هل تفكر تركيا بتكرار النموذج القبرصي في شمال سورية ؟

عاشت قبرص مرحلة من الفوضى والحرب الأهلية، وشهدت مجازر واغتيالات متبادلة بين حركة «أيوكا» (القبارصة اليونان) بزعامة الأسقف مكاريوس، وحركة «فولفان» (القبارصة الأتراك) بزعامة رؤوف دنكطاش. ولم يفلح اتّفاق الاستقلال الذي وُقّع في المدينة السويسرية زوريخ عام 1959 بين الأطراف المتحاربة بضمانة الدول المؤثرة في الملف القبرصي (بريطانيا – تركيا – اليونان) في حل القضية وإحلال الأمن والسلام أكثر من ثلاثة أعوام.

على الرغم من أن الاتفاق تبعه انتخاب رئيس للبلاد ومصادقة على دستور جديد، إلا أن موجة العنف عادت بسبب رفض القبارصة الأتراك التعديلات الدستورية التي اقترحها الرئيس المنتخب مكاريوس. وهكذا بقي الوضع مضطرباً في قبرص رغم إرسال الأمم المتحدة قوّات حفظ السلام عام 1964. واستمر هذا الوضع الى أن تدخلت القوات التركية بشكل مباشر بعد عشر سنوات تماماً، إثر تدهور الأوضاع الأمنية بعد الانقلاب العسكري على الرئيس مكاريوس. وقد تمكّن الجنود الأتراك من السيطرة على ثلث جزيرة قبرص، وأقامت الحكومة التركية مناطق آمنة على مساحة 3350 كلم2 بحجّة حماية القبارصة الأتراك الذين لم يكن يزيد تعدادهم على عشرين في المئة من تعداد السكان.

عاد الرئيس الشرعي مكاريوس إلى الحكم بفعل الضغوط الدولية، إلا أن الجيش التركي لم ينسحب من المناطق التي احتلّها، بل سارع الأتراك إلى إعلان قيام حكم ذاتي في شمال قبرص. وبهذا بدأت أعمال التغيير الديموغرافي، القبارصة الأتراك الى الشمال، واليونانيون منهم الى الجنوب. واستمر الحكم الذاتي حتى أُعلن عام 1983 برعاية تركية عن «جمهورية شمال قبرص»، واختير رؤوف دنكطاش أوّل رئيس لجمهورية غير معترف بها من قبل أي دولة، باستثناء تركيا. ولا يزال وضع قبرص على ما هو عليه حتى يومنا هذا، ولا يزال القبرصيون يحلمون باليوم الذي تعود فيه بلادهم موحّدة في دولة واحدة وعاصمة واحدة، بعيداً عن التقسيم.

إن التذكير بأحداث قبرص قد يساعدنا في محاولة فهم المشروع التركي في الشمال السوري، والذي دخل حيّز التنفيذ في 24 آب الماضي يوم دخل الجيش التركي بشكل مباشر إلى الأراضي السورية، ليوسّع انتشاره في ما بعد تحت مسمّى «درع الفرات» من جرابلس إلى الباب، مروراً بالراعي ومارع، وصولاً إلى أعزاز. أما الحجج هنا فمتعدّدة، مرة لحماية التركمان وأخرى لإنشاء مناطق آمنة كوسيلة للحدّ من الهجرة غير الشرعية، وغيرها لمحاربة «حزب الاتّحاد الديموقراطي» (PYD) حليف حزب العمال الكردستاني عدو تركيا اللدود ومحاربة «داعش». ثمّ عودة لدغدغة أحلام الخطوط الحمر التي لطالما تحدث عنها الرئيس رجب طيب إردوغان، ثم إلى نيته الصلاة في الجامع الأموي في دمشق كتتويج لنجاح سياسته التي انتهجها. لكن الأحلام بقيت أحلاماً، والخطوط الحمر صارت قوس قزح، والعودة إلى الواقع تطلّبت من إردوغان البحث عن سلّم قوي يستطيع الاعتماد عليه للنّزول من على شجرة الأحلام، وهو المحمّل بالكثير من الأعباء الثقيلة بسبب الفشل الأمني والسياسي.

لم يمض شهر على محاولة الانقلاب الفاشلة، حتى كان الجيش التركي يعلن عن انطلاق عملية درع الفرات داخل الأراضي السورية من بوّابة جرابلس. حينها كان واضحاً لنا أن العقل التركي الحاكم يسعى إلى استنساخ سيناريو شمال قبرص على الشمال السوري. لكنّ رغبة البعض في منح الحكومة التركية فرصة جعلها طرفاً «ضامناً» للحل السياسي، ساهمت في التعتيم على هواجسنا ومخاوفنا حول حقيقة المشروع التركي، التي بنيناها استناداً إلى معلومات وصلتنا عن الخطوات المتوقعة. وهي «بناء مدن ومجمّعات سكنية وإسكان المواطنين السوريين بعد فرز دقيق لهم لضمان وجود تبعية مباشرة لتركيا، والعمل على تأمين مستوى مرتفع من الخدمات، وجعل الإقامة في تلك المناطق تعتبر حلماً قياساً بالأوضاع في باقي المناطق بسبب الحرب والغلاء والفساد وافتقار إلى الخدمات». ثم تتبعها خطوات أخرى تربط هذه المناطق اقتصادياً مع تركيا، ما سيؤدي بشكل تلقائي إلى التعامل بالليرة التركية. وإذا طالبت سوريا في ما بعد بخروج القوات التركية، فإن أنقرة ستحرك أتباعها في تلك المناطق للتظاهر والمطالبة بتصويت شعبي برعاية أممية سينتهي بسلخ تلك المناطق وضمها إلى تركيا.

بالأمس، عاد الحديث عن حقيقة المشروع التركي بعد إعلان الحكومة التركية عزمها على بناء مدينة جديدة تستوعب 80 ألف نسمة في ريف حلب الشمالي بالقرب من منطقة الراعي.

وقد تزامن هذا الإعلان مع معلومات تفيد بأن مدينة أعزاز باتت تدار من قبل والي مدينة كلس التركية بشكل مباشر، وأن «الشرطة الحرّة» التي ستوكل إليها مهمة ضبط الأوضاع في أعزاز تتبع بشكل مباشر لوزارة الداخلية التركية. ومن المؤكد أن ما يطبّق في أعزاز سيطبّق في غيرها من المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة القوات التركية.

خطوات سلخ الأراضي السورية بدأت بشكل واضح لا لبس فيه، ما يطرح تساؤلات حول طبيعة رد دمشق وحلفائها. ولا شك أن الأيام المقبلة سترسم معالم مستقبل سوريا، فإما الاستكانة للأمر الواقع وانتظار الإعلان عن دولة شمال سوريا على الطريقة القبرصية، أو دعم خيار المقاومة لتحرير الشمال السوري في استنساخ للتجربة اللبنانية التي استطاعت تحرير جنوب لبنان وطرد المحتل الإسرائيلي وعملائه الذين عُرفوا بـ«جيش لبنان الجنوبي».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى