من يريد التخفي وراء (ترامب الاحمق) ؟

“حتى الأحمق يصبح بالمال عملاقاً”

دوستويفسكي

وصف دونالد ترامب الرئيس الامريكي الجديد بالاحمق ليس مني وانما من امريكيين وهو احد الاوصاف الكثيرة التي اطلقت عليه ، وثمة شبه اجماع وسط النخب الامريكية على ان ترامب شخص عدواني وانفعالي ومحدود الوعي السياسي وخبرته تتركز في التجارة والاعمال وهو ناجح في هذا المجال ، وهو لذلك لا يأخذ ويعطي بل هو يريد ان يأخذ فقط وعندما يعطي فلكي يعود فيأخذ اكثر ، وهذه هي ابرز سمات ترامب.

بعد ان فاز وقدمت له تقارير كثيرة صريحة وواضحة وتشاور مع خبراء وساسة مخضرمين مثل كيسنجر وعرف ما كان يجهله وحشي دماغه بمعلومات مخابراتية ضخمة فعرف ما هو مسموح له به وما هو ممنوع عليه .

لكنه تصرف يوم الاثنين الماضي عند اجتماعه بادارة المخابرات المركزية الامريكية كانه لم يعرف بعد قواعد العمل الرئاسي فاعاد طرح تصريحات اطلقها اثناء الحملة الانتخابية وظن كثيرون انها نتاج التنافس الانتخابي وانه سوف يتراجع عنها بعد ان توضع امامه ملفات ومعلومات عن العالم وكيفية التعامل معه, لكنه اعاد تأكيد انه كان يجب اخذ النفط العراقي كتعويض reimbursement عن خسائر امريكا عند غزو العراق وذكر ثلاثة تريليون دولار ، بل انه شرح كيفية ذلك وقال بوجوب وضع قوات امريكية حول منابع النفط واخذها !

شبكة السي ان ان المناهضة لترامب عقدت لقاء مع اعلاميين امريكيين تحدثوا عما قاله ولخص رد فعلهم احد معلقي الشبكة عندما وصف ما قاله ترامب بانه ( سخيف وجنون ( حماقة ) “ridiculous” and “nuts. ) السؤال الذي يحاصر كل عراقي وخليجي الان هو : هل حقا انها حماقة من ترامب ام انها تنفيذ لخطة جهة اخرى تتستر بحماقته كما تسترت نفس الجهة بغباء بوش الصغير ؟

1- لا بد من التذكير بان ازمة امريكا البنيوية وصلت مرحلة خطر امكانية حصول انهيار مفاجئ اقتصادي او اجتماعي في امريكا واعلان افلاس امريكا بعد ان تجاوز الدين العام سقفا خياليا وهو العشرين تريليون دولار حسب أرقام تموز – يوليو 2011 وهو ما يعادل 98٪ من الناتج المحلي الإجمالي وهو يعني من بين ما يعنيه أن كل مواطن أمريكي مدين بأكثر من 46 ألف دولار أمريكي ، بينما كان عندما تسلم بوش الصغير من كلنتون هناك فائضا في الميزانية وتراجع الدين العام الى بضعة مليارات .

الدين هذا يجعل امريكا مثل شخص يأكل ويقاتل ويفرح ويمارس الجنس ويتراقص سياسيا معتمدا على الاقتراض لانه مفلس تماما ، ولهذا فهي بعد ان رفعت ادارة اوباما سقف الدين وتجاوز العشرين تريليون دولار امام خيارين احلاهما مر : فاما ان يحصل انهيار او ازمة كاسحة تجبرها على اعلان الافلاس او تجد وسائل تأجيل الانهيار ومنها توفير موارد جديدة تخفف بواسطتها ازمتها البنوية او تؤجلها كما فعلت كافة الادارات السابقة ومن بين تلك الوسائل اعادة النظر جذريا بكافة قواعد التعامل العالمية والداخلية وتسخير كل شيء لمنع الانهيار .

وهذا هو واجب ترامب الذي اعلنه وهو انه سيتخلى عن اهم قواعد الرأسمالية وهي اقتصاد السوق الحرة وسيفرض الحماية مشهرا الامركة بدل العولمة رسميا ملغيا اتفاقيات تجارية وفارضا قيودا على الشركات الامريكية ، والاهم بالنسبة لنا هو انه سينهب ثروات العرب الاغنياء بالقوة .

2- صعود الموجة الشعبوية في امريكا وكذلك في اوربا هي في ان واحد عفوية ومخططة ، هي عمل مخطط لانها ثمرة سياسات امريكية كارثية بالنسبة للطبقتين الوسطى والعمالية استمرت لعقود فافقرتهما وطحنتهما وفسخت قواعد التفكير المنطقي والواعي الذي كان يحكم مسار تفكير المتعلم والمثقف واحلت بدلها طريقة تفكير الاناني الامي او الساذج ونصف المثقف اليائس ، فاخذت الشعبوية تتصاعد الى ان طغت في الانتخابات الاخيرة واسقطت المثقف – مثلا ساندرز – من عرش الوعي وبعد النظر ليحل محله فوق عرش العفوية المتوحشة انسان يجهل قواعد السياسة وتعقيدات اوضاع العالم وتربى على المتعة والانانية المطلقة والعدوانية المنفلتة اختارته نخب وجماهير امريكية شوه وعيها عمدا وحشرت ادمغتها بوعي استهلاكي تحركه انانية مطلقة ، فرأت في ترامب املا بانقاذها من التدهور الذي اصابها منذ تسعينيات القرن الماضي ، وتلك هي قاعدة ومصدر قوة الشعبوية الحالية .

حينما يخطط مسبقا وعمدا لانتخاب رؤوساء ضعاف الشخصية منذ جيمي كارتر، او شبه اميين او لديهم ما يشبه التخلف العقلي مثل جورج بوش الصغير والذي وصف في استفتاء للرأي العام الامريكي بانه اغبى رئيس امريكي فان هناك هدف من انتخابه وهو الاستثمار الكامل لضعف المرشح او لنصف اميته وتخلفه الفكري او شبه العقلي لامرار سياسيات يجب ان يتحمل نتائجها المعنوية هو وليس النخبة المقررة لمسارات امريكا ومن يحكم فيها.

منذ اغتيال جون كنيدي طغت ظاهرة انتخاب رؤوساء ضعاف الشخصية ، وعندما ينتخب رئيس ذكي او قوي بالخطأ فانه اما يحرق بفضيحة يورط عمدا بها مثل بيل كلنتون االذي دبرت له فضيحة مونيكا فحجمته او مثل فضيحة ووترجيت التي دبرت لنيكسون فاقصته.

الرئيس الامريكي ليس فقط مدير تنفيذي مرغم على التقيد ب ( اتفاقية الجنتلمان ) السابقة لانتخابه بل هو يعرف مسبقا انه سيقتل جسديا او معنويا لو خرق الاتفاقية ، وبما ان مرحلة العالم الواعي الذي يخضع له الاشياء التي يصنعها قد اوشكت على الانتهاء ودخلنا وقت عالم تسوده روبوتات حية ، اي البشر المسيرين ، فان اول روبوت حي يجب ان يكون الرئيس الامريكي واكثر من غيره لانه الروبوت الذي يسلم مفاتيح تدمير العالم كله بخطأ يصدر عن عقل متخلف او مصاب بالحماقة ، لهذا فان الروبوت الحي الموضوع في البيت الابيض يتميز بأنه مضبّط كليا ولا يتحرك الا بضغط زر وذلك يشمل حتى التصرفات التي تبدو غبية او شعبوية فهي محسوبة بدقة ومنها حماقة اخذ النفط العراقي والسعودي ، لان المطلوب هو ادخال العالم في نفق مظلم وظالم بطريقة ومستوى لم تجربه البشرية .

وترامب انتخب لهذا الدور بعد ان درس بدقة واخضع لتاثيرات نفسية خلال عقود ليكون احتياطا لمرحلة قادمة ولهذا اعلن عن رغبته في الرئاسة منذ فترة طويلة وانتج فيلم كارتون يصوره رئيسا في عام 2000، ثم اختيرت هيلاري كلنتون منافسة له عمدا واسقط مرشحون اقوياء مثل ساندرز ، لتبقى كلنتون المنافس الوحيد له وهي الفاقدة لابسط مقومات الشعبية نتيجة فسادها ، كي يفوز ترامب وبدعم المخابرات وبطريقة مفضوحة ، كما فعل مكتب المباحث الفدرالية باعلانه قبل بضعة ايام من الانتخابات عن فضيحة رسائل كلنتون فوجه لها الضربة القاضية عمدا وتخطيطا .

ورغم كره الناس لهيلاري فان ترامب لم يفز بالاصوات الشعبية وتفوقت عليه المكروهة جدا في الاصوات الشعبية لكنه فاز في الكلية الانتخابية وهي جهة وضعت اصلا لضمان اختيار من تريده النخبة وليس الشعب ، واعترف الجميع بان كلا المرشحين يمثلان اسوأ من ترشح للرئاسة في تاريخ امريكا وانهما يمثلان الانحطاط بكافة معانيه واشكاله . فهل كل ذلك صدفة ؟

3- والان ماذا نتوقع من رئيس اختير عمدا احمقا وجاهلا وعدوانيا وارادته متحجرة مثل خشب يابس ؟ اول ما نتوقع منه هو مواقف مناقضة لكل ما نحتته عقول امريكا بعد نضال جاد وطويل ضد الجهل والتجهيل والتخلف ، وقبلها ما قدمه فلاسفة ومفكري اوربا في عصر النهضة وما بعده من قواعد تحكم سلوك الامم والافراد مثل القانون الدولي والقانون الدولي الانساني ونظرية العقد الاجتماعي وحقوق الانسان ومفهوم السيادة والمنظمة الدولية – الامم المتحدة – والمؤسسات الاقتصادية الدولية والمنظمات الاقليمية التي تضم وتنسق بين الامم لتوحد جهودها في عالم كان مفترضا ان يسوده المنطق والعقل والتعاون حتى وان غابت فيه العدالة .

وهذا ما عاشته البشرية بكل سلبياته وايجابياته منذ نهاية الحرب العالمية الاولى وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي ، ولكن بعد انهيار الاخير تغيرت قواعد اللعبة الدولية فمن اضطر لتبني كل ما ذكرناه من ضوابط وقواعد سلوك وصل مرحلة لم يعد فيها ملزما بمواصلة التقيد بها لانها اصبحت تعيق رغبته الجامحة بالاستيلاء على ثروات الاخرين دون عوائق فظهرت العولمة لتلغي سيادة الدول الاخرى – باستثناء العظمى والكبرى – ولكن اكتشف العالم بان العولمة ليست الا غطاء للامركة ! فعادت البشرية الى صراعات الوحوش ولكنها هذه المرة وحوش مسلحة باخطر الاسلحة الفتاكة ومجردة من اي قيم واخلاق ومشاعر انسانية لان الهدف الوحيد لها هو نهب الاخرين واضافة النحر الجماعي لهم للتسلية وهو ما لم يفعله الانسان القديم ابدا .

4- عندما يقول ترامب انه كان يجب اخذ نفط العراق كله كثمن لغزو العراق وعندما يقول يجب ان نأخذ نفط السعودية كثمن لحمايتها فانه يقدم لنا انانية متطرفة لاترى الا رغباتها وتتجاهل كليا حقوق الاخرين وهي الطريقة التي تفكر بها النخبة المتحكمة بامريكا وهي طريقة مصارع منفلت ينساق وراء مشاعره الهائجة رغم انه يعرف بان المصارعة كانت محض تمثيل وان النتيجة كانت متفقا عليها مسبقا !

ترامب الذي كانت اهم هواياته مداعبة امراة بوقاحة مصارع يعتمد على قوته البدنية وجد ان بامكانه ان يكون رئيسا لامريكا ومن موقعه هذا يمكنه ان يتصارع بقوة رئيس اقوى دولة في العالم ولكن مع دول اضعف من امريكا بكثير وتملك المال الذي تحتاجه امريكا لتأجيل انهيارها . وهنا نرى النخبة من وراء الستار تحركه وتدعمه لكنها تبتعد عنه وتتركه يقوم بما تريد وهو مقتنع به تماما لكنها بعد ان يقوم بما ارادته ستنهيه كما انتهى بوش الصغير بعد ان اكمل ما كلف به فوصفته نفس النخبة التي اختارته بأنه أغبى رئيس امريكي وستصف تلك النخبة التي اختارت ترامب رئيسا بانه اكثر رؤوساء امريكا حماقة !

5- الان حان وقت النهب المكشوف فعندما تقول لملايين الامريكيين البسطاء والذين تربوا على الانانية المفرطة يجب نهب نفط العراق لتوفير الوظائف للعاطلين ستجد كثيرين يصفقون لك لان نهب العراق سيوفر لهم المزيد من المال والمتعة دون اي تفكير بحقوق الاخرين وما يتعرضون له من ابادة وتدمير منظم لانجاح النهب .

ترامب يجسد هذه الانانية المتطرفة التي تنسى ان العراق لم يذهب لغزو امريكا بل هي التي جاءت لغزوه وتدميره وابادة الملايين وتشريد ملايين اخرى ! ترامب لم يتذكر بان الاسباب التي استخدمت لغزو العراق اعترفت امريكا رسميا بانها كاذبة مثلما ثبّت تقرير تشيلكوت البريطاني هذه الحقيقة ويترتب عليها وفقا للمنطق الغربي اعطاء العراق تعويضات لكنه مع ذلك يريد من العراق تعويضا عن غزوه وتدميره ومكافئة لكل جرائم امريكا ضد شعبه ! يريد من ضحيته ثمن الرصاص الذي قتلها به !

اذا اراد ترامب تعاونا ضد اسرائيل الشرقية فأهلا ومرحبا فالاخيرة سجلت سابقة التعاون مع بوش لانجاح غزو العراق والعين بالعين والسن بالسن والبادئ اظلم ، ولكن اذا نفذ ترامب ما قاله وجاء للعراق غازيا وناهبا فان عليه ان يعرف قبل ان يتورط حقيقة يؤمن بها اغلب شعب العراق وهي انه اذا قاوم الغزو في عام 2003 بالاف المقاتلين وهزم القوات الامريكية وهي في عز قوتها وتفوقها فان ملايين العراقيين سيتصدون بالسلاح للقوات الامريكية وسيكون شعارهم الوحيد ( النصر اوالنصر ) علما ان امريكا وصلت الان الى الحضيض ماليا ونفسيا وهي حالة ستضمن للمقاومة العراقية نصرا ستراتيجيا حتميا اسهل من نصرها الذي اجبر امريكا على الانسحاب وتسليم العراق الى جروها اسرائيل الشرقية ، فهل ستسبق حماقة ترامب حس التاجر وتجعله يخسر تجارته وكل رصيده ؟ ام انه سيختار التعاون المتكافئ البعيد عن نزعات الهيمنة ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى