عبد الناصر الذي لا يقهر

هل تخيلتم أن فيلسوفا غربيا يخوض غمار نقاش مع الملك سلمان السعودي أو أي أمير من أمراء النفط ؟؟.. لاشك انها مزحة ثقيلة واهانة للفلسفة .. وأستطيع أن أتصور حجم العتب عليّ لأنني أطرح مثل هذه الفانتازيا وأضيع وقت القراء الذين يبحثون عن قراءة مفيدة أو افتراض واقعي .. ولكنني في تقديمي لهذه المادة التي وصلتني من صديقة مصرية أجد أنني مضطر لطرح هذه الفرضية .. ولكم أن تتخيلوا الملك سلمان ملك الثوار السوريين وملهمهم الروحي والفكري أو ابنه يتناظر مع فيلسوف فرنسي أو مع احدى المدارس الاوروبية الفلسفية .. واستطيع ان أجزم انها ستكون من أجمل مشاهد مسرحية شاهد ماشفش حاجة .. والتي ستكون بعنوان (قارئ ماقراش حاجة) .. وأجزم أكثر انها ستكون من أكثر المسرحيات امتاعا ومؤانسة وتداولا في وسائط التواصل الاجتماعي الساخرة .. ولاعجب أننا لانرى مقابلات مع أي ملك من ملوك السعودية منذ فيصل الذي يمثل وجه العائلة السعودية وأيقونتها الغالية .. لتبين لاحقا أنه لافرق بين أعلى العائلة وأسفلها في العائلة السعودية وبين اولها وآخرها .. لأن العدو الازلي لهذه العائلة المكلفة بوظيفة حماية وحراسة اسرائيل لم يكن الا الحرية والفكر والفلسفة والتنوير والقومية والاحرار العرب والمسلمين .. وعلى رأسهم الرئيس جمال عبد الناصر الذي لاتزال الآلة الدعائية للاخوان المسلمين والاعلام الوهابي يحاول تحطيمه واقتلاعه كما فعل الثوار المجانين الليبيون عندما حطموا تمثال عبد الناصر ثأرا من اسمه وهيبته رغم أنه ثابت في مصر وفي ضمير الكثيرين مثل ابي الهول ومثل الاهرامات ومثل نهر النيل ..

ولكن كما يتآمر الاسرائيليون والخليجيون العرب للتحكم بنهر النيل وازالته عن الخارطة بحبسه في سجن النهضة بين مرتفعات اثيوبية فانهم يحاولون دوما ازالة عبد الناصر واثره من العقل المصري والضمير العربي لأنه يجري في اللاوعي مثما يجري نهر النيل في قارة افريقيا منسابا بثبات نحو البحر ولاتقدر قوة أن تغير مساره .. فهناك دوما قصص سرية مفبركة تسربها بشكل خبيث وسائل الاعلام الخليجية وتظهرها الى العلن عن حياته الخاصة وعن شذوذه النفسي والأخلاقي .. وتظهر شهادات مزورة عن هذا الشاب المصري الوطني الطموح الذي تسبب بالكوارث على مصر واقتصادها حتى صار الملك فاروق بنظر الاعلام الخليجي هو الملك الذي ضيعه المصريون وأخرج من مصر كما خرج آخر الملوك العرب في اسبانية الذي أرغم على مغادرة غرناطة .. وصار بعد ذلك انور السادات هو الرئيس الذي أعاد لمصر وعيها وروحها التي غادرت مع الملك فاروق .. وبينهما الضياع القومي الناصري ..

رغم كل ماقيل عن عبد الناصر وجيله الا أن ذلك الجيل الذي هزم بسبب التآمر العربي – والسعودي تحديدا – كان جيلا من الرواد الذين صنعوا نهضة فكرية وثقافية .. ولكن مايلفت النظر أن عبد الناصر لم يكن مجرد قائد عسكري يحاول الاخوان المسلمون والوهابيون السعوديون تحطيمه واقتلاعه من الضمير العربي باشاعة قصص تسيء اليه والى شخصيته وعصره الرائد وتصويره ضحلا ومحاولة تحميله كفرد مسؤولية الهزيمة التي يجب تحمل مسؤوليتها بشجاعة الرئيس عبد الناصر نفسه في خطاب التنحي رغم انها مسؤولية كل ذلك الجيل ولكن يتحمل معظمها ملوك الرمال والنفط والظلام .. بل ان البحث في ذلك العصر وملفاته المنسية سيكشف أننا كنا مع عبد الناصر أمام جيل من القادة المفكرين الذين كانوا يملكون عمقا فلسفيا ومعرفيا .. ولذلك كانت لديهم القدرة على صناعة الثورة من الداخل حيث تم ترصيعها بالفكر والثقافة والفن والفلسفة فنهضت مصر ونهض معها الشرق لسنوات الى أن وقعت الهزيمة العسكرية عام 67 وتصدع المعطف المعنوي والنفسي للمرحلة الفكرية والثقافية الرائدة والتي تلاها تراجع البناء الفكري والعقائدي وتشتت الثقافة وحدث نكوصها ..الى أن دخلنا عصر السادات المظلم الذي كان عصرا من العمى واللارؤية فجاء جيل من العرب والمسلمين الخفافيش الذين اعتقدوا أننا نرى في الظلام ونتجنب العثرات دون أن تكون له القدرة على قراءة الأمواج اللاصوتية للمؤامرات والمخططات الغربية التي كانت تحاك في الظلام .. ومنه وصلنا الى عصر حمد وتميم والقرضاوي ومرسي ومشعل وهنية وسلمان وابنه الذين قادوا الكارثة الحالية .. حيث يتم التآمر على الخفافيش في وضح النهار دون أن تكون قادرة على فعل شيء سوى الاستسلام للاقدار ومحاولة التحديق اليائس في عين الشمس ..

هذه مقاطع وقصاصات من حوار بين عبد الناصر مع الفيلسوف الفرنسي المعروف جان بول سارتر صاحب ومؤسس الفلسفة الوجودية ومع الفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار .. وفي النقاش تدرك أن الفيلسوفين لم يتفوقا على الرئيس الذي كان واعيا في النقاش لقضايا الفكر والفلسفة والازمات الوجودية للمجتمع .. وأن مايروجه الاعلام النفطي الحاقد عن استهتار أو سطحية الرئيس عبد الناصر هو خزعبلات ومحاولة تافهة لردم هذا النهر بالادعاءات والافتراءات والفبركات والذرائع عندما لم يستطيعوا تحويل مساره .. كما أن محاولة الرسم فوق صورته ببرامج ومقابلات لادانته وتحميله مسؤولية الأخطاء في عهده لن تغير من الحقيقة شيئا لأن البحث في وثائق تلك الأيام يظهر أن الرجل كان مهموما بقضايا شعبه ومشروع النهضة الشامل ومشاكل النهضة ..

وقراءة تلك القصاصات والمحاضر تفيد في أن نحاكم عصر الفلاسفة الجدد الذين يدرس الثوار العرب الفكر في أكاديمياتهم في أكاديمية الملك سلمان للفلسفة .. والأكاديمية القطرية للفيلسوف تميم بن حمد .. والأكاديمية الحمساوية للفيلسوف خالد مشعل .. والأكاديمية الاخوانية .. وكبير الفلاسفة المنصف المرزوقي .. واستاذ وفيلسوف الفلاسفة .. رجب طيب اردوغان

نهر النيل الذي شرب منه العقل العربي منذ الخمسينات لايمكن ان يتحول مجراه ومساره مهما اقيمت السدود في وجهه ومنابعه .. ولايمكن لحفنات الرمال أن تغمره أو تردمه .. لقد شق مساره ولايمكن الا أن يقهر الصحراء ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى