اشرس لعبة عض اصابع بين ترامب ووكالة المخابرات المركزية

برزت معالم مواجهة بين الرئيس المنتخب دونالد ترامب الاجهزة الأمنية الاميركية وتصاعدت حدتها عقب “ظهور” تقرير في وسائل الاعلام يزعم ان ترامب قد تم تجنيده من قبل روسيا والتي لديها معلومات محرجة جدا حول مسلكه قد توظفها في ابتزازه. ترامب بدوره سارع الى اتهام مسلك مراكز قوى الاجهزة الأمنية “بالمشين.”

تضارب الرواية مع السردية العامة وعزوف الاجهزة تقديم الادلة الحسية اسهم مباشرة في وأدها واعتبارها خدعة، مما دعا كبريات الصحف الى رفض نشرها، خاصة صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست، نظرا لعدم صمود الرواية امام الحقائق. اما شبكة سي ان ان الاخبارية التي روجت للرواية على شاشاتها فقد نالت ازدراء المراقببين واتهام ترامب لها بأنها مختصة بتلفيق الاكاذيب.

اخطبوط الوكالة المركزية

يعتقد ان مصدر الرواية الكاذبة اما احد او بعض الاجهزة الاستخباراتية، مما سيعرضها لردات فعل ربما قاسية من الرئيس المقبل، وتوفر له مبررات ومنصة انطلاق لاتخاذ اجراءات “اصلاحية” في عمل الاجهزة كافة غلب عليها البعد السياسي وربما الانتقامي.

العارفون بخبايا عمل الاجهزة الاستخباراتية يعتبرون انها بمجموعها تعاني من عقدة نقص “المهمة المستحيلة،” تيمنا بالمسلسل التلفزيزني الشهير بذات الاسم في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. ركز المسلسل على تكليف ضباط الاستخبارات القيام بمهام استخباراتية معقدة وانجازها بالكامل. وعليه، ترسخت مفاهيم عامة ان تلك الاجهزة “معصومة عن الخطأ.”

لا يجادل احد في القدرة والامكانيات المتطورة الضخمة المتوفرة لتلك الاجهزة، تفاصيلها محاطة بجدار سميك من السرية، احسنت توظيفها بكافاءة تحسد عليها، لا سيما في مجالات الاقمار الاصطناعية التجسسية واعتراض الاتصالات بكافة تنوعاتها، واسترداد غواصة نووية روسية من اعماق المحيط الهاديء. بيد ان مجمل السجل لا يخلو من اخفاقات بليغة امتدت لعقود عدة.

واجهت وكالة الاستخبارات المركزية، السي آي ايه، تحديدا سلسلة من الفشل الاستخباراتي منذ نشوئها كانت بالنسبة لها “فضيحة بجلاجل.” ابرزها عملية العدوان على كوبا الفتية بعملية خليج الخنازير، محاولات متواصلة فاشلة لاغتيال الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، تخبط الوكالة في حرب فييتنام، فشلها في عدم التنبؤ بالدخول العسكري السوفياتي لافغانستان، الفشل المميز في عدم صوابية رؤيتها لمصير شاه ايران والاطاحة به، قصف معمل الادوية في السودان، ما ينسب لها من فشل في اعتراض هجمات ايلول 2001، المعلومات الملفقة لما اسمته اسلحة الدمار الشامل في العراق، وفشلها ايضا في بؤس تحليلاتها التي ادت لسوء تقديرها في نجاح تنظيم داعش.

تراكم الفشل ادى بالقائمين على الوكالة الى استحداث مزيد من العمل البيروقراطي ابرزه انشاء منصب مدير للأمن الوطني عقب هجمات ايلول 2001؛ الأمر الذي يمكن تعداد فوائده على آليات العمل الاستخباراتي بمشقة كبيرة.

يشار الى ان الرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون ادرك مبكرا ضرورة ادخال اصلاحات على عمل الوكالة، دون تحقيق اي تقدم ملموس؛ كما ان الرئيس جيمي كارتر ايضا كرر المحاولة، كليهما لخدمة الاجندة السياسية للرئيس. مدير الوكالة ابان عهد الرئيس كارتر، ستانسفيلد تيرنر، اتى به كارتر من صفوف البحرية وكان برتبة ادميرال، حدد مكامن الضعف في مديرية التجسس وسعى لتشذيبها بالغاء نحو 820 وظيفة في صيف عام 1977. لم يدم له البقاء طويلا لاختبار نجاعة اسلوب معالجته.

في مواجهة مؤسسة عريقة لها تاريخ طويل من النفوذ وشراء الذمم، والتخلص من اي شخص مهما علت مكانته، هل يسطيع الرئيس المقبل ترامب تحقيق اي انجازات تذكر. السؤال يتكرر على ألسنة الاجهزة الرسمية والمراقبين على السواء.

كلف ترامب فريقه لشؤون الأمن الوطني اعداد تقرير مفصل يحدد آليات يمكن تطبيقها “لتطوير” عمل الاجهزة، بما فيها تهديدات القرصنة وسبل مواجهتها، وتقديمه خلال 90 يوما من تسلمه مهامه الرسمية.

الشائع عن ترامب انه يغفل أهمية عمل اجهزة الاستخبارات وتطبيقاتها. بيد ان حقيقة الأمر تكمن في “نجاحات” ترامب العملية التي لا يمكن تحقيقها بهذه الشمولية والتوسع الدولي دون توظيف فعال لجمع معلومات استخباراتية واتخاذ سبل حماية مناسبة، أسوة بالشركات الكبيرة واصحاب الثروة: معاملاته اليومية مع الشركات متعددة الجنسيات؛ التعرف بدقة على سوق العقارات وما سيعرض منها للبيع بغية الاستثمار، وما يرافقه من مفاوضات تخص القيمة الشرائية والترتيبات الاخرى، فضلا عن ردود افعال السلطات المحلية، البلدية وما فوق، لأي مشروع يقدم عليه.

يطلق على المهام آنفة الذكر “الاستخبارات العملية،” التي ينبغي ان تتحلى بالدقة والموضوعية كي يتم تسخيرها بفعالية تعود بالفائدة القصوى على اصحابها.

الاطلالة على كيفية استفادة ترامب او تسخيره لتلك المعلومات تؤشر على نواياه المستقبلية لتوظيفها والاستفادة منها في القريب المرئي، ودلالة على نواياه لاجراءات اصلاحية.

نظرة سريعة على خلفية طاقم ترامب لشؤون الأمن القومي تفيد انه بمعظمه لديه خبرة عسكرية اضافة لمدير شركة اكسون العملاقة، والذين بمجموعهم كانوا يتلقون “استخبارات عملية.”

على الطرف المقابل، الخلفية السياسية الصرفة لطاقم البيت الابيض بمن فيهم الرئيس اوباما نفسه يجد ارتياحا اوفر في معلومات استخباراتية بابعاد سياسية وتسخيرها لخدمة اغراض سياسية مباشرة. الأمر الذي نتج عنه تلك التقارير الاستخباراتية التي عومت مقولة اسلحة الدمار الشامل، ابان عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، وما رافقها من غزو واحتلال كارثي للعراق – والدول الاقليمية الاخرى المرشحة مباشرة حسبما افادت تلك التقارير والافادات لاحقا.

شهدت ولاية الرئيس اوباما اتهامات متعددة لتلاعبها بتقارير الاجهزة الاستخباراتية “وحجب” التقارير التي لا تؤيد رؤاها وسياساتها الخاصة بتنظيم داعش، والتي جاءت على نقيض مباشر لسردية ادارة الرئيس اوباما الرسمية. سردية تشبثت بابراز “نجاح سياستها حول سوريا،” خلافا للتقارير الميدانية والتحقيقات الاعلامية ايضا.

اصرار ترامب وحماس فريقه لتملك زمام القرار بادخال اصلاحات على الاجهزة الاستخباراتية يقود المرء الى حملة مواجهة وتغيرات، ربما بوتيرة سريعة، لتحقيق مقاصده في توفير معلومات ذات فائدة عملية.

بعض الاصلاحات المرئية

نوايا اجراءات الاصلاح تشمل مروحة واسعة من تعديل على صعد الاجراءات البيروقراطية وتعزيز مفاهيم نواة انشاء الاجهزة الاستخباراتية، جمع المعلومات وتنقيحها، والتصدي للتسريبات عبر الوسائل الاعلامية بمختلف توجهاتها، الخ.

اصلاحات سياسية

تجاوزت الاجهزة الاستخباراتية مهامها الاولية بدخولها ميدان الحلبة السياسية واستحداث مراكز ومناصب جديدة، نالت آيات الثناء والرضى على انجازاتها المتصورة. بالمقابل تم استبعاد المهنيين من الطواقم المتعددة الذين يميلون لتوفير معلومات خضعت للتدقيق والفحص، بعضهم فضل الاحالة المبكرة على المعاش.

من الجائز ان يضخ ترامب دماءً جديدة في تلك الاجهزة، تحت بند التعيينات السياسية، مما سيضع الشرائح القيادية العليا الراهنة في عين العاصفة للتدقيق في نوعية ووجهة التقارير الاستخباراتية السابقة.

من خصائص ترامب، وامتدادا فريقه المتشدد، ميله لعدم التسامح وسرعة الرد وجاهزيته لاقالة من هم في المراتب الادنى واصحاب الاداء المتدني عن المعايير الموصوفة. وعليه، يمكن القول ان اولئك اصحاب التقارير السابقة والمشكوك في دقتها قد يخضعون للمساءلة تفرض عليهم الدفاع عن مجمل ادائهم، وما سينجم عنها من تهميش او اقالة مرتقبة.

تداخل المهام العسكرية والاستخباراتية

توجهات ادارة الرئيس اوباما الخارجية اوجدت مجالات متقاربة لعمل الاجهزة الاستخباراتية والعسكرية، ويمكن القول ان العمل الاستخباراتي خضع لتوجيهات القيادات العسكرية في البنتاغون، مما ساعدها بشن سلسلة حروب فضل البيت الابيض بقاءها بعيدة عن أعين الاعلام. واوكلت مهام حرب الطائرات المُسيّرة للاستخبارات المركزية بالتنسيق مع وحدات القوات الخاصة لفرض حقائق ميدانية.

عانت تلك العمليات من اوجه قصور ذاتية متعددة، منها ان القوات الخاصة اثقلت بتنفيذ مهام ساهمت في استنزاف سريع لامكانياتها البشرية خاصة لقرب نهاية الخدمة الفعلية على صعيد ضباط الصف تحديدا، ويتهيأون لدخول الحياة المدنية.

ترامب وفريقه سيعتمدون بشكل شبه كامل على المد البشري المدرب من صفوف البنتاغون، وتوفير اقصى ما تحتاجه القيادات العسكرية من امدادت قد تتباين مع بنود للميزانيات المخصصة.

تقارير استخباراتية عملياتية

ندد ترامب منذ بدء صعوده على الساحة السياسية بالتقارير الاستخباراتية اليومية المقدمة، التي يعتبرها حيكت لخدمة اجندات سياسية وهدر للوقت، الأمر الذي دفع به الى تفادي اللقاء اليومي مع ضباط الاستخبارات؛ وفعل الامر عينه الرئيس اوباما في بعض الاحيان.

ترامب ايضا لا يتحلى بميزة الاصغاء بعمق للآخر، واوضح مرارا ان تلك التقارير لا توفر له معلومات لم يطلع عليها مسبقا في معظم الاحيان. كما ان بعض اعضاء فريقه لا يخفي امتعاضه من المعلومات الاستخباراتية “غير المفيدة،” وسيسارعون لتوضيح احتياجاتهم من اطقم الاستخبارات.

لن يدخر ترامب جهدا لتوضيح نواياه من التقارير الاستخباراتية وضرورة تفادي نزعة اتساقها مع الرغبات الذاتية والتركيز على حقيقة ما يحتاجه.

الاعلام نقيض ترامب

تسريب المعلومات بكافة انواعها لوسائل الاعلام هي قضية مرحب بها جماهيريا وتمقتها الاجهزة والقيادات الرسمية بشكل عام. معظم الادارات الاميركية عانت وتعاني من اكتشاف الشعب لحقيقة نواياها وخطابها في الاروقة الخاصة، ولم تسلم منها ادارة اوباما التي تعد من اشد الادارات قمعا للحريات الصحافية باساليب متطورة وخداعية. مثلا، رحّلت الادارة ما لا يقل عن 2 مليون “مهاجر فاقد للاثباتات الرسمية” مما يفوق ما فعلته ادارة سلفه جورج بوش الابن – المحافظة والمتشددة.

ترامب بطبيعته كثير الشك بمقربيه ولا يثق الا بنفسه؛ ويحظى بكراهية كبيرة بين الاجهزة الاستخباراتية بمجملها. وسعى ترامب الى “ابتزازها” مؤخرا على خلفية سلوكه المنسوب له اعلاميا، بالاعلان في مؤتمره الصحفي الاول، قبل بضعة ايام، بأنه اطاخفى عمدا بعض المعلومات الناجمة عن لقائه بقادة الاجهزة عن مستشاريه ليتبين لاحقا انها اضحت متداولة في الاعلام. الاستنتاج الطبيعي ان المسؤول عن التسريب هو من داخل الاجهزة الأمنية، ليس الا.

تفاقمت المواجهة بين ترامب والاجهزة الاستخباراتية عقب تداول وسائل الاعلام تقارير ثبت خطأها حول العلاقات المتينة التي تربط ترامب بروسيا. المواجهة اتخذت منحاً خطيرا بين الطرفين واعلان ترامب ان “بعض الاشخاص” يغامرون بالنيل من مصداقية الولايات المتحدة واجهزتها بغية الحاق الضرر بالرئيس المنتخب.

من المرئي تصميم ترامب وفريقه للأمن الوطني على تحديد حلقة التسريب ومن وراءها، واتخاذ التدابير المناسبة ضد افرادها؛ مما يبشر بصراع سياسي مكشوف قريب.

براءة ترامب

تصميم ترامب على الذهاب في مواجهة مع اخطبوط الاجهزة الأمنية، ونظرا لفقدانها الدليل المادي القادر على اقناع الجمهور بتبعية ترامب لروسيا، ادى باطاحة سريعة لتلك السردية واضطرار بعض الوسائل الاعلامية الى عدم الترويج لها، وبعضها الآخر لزم الاعتذار.

واوضحت شبكة ان بي سي للتلفزة، فيما يخص الملف الخاص بترامب بين ايدي روسيا، بأن “مسؤول استخباراتي رفيع اوضح انه الرئيس المنتخب لم يتم اطلاعه على المعلومات المضافة للملف، التي تم اعدادها كجزء من جهود الحزب الجمهوري المناهض لترامب.”

واردف المسؤول الرفيع ان اللقاء مع ترامب واطلاعه على المعلومات تم بطريقة شفوية ولم يتم تبادل اي وثائق او ملفات سلمت للرئيس المنتخب. الأمر الذي يناقض كليا رواية الاجهزة قبل ساعات معدودة من “فضح” ترامب للاسلوب الرخيص للنيل منه.

بل أكد المسؤول في روايته للشبكة ان “مسؤولي الأمن والاجزة الاستخباراتية وافقوا على ان كافة جهود التحقيق لم تتوصل لنتيجة قاطعة او مباشرة للربط بين ترامب والحكومة الروسية، مطلقا.”

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى