الناصرية .. من الحنين الى التجسيد !!

عندما سافرت ابنتي الى القاهرة قبل أيام ، سألتني ان كنت احتاج الى شيء من هناك ، فأوصيتها على بعض الكتب عن ثورة مصر الجديدة ، وطلبت منها أن تسلّم لي على عبد الناصر عندما تطأ ارض القاهرة ، وسألت نفسي بعد أن غادرت ، لماذا أردت منها أن تسلم لي على عبد الناصر ؟ ولماذا اطلب كتبا عن الثورة الجديدة .

ووجدتني وبعيدا عن النوستالجيا ( الحنين ) الى عبد الناصر ، استعيد تجربته النهضوية ومفرداتها في خيالي ، واستحضر العصر العربي الناهض ( ارفع رأسك أخي العربي ! ) الذي أنشأه عبد الناصر على أرض الواقع ، وعلى صعيد الأمة العربية ، وأعيد اختزاليا التفكير ببعض القضايا والعناصر التي ربط بينها عبد الناصر بعقله المنفتح على التغيير، والتحديث والمعرفة ، والمقاومة ، والحقل الذي افتتحه في الحياة العربية ، لكي تمضي الامة على طريق النهضة والحرية والاستقلال .

وأود الاشارة اولا الى أن معظم القوميين وعلى اختلاف مشاربهم السياسية كانوا ولايزالون أبناء لمشروع ناصر القومي النهضوي بمعنى من المعاني ، كما أنهم خير من قرأوا المعاني الكامنة في هذا المشروع ، وحاولوا تجسيدها في ممارساتهم السياسية ، حتى وان كانوا قد فكروا بالنهضة  عن طريق منهج أو استدلال آخر ، أو اتخذوا طريقا آخر مختلفا عن الناصرية في رؤية سبل وآفاق النهضة القومية ، وسبل تحقيق اهداف الأمة على المدى البعيد ، وحيثما كان هناك حوار في طبيعة الفهم للمسألة القومية أو التلاقي والاختلاف ، والبحث عن الأفضل داخل أطر التيار القومي ، وكلما نشأ مايوجب السجال والاختلاف بين الرؤى  “وهو ما أصر البعض على تسميته خلافا وتنابذا وصراعا” ، كان هذا الصراع ينطوي ويفضي الى وحدة في التفكير ضمن جدلية صراع – وحدة  ، وتغيا مصلحة الامة ، وامتلأ حبا لعبد الناصر وطريقه ومشروعه الكبير ، وكلما كان هناك خلاف مع عبد الناصر ، كان هناك احترام واعتراف بدوره ومكانته ، وكنت دائما لو شققت قلب أي قومي في انحاء الوطن العربي لوجدت عبد الناصر داخل هذه لقلوب ، وقد كان ذلك في أوج زعامته وكارزميته ، وبقي في الصدور حتى اللحظة ، حيث نستحضره ونحن نفكر بدور مصر وعبقرية مكانها وزمانها ، وأهمية هذا الدور في تغيير الواقع العربي.

ولذلك علينا أن نقول الآن أننا عندما نتحدث عن الناصرية فاننا لانهرب من واقع عربي لانستوعبه ، ولاطاقة لنا على مواجهته ، فنكون مثل دروايش يبحثون في لحظة وجد وغياب عن الغائب والمغيب ، ولانلوذ بناصر نرجسيا من واقع مفروض لانقدر على تشخيصه والانتصار فيه  ، ولكننا نذهب اليه بوعي واحتياج معرفي لكي نستحضر ونقرأ درسه وتجربته ، ولكي نستولد النموذج ، والمنهج الناصري في حياتنا العربية ، وتلك هي كما أرى مأثرة ناصر والناصرية المسترسلة ، بأن ابدعت الرؤية والمنهج ، ودليل العمل القومي الثوري في عملية بناء الأمة ومواجهة التحديات  ، وهي ما شكل الأساس الذي قامت عليه الثورة الناصرية ، ذلك أنها كانت ثورة مكتملة المعاني ، استراتيجية الاهداف ، قومية الأفق ، ونجحت في اقتحام الدوائر المغلقة ، وافتتحت الدوائر الجديدة الاسلامية والافريقية والدولية ، واستنبتت فيها نموذجا ارشاديا ناصريا لايزال يستعاد ويستحضر بجوهره وأبعاده في كل لحظات التحول والتغيير وعلى نطاق كوني .

وكأننا نريد  أن نقول بدون عصبوية أو التباس ، ومن خلال فهمنا لجوهر الناصرية وعمومية اهدافها ، أننا ناصريون وهذا هو منهجنا الذي لاعوج فيه ، ولا انتحال ، ولا مراوغة ، ولا تدليس ، وفيه عناصر مشروع النهضة العربية الاساسية ، التي لانزال نحاول تجسيدها حتى اللحظة ، وهو المشروع العمومي الجاذب الذي جعل أبناء مصر يستعيدون دورهم في ثورة 25 يناير  ، ويواصلون  ثورة يوليو في ثورة مستمرة ودائمة ، ويعيدون بناء ماانهدم في الوقت السياسي الكئيب المستقطع من تارخ مصر بعد وفاة ناصر وحتى اللحظة ، ذلك أنهم يعودون الى المنهج والنموذج والروح الناصرية الوثابة ” حتى ولو لم يصرحوا بذلك جهارا ” في البحث عن الحرية ، والديموقراطية ، والاستقلال ، والعدالة الاجتماعية ، والتجدد الحضاري .

وهكذا يمكن أن نكون ناصريين في المرحلة الراهنة ، من خلال استحضار المشروع النهضوي الناصري وعناصره ، بأفق وعقل نقدي ، وقراءة مستنيرة وتنويرية ، وتوطين المنهج والنموذج مجددا في العقل والحياة العربية ، وتقديم اطروحات جديدة حول سبل تغيير الحياة العربية ، وجعل الناصرية مفردات وطنية وقومية عريضة منفتحة على كل الرؤى والقوى القومية والنهضوية في الوطن العربي ، من اجل صياغة عصر ناصري المعنى ، قومي الدلالات ، تاريخي الآفاق ، استراتيجي الاهداف  .

الناصرية كما نفهم معناها في المرحلة العربية الراهنة ، وكما فهم معناها مفكر مصر الاستراتيجي الكبير “جمال حمدان” ذات لحظة ، ليست حوزة استذكارية أو حلقة دروشة سياسية ، وحنين ، ووجد ، وذكريات ، أو نظام سياسي مضى وانقضى عهده ، وانما هي فكرة نهضوية ، ومنهج ثوري ، ودليل عمل ، وخطة طريق قومية ، لابد من تجديد الحديث عنها “وخصوصا في أيامنا هذه” ، لكي تملأ وتدير فراغ مصر الراهن ، وتطال الفراغ العربي الكارثي القائم ، الذي نشأ في حياة العرب ووضعهم أمام انسداد وكآبة !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى