في يوم ميلادك.. لك الفرح والمسرة واسماء الحب الحسنى

في عيد ميلادك، السلام عليك- يا ابا خالد- حاضراً في الزمن الحاضر، والرحمة لك ساكناً في جنة الرحمان.. لانك في الحالين ما زلت مالئ الدنيا وشاغل الناس، وما زلت تزداد تألقاً وتعملقاً رغم توالي الاعوام وتنائي مسافات الغياب، وما زلت قوة المثال ومسطرة القياس وبوصلة الاتجاه، كلما غامت الرؤى وزاغت الابصار واختلطت الاوراق وتباينت المواقف والمعارف.

في يوم ميلادك، لك الفرح والغبطة – يا جمل المحامل – وزنابق البهجة واكاليل المسرة واسماء القلب الحسنى.. فقد طلعت على امتك من برج السعد وقبة الوعد وكوكب البشرى، وقد حباك المولى عز وجل هالة من الكاريزما رافقتك من المهد الى اللحد، ووضعتك  على عرش المجد القومي، ونشرت صيتك في اربعة اقطاب الارض، وحفظت اسمك في اعلى صفحات التاريخ.

في ذكرى ميلادك الميمون والعابق بالخير والبركة، تٌّأخذنا جدائل الشوق وسلاسل الحنين الى زمانك الوضاء وايامك الغراء، ومواقفك الشامخة وثوابتك الراسخة، ونضالاتك الباسلة لتأليف القلوب وتوحيد الصفوف، وتحشيد القوى والطاقات، وتحديد الاهداف المركزية والمهمات الاستراتيجية، وتحقيق اوسع عملية فرز بين الغالبية الشعبية الوطنية والقومية والطليعية، وبين الانظمة والمنظمات والاحزاب والجماعات العميلة والفاسدة والرجعية.

على الدوام، كنت في امتك القوي الامين، والرائد الذي لا يكذب اهله، والمارد الذي ردم الحواجز السياسية ما بين المحيط والخليج حتى ولو لم يردمها جغرافياً، والقائد الذي اعاد للعروبة وهجها ووزنها وثقتها بنفسها، وضاعف من احساس مصر التي كانت فرعونية بعروبتها وانتمائها لامتها.. في حين عمد نواطير جزيرة العرب وغربانها الى طمس هويتها العربية التاريخية، ووصمها باسمائهم القبلية والوهابية المقيتة.

تعيسة هذه الامة العربية، ومنكودة الحظ والبخت والطالع، فقد غاب فارسها الناصري مبكراً ودون سابق انذار.. غادرها وهو في ذروة الرجولة وقمة العطاء.. غربت شمسها في عز الظهيرة وانقطع حيلها وعزمها وهي في منتصف الطريق الى الانتصار، ثم لم تلبث طويلاً حتى داهمتها الخطوب والنوائب من كل جانب، وتسلطت عليها كهنة الردة والرجعية والامبريالية، وانتقلت قيادتها من قاهرة المعز الى عواصم النفط والرمل الخليجية، وانقلب حالها وانعكس مسارها من التقدم الى التقهقر، ومن النهوض الى الهبوط، ومن البذل والعطاء والفداء الى التربح والتكسب والارتشاء، ومن الثقافة الحداثية والريادية الى الخرافة الظلامية والفتاوى التكفيرية المحمولة على فقه الذبح وجهاد المناكحة.

مسكينة هذه الامة العربية، لانها تكاد تكون الامة الوحيدة فوق هذا الكوكب التي يخونها حكامها، ويبيعها اثرياؤها، ويهجوها فقراؤها، ويهجرها علماؤها، ويلعنها مثقفوها المتأمركون، ويذبحها مجاهدوها المتوحشون، وينكرها شيوخ الفتنة كما لو انها رجس من عمل الشيطان، وينهبها رموز الفساد كما لو انها دكان بلا ابواب، ويغمرها حكام الغفلة بالقواعد العسكرية الاجنبية كما لو انها قاصر لا تستحق الحرية والاستقلال، ويهرعون صوب لندن وواشنطن وباريس وحتى تل ابيب ضارعين ومتوسلين ادامة استعمارها لبلادهم وحمايتها لعروشهم وتلاعبها بمكونات شعوبهم.

محزونة هذه الامة العربية، فقد نبعت ثرواتها النفطية في المكان الخطأ، ووقعت في ايدي الجهلة الذين بددوها فيما يضر ولا ينفع، وسخروها لتخريب العقل الجماعي العربي، ومحاربة الوعي العلمي والقومي الوحدوي، ونشر الخطاب الغيبي الوهابي والارهابي، وترويج آفات الكسل والتواكل والخمول وفرك اصابع القدمين.. وآه ثم آه من مخاطر متلازمة المال والجهل اللذين طالما شكلا شفرتي مقص عملاق تجتث اسمى الفضائل والمبادئ والاخلاق.

شتان بين مشرّق ومغرّب.. بين صاحب ضمير مستنير وبين شارب بول البعير، فقبل نحو سبعين عاماً لم تكن مصر تتربع فوق بحيرة نفط او سرداب غاز، ولم يكن جمال عبدالناصر يمتلك ذهب المعز وخزائن قارون، ولكنه اصدر حكماً على الشعب العربي ”بالتعليم”، واعلن بملء الصوت ان العلم والتعليم والثقافة حق مشاع لكل عربي مثلما الماء والهواء، وبادر من فوره  بفتح ابواب مجانية التعليم المدرسي والجامعي والمهني والازهري، ليس لابناء مصر وحدها، بل لكل طالب عربي ما بين  صنعاء والدار البيضاء.

لقد تخرج من جامعات مصر الناصرية جيل عربي كامل يضم عشرات آلاف المهندسين والمدرسين والعلماء والاطباء والادباء والمدراء والفقهاء المستنيرين والقادة السياسيين الذين شكلوا بمجموعهم رافعة قومية اسطورية اسهمت في سطوع حالة ثورية نهضوية اخرجت السواد العربي من الظلمات الى النور، ومن كهوف الامية الابجدية والمعرفية الى شرفات العلم والفكر والفن.

قطعاً نحن لا نقارن بين إمام الناصرية واقزام الردة والرجعية، ولكنها تذكرة لجيل الكبار الذين هم عن ذاكرتهم ساهون، وتعرفة لجيل الشباب والكهول الذين ما عاصروا ”ابا خالد”، وانما سمعوا به وعرفوا عنه – في الغالب- من ابواق اعدائه الحاقدين والموتورين الذين ما زالوا يكيدون لمصر، ويتآمرون حتى على نيلها الخالد وسدها العالي ونوارس تيران وصنافير.

قبل تسعة وتسعين عاماً دعتك الحياة, يا ابا خالد, فلبيت الدعاء، ونادتك الدنيا فاستجبت للنداء، وقصدتك العروبة فما خيبت الرجاء، بل خرجت في الناس شاهراً سيفك، ورافعاً رأسك، وعاقداً عزمك على تحدي المستحيل، وركوب الصعب، وجبر خاطر فلسطين، ومداواة حروف العلة وجمع التكسير في ابجديات آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية.

لا اكراه في الحب، ايها الغائب الحاضر، فقد تبين ان شرفاء العرب كانوا وما زالوا يعشقونك بملء حريتهم، ويتعلقون بك من تلقاء انفسهم، ويقفون قاب ”قلبين” او ادنى منك بمحض ارادتهم واختيارهم.. وسلام عليك في الخالدين !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى