح الشخصي يكاد يكون الأوضح وليس نتيجة لمجهود وموارد كما هو مقبول في العالم الاقتصادي خارج ممالك النفط؛ لذلك فلا عجب انه ووفق الفهم المقبول في دول الخليج كما يكتب ببلاوي “المواطنة هي مصدر للربح الاقتصادي”.

عهد وفرة دول الخليج بدأ في أعقاب أزمة النفط بداية السبعينات من القرن السابق (وللتدقيق أكثر في أعقاب حرب “يوم الغفران” عام 1973)، بعد أكثر من 40 عام تمتع بها المواطنون في الخليج بأرباح النفط لا يرون الآن في الحصص التي يحصلون عليها عطايا مؤقتة من حكامهم، بل حقوقا يستحقونها لكونهم مواطنين، وإذا كفت الدولة – حسب رأي مواطنيها – عن القيام بواجبها في الاهتمام برفاههم الاقتصادي فإن من شأنهم هم أيضًا ان يتخلوا عن واجبهم في أن يكونوا مخلصين.

رغم ما قيل أعلاه؛ ما تزال هناك مشاكل في إيجاد العلاقة بين نظرية الحصص وبين نجاة الأنظمة سياس يًا في دول الخليج، فمثلًا يكتب روس  2001  أنه من الصعب استخلاص استنتاجات من الشرق الأوسط فيما يخص نظرية الحصص، إذ ان غالبية الأنظمة العربيةفيه هي أنظمة استبدادية وتحكم بالحديد والنار؛ بغض النظر عن كونها غنية بالموارد وعن مستوى محاصصتهم.

إضافة إلى ذلك، لابد من السؤال: لماذا حكام بعض دول المعاشات مثل الكويت اعتبرت ان هناك حاجة لإقامة برلمان أو لماذا يعتبر ملك العربية السعودية ان هناك حاجة لإجراء تغييرات تزيد من مشاركة المواطنين في الحكم ولو بحد قليل؟، هذا السؤال عليه عدة إجابات ممكنة: في بعض الحالات المقصود تأثيرات الموروث البريطاني، وفي حالات أخرى يمكن ربط ذلك بالرغبة في الاستجابة للضغوطات الداخلية والخارجية أو رغبة النظام في زيادة مستوى الشرعية العامة التي يتمتع بها.

منتقدو نموذج الحصص يستدلون بحقيقة كونه موجودا حتى قبل عهد النفط، إليك مثلًا العائلة المالكة السعودية وزعت أراض مقابل الإخلاص، وكذلك فرضت رسومًا على الحجاج واستخدمت المدخلات من أجل منع فرض ضريبة على المواطنين.

في نهاية المطاف، يجب القول ان الحديث ما يزال يدور عن مجتمعات قبلية تسود فيها إلى حد كبير عادة شراء إخلاص الناس؛ هذا النموذج اعتمدته النخب الحاكمة، بل انه قد يكون ذا صلة لفهم العلاقات العربية – العربية، وعلاقات المحسوبية التي تطورت بين دول الخليج وبين بعض من الدول العربية الأكثر فقرًا، والتي تتمتع بدعمها الاقتصادي. بنفس الطريقة تصرفت في فترة الانتداب كل من فرنسا وبريطانيا؛ فقد قدمتا أراض لزعماء القبائل في سوريا والعراق لتشتري إخلاصهم للحكم.

حسب هذا التفسير، مجموعات مختلفة كان لها قبل عهد النفط نصيب من الحكم مثل التجار أو رؤساء القبائل، استخدموا قوتهم السياسية في تقاسم ثروات البلاد. الحقيقة ان هذه الدول فيها القليل من المواطنين نسبيًا، وأن الكثيرين منهم ما يزالون يذكرون الفترة التي سبقت فترة الثراء التي جاء بها النفط، الأمر الذي أسهم بأنه وإلى الآن لم تضطر دولة المعاشات إلى مواجهة أي تحد حقيقي.

في العقد القادم من المتوقع ان تحدث تحولات جوهرية في النظم السياسية التقليدية في دول الخليج، فموارد النفط التي يقوم على أساسها اقتصاد الخليج آخذة بالتقلص، وهي لا تكفي للحفاظ على أنظمة الحكم القائمة على المدى المتوسط والبعيد. رغم كبر حجم احتياطيات النفط في الخليج إلا أنها نهائية، والنقلات المستمرة في النفقات العامة في الخليج ليست مستديمة؛ حتى في الدول الثرية منها. إضافة إلى ذلك سكان الخليج آخذون في الزيادة وبحاجة للمزيد والمزيد من الموارد والدعم، لا شك انه في العقد القادم لن يكون من الممكن توفير احتياجات السكان من خلال الموارد القائمة.

يؤال جوزنسكي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى