ابو القاسم الشابي.. الشاعر الحاضر في ذاكرة الشعب والحب

سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ        كالنسر فوقَ القمةِ الشماءِ

أرنو إلى الشمسِ المضيئةِ هازئاً      بالسحبِ والأمطارِ والأنواء

لا أرمقُ الظلَّ الكئيبَ ولا أرى         ما في قرارِ الهوةِ السوداءِ

«أبو القاسم الشابي»، الذي أينع في حدائق تونس الخضراء لأقل من ربع قرن، هو مثال شافٍ وافٍ على أن قيمة الأعمار في بركتها، وأن خلود الإنسان لا يعيقه ضعفُ في الجسم أو وهنٌ في الصحة أو ضرباتٌ من القدر. بل قد يكون في وجود كل هذا منبع العبقرية، وجلال التحدي، وأصل العنفوان.

ومن لا يعتز أبد الدهر بهذا الشاب العبقري الذي ابتُلي بضعف وراثي  في القلب، وهزال شديد في الجسم، لكن روحه المنطلقة التي أرادت الحياة وتغنَّت باقتحام صعابها، حلَّقت في أبعاد الزمان والمكان، ولثمت كل أزهار المروج، ونهلت من رحيق الصور والمعاني، ورسمت لنا بالكلمات والجمل عوالم من الخيال والجمال والأحلام.

وها نحن الآن بعد أكثر من ثمانين عاماً على وفاة أبي القاسم في فبراير من عام 1934 بعد نضال مجيد مع ابتلاء المرض، نجدد ذكراه النبيلة، بعد أن جددتها ميادين الحرية منذ ستة أعوام عندما هتف ثوارها يريدون الحياة، ويريدون أن ينجلي ليلها، وأن تنكسر قيودها.

ولأن عالم الشابي شاسع، فليس بمقدورنا في هذه المساحة المحدودة إلا أن نركز على فكرةٍ أساسية واحدة شغلت نصيباً مركزياً في تجربته الشعرية المميزة. هذه الفكرة هي حب الحياة، وبتعبيره  «إرادة الحياة». وهي عنده واجب مفروض وإلا فالمصير هو العدم والفناء. ولعل حب الشابي للحياة رغم تتابع مِحَنِها عليه، هو ما أورثه عشقاً للطبيعة -التي هي التمثل المادي لتلك الحياة- بكل تفصيلاتها. هذا العشق للطبيعة أثرى شعر الشابي بأميز الصور، وأروع الخيالات وأكثرها ابتكاراً، وأعمقها ذوباناً في عناصر الكون.

الشابي الذي صنع الربيع العربي بقصد وبغير قصد

يتجلى إبداع العباقرة في قدرة إنتاجهم على تشكيل الوعي واللاوعي الجمعي الإنساني. والشابي نموذج صريح لهذا. فبيتٌ واحد من أبيات حكمته غير من مصائر أمته عبر أجيال متتابعة، وجعله أيقونة للثورة والتغيير والحرية.

إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة                فلا بد أن يستجيب القدر

بعد أقل من ربع قرن من صوغه، تغنّى مناضلونا بهذا البيت الخالد في حروب وثورات التحرر من الاستعمار الخارجي، وبعد أقل من قرن كان هو فاتحة كتاب ثورات الربيع العربي للتحرر من الاستعمار الداخلي الأشد وبالاً، ولعل في كون الشابي تونسياً مساهمة خفية في عميق الوجدان في أن تصدرت تونس قطار الثورات وإرادة الحياة.

ولا تقتصر مساهمة شعر الشابي في ترسيخ مبادئ التحرر على هذا البيت -ولو لم يقل غيره لكفاه – بل لعل شهرة هذا البيت، ونفاذ معناه في القلوب، قد ظلمنا جميعاً بالتعمية على معانٍ بديعة أخرى للشابي في هذا السياق.

إذا ما طمحتُ إلى غايةٍ           ركبتُ المنى وتركْتُ الحذرْ

ولم أتخوّف وعورَ الشعابْ            ولا  كبَّةَ اللهبِ المستعرْ

ومن يتهيّب صعودَ الجبالْ           يعشْ أبدَ الدهرِ بينَ الحُفَرْ

صراعٌ أزليٌّ في نفس كل إنسان بين روح ٍ كامنة في أعماقه، أخفَّ من النسيم، تريد الحياة الحقة التي تسمو  إلى آفاق المعاني العلوية، والآمال المرصّعة بالنجوم. وطينةٍ ثقيلة تخْلُد به إلى الأرض، وتُمرّغه بأسفل سافلين. وطبقاً لمدرسة الشابي، فلا يريد الحياة حقاً إلا من تخفَّف من أعباء الطين، وطرح أرضاً أثقالَ الحذر الجبان، والحكمة المصطنعة. فأفسح المجال لروحه الكريمة أن تعرج به من قيعان الخنوع،  إلى سماوات الأحلام الجريئة والطموح.  فإما طاولت الجبال الشواهق في رقيِّها وأمجادها، وإما سقطت وأنظارها مصوبة إلى الحلم في الأعالي.  وهذه المعاني ليست اختياراً للإنسان، إنما فريضة من بارئه.

خُلِقْتَ طليقاً كطيفِ النسيم               وحراً كنور الضحى في رُباهْ

تغرّدُ كالطيرِ أينَ اندفعتَ              وتشدو بما شاء وحيُ الإله

كذا صاغكَ اللهُ يا ابن الوجود           وألقتْكَ في الكونِ هذي الحياهْ

مجابهة الأقدار

يلح الشابي على ألا نعتبر البؤس والذل قَدَراً. فهذا يكسب الواقع المشئوم نوعًا من القدسية بربطِه زوراً أو بهتانًا، بقصد أو بغير قصد بالإرادة الإلهية السامية. ولذا فرغم أنه شاع في شعره وصم كل ما يكره (الظلم – الاستعمار – الطغيان … ) بالقدر، فإن ذكرها لا يأتي إلا مصحوباً بروح التحدي والمواجهة لهذه «الأقدار»، وحتمية أن نخوض المعارك ضدها حتى تستجيب إلى آمالنا وأحلامنا.

وأقول للقَدَرِ الذي لا يَنْثني               عن حرب آمالي بكل بلاءِ

لا يطفىء اللهبَ المؤجَّجَ في دَمي     موجُ الأسى وعواصفُ الأرْزاءِ

فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ فإنَّهُ       سيكون مثلَ الصَّخْرة الصَّمَّاء

لا يعرفُ الشكْوى الذَّليلة َ والبُكا       وضَراعَةَ الأَطْفالِ والضُّعَفَاءِ

ويعيشُ جبَّاراً، يحدِّق دائماً       بالفَجْرِ .. بالفجرِ الجميلِ، النَّائي

لا شك أن  ضعف البنية الذي كبَّل جسم الشابيَ أورثه عزماً لاكتساب قوة الروح، وروعة البيان. وهذا ما مكَّنَهُ في عمره القصير جداً أن يحجز لنفسه مرتبةَ راقية بين شعراء العربية على مر العصور. وهذا درسٌ إجباري لنا في سطوة  الظلام الحالك.  فالشابي العليل، والذي عاش في ظل وباء الاحتلال الاستعماري العام لبلادنا، نجح في جعل أبياته قرباناً منيراً على مذبح الأمل والحلم.

أمشي بروحٍ حالمٍ، متَوَهِّجٍ             في ظُلمة ِ الآلامِ والأدواء

النّور في قلبِي وبينَ جوانحي          فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ

وهكذا تعلّمنا من شعره الرقيق، أن نتغنّى بقوةِ التحدي، والاستهزاء بالظالمين، والاستهانة بالجبابرة.

إنّي أقول ـ لَهُمْ ـ ووجهيَ مُشْرقٌ    وَعلى شِفاهي بَسْمة اسْتِهزاءِ

إنَّ المعاوِلَ لا تهدُّ مَناكِبي         والنَّارَ لا تَأتي عَلَى أعْضائي

فارموا إلى النَّار الحشائشَ والعبوا      يا مَعْشَرَ الأَطفالِ تحتَ سَمائي !

هذه الروح المتحدية سلاحٌ استراتيجي في معارك النفس الطويل التي نخوضها، وبدون إيقاظ هذه الجذوة الباسلة في أعماقنا كل صباح، سيتطاول علينا الظلام حتى ننسى أن شمساً ما لابد أن تكلل علياءَنا وتبعث فينا حرارة الطموح ودفء البلوغ.

أما أنا فأجيبكم من فوقِكم              والشمسُ والشفقُ الجميلُ إزائـي

مَنْ جاشَ بِالوَحْيِ المقدَّسِ قلبُه      لم يحتفِلْ بفداحة الأعباءِ

وما الآلام والعقبات إلا صقلٌ للنفس، وإعدادً لمسيرة الخلود.

خلقنا لنبلغَ شَأوَ الكمالِ       وَنُصبحَ أهلاً لمجدِ الخُلُودْ

وَنَكْسَبَ من عَثَراتِ الطَّريقِ    قُوى لا تُهُدُّ بدأبِ الصّعود

بين الوجود والعدم

جُبلنا جميعاً على فطرة البقاء، وغريزة التعلق بالدنيا. ولذا فهواجس الموت والفناء أصيلة في كل منا. وللشابي نصيبٌ من هذا. لكن هاجسَهُ الأكبر هو الوجود الذي كالعدم. يريد الشابي ألا تكون لنا حياةٌ كالموات. فالوجود الحقيقي هو أخذ الحياة بقوة، ومعانقة الأحلام، ومصارعة الآلام.

هُوَ الكَوْنُ  حَيٌّ ، يُحِـبُّ  الحَيَاةَ         وَيَحْتَقِرُ  الْمَيْتَ  مَهْمَا  كَـبُر

فَلا  الأُفْقُ  يَحْضُنُ  مَيْتَ  الطُّيُورِ       وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر !

أما الموت المادي، فلا يقلق الشابي كثيراً. فهو راحة المناضلين من شقاء الحياة التي يصارعونها، وينافحون متجبريها وخانعيها. بل هو مكافأة للبشر الفاني الذي يستحقها، إذ يمنحه تذكرة الخلود، والفكاك من العدم.

أمَّا إذا خمدَتْ حَياتي وانْقَضَى       عُمُري، وأخرسَتِ المنيَّة ُ نائي

وخبا لهيبُ الكون في قلبي الذي      قدْ عاشَ مثلَ الشُّعْلة ِ الحمْراءِ

فأنا السَّعيدُ بأنني مُتَحوِّلٌ        عَنْ عَالمِ الآثامِ، والبغضاء !

لأذوبَ في فجر الجمال السرمديِّ وأَرْتوي منْ مَنْهَلِ الأَضْواءِ

الحب .. المبدأ والمنتهى

هذا الفتى المحلق في الأحلام، كان الحب وقود إلهامه، ومنبع إبداعه. ورغم أن الحب هو الباب الأكبر في الشعر العربي منذ عرفناه، وأن الأقدمين والأوسطين قد أكثروا في جميع مذاهبه حتى جاوزوا حد السرَف، فإن الشابي أضاف للحب لغةً وتعبيراتٍ أتي فيها بما لم يأتِ به الأوائل، ويصعب أن يباريه الأواخر.

وأسيرُ في دُنيا المشاعِر حَالماَ          غرِداً وتلكَ سعادة ُ الشعراءِ

أُصغِي لموسيقى الحياة وَوَحْيها       وأذيبُ روحَ الكونِ في إنْشائي

وأُصِيخُ للصّوتِ الإلهيِّ الَّذي        يُحيي بقلبي مَيِّتَ الأصْداءِ

يذوب الشابي بمعانيه وتعبيراته في روح الكون، وتسمع في قصائده شدو الطيور، وحفيف النسيم الرقيق. ولا يكتفِ  في غزله بالأشكال والصور، إنما يطلق العنان للروح والسمو والطهر والتفرد.

رحم الله أبا القاسم الذي ما مات إلا ليحيا في ذاكرة الشعب والحب والثورة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى