زمن النقد والمراجعات  !!

أصبح الوضع العربي الانحطاطي الراهن يستدعي افتتاح زمن جديد من النقد والمراجعات على الصعيد القومي ، وإطلاق أفكار إيجابية وبناء تصورات تعيد ترتيب عقل الانسان العربي وتضع أمامه جملة من المنطلقات والمحركات الاستنهاضية التي يمكن أن تشكل نقاط بداية لزمن عربي مفترض وجديد من العقلانية والالتحام بقضايا وتحولات العصر والانطلاق نحو البحث عن ممكنات تجاوز لحظة التأزم والانسداد الراهنة .

والسؤال الذي يثار ويطرح في هذا النطاق عن كيفية افتتاح أفق والتقاط بعد وزمن عربي عقلاني استنهاضي  وما هي ممكناته في هذه اللحظات المعقدة ؟ وما هي أدواته المتاحة والممكنة وقدراته على إجتراح هذا الخط التاريخي الجديد والمضي فيه إلى مآلاته التغييرية ونتائجه ذات الأبعاد التي قد تقود إلى الخروج من الأزمة والدخول في لحظة تاريخية مغايرة فيها ما يدفع إلى تحويل لحظة التأزم الراهنة إلى لحظة انفراج وتقدم إلى الأمام .

ولأن السؤال والجواب عليه من طبيعة تاريخية افتراضية  كليّة فإن الخوض فيه يتطلب وعياً بالتاريخ وتجاربه وقوانينه –  ووعياً بتاريخ الأمة العربية وتجاربها في مواجهة لحظات الانحطاط ، وطرائقها في تغييرها إيجاباً ومحافظتها على طاقة إيجابية في التصدي للتحديات وعدم استسلامها للمعطيات القاهرة والسلبية . بهذا التراث النهضوي الحافز المديد الذي تأسس  على استبصارات بحقيقة البقاء داخل التاريخ ذاتاً وليس موضوعاً وفهماً لمنعرجات التاريخ وجدلية السقوط والنهضة في مساراته المتغيرة .  وأما  الأداة الأزلية التي اعتمدتها الأمة في مواجهة تحدياتها فهي الثبات والوعي  التاريخي الواقعي وعدم الرضوخ لضغوط وإكراهات الحاضر وإيمانها بقدرة جماهير الأمة وإنسانها وطلائعها على التغيير والانقلاب على الأوضاع الانحطاطية وكان ذلك من الثوابت الموضوعية لبقاء الأمة ودوامها في التاريخ وقدرتها المتواصلة على التغيير والتجدد .

وإذا اعتمدت هذه الخلفيات التاريخية الاستنهاضية الحافزة ( التي لا ترتكن إلى أي حتميات ووثوقيات تاريخية إطلاقية ) باعتبارها نموذجاً ارشادياً ومرجعاً لأمة قادرة وعصيّة على الموات والإنكسار فإن التقاط الأبعاد الايجابية فيها وعلى أساسها ، وتخليق أزمان النهضة تصبح واردة وقريبة من التحقق والتجسد ولا تكون يوتوبيا ومثالية عفى عليها الزمن وتكون محفزات ودوافع لبناء حالات نهضوية وموانع لعدم الاستسلام .

تعرّض الواقع العربي في حقباته وتجلياته المتأخرة إلى فوات وإنفلات . فوات ونكوص وماضوية  تلبست كافة مجالاته ووجوده  وأورثت الانسان العربي ثقافة نكوصية راجعة تريد أن تبقى أسيرة الماضي والتباساته وتريد أن تسحب  هذا الماضي على الحاضر على مدى الدهر وتكبله باشكاليات زائفة وتبقية في حالة توتر واصطخاب ولا تعطيه الفرصة للتحرر من هذه القيود والمعضلات  ورافق ذلك إنفلات ثقافي أتاح للأفكار الشاردة والشريدة أن تتعمق فيه وتجعله مرتعاً للرؤى الطائشة وأن تبقيه فريسة التخلف والخرافات السياسية والاجتماعية بكافة أصنافها وتجلياتها ، وأنشأ ذلك فراغاً وتفريغاً أبقى مجتمعاتنا في حالة شلل وانجماد ودهشة وانسداد ولّدت بيئات منافية للحقائق التاريخية التي تشكل هذا الواقع على أرضياتها وأخرجته عن صراطه المتشكل داخل هذا التاريخ .

وحالت هذه المشهدية المجتمعية الكارثية إلى وقف عمليات التفكير الاجتهادي والابتكاري وعطلت مسألة النقد والمراجعة والمساءلة وأنشأت مجتمعات محدّثة  شكلا وموضوعاً واعتباطاً بلا ثقافة وبلا عقل يتدبر أزماته ويعي مشكلاته ويفتح فرجات في حاضره ويطل على مستقبله  ، وابتعدت هذه اللحظة القاحلة والاضمحلالية المباغتة والمستحدثة عن التاريخ الحافز وصروفه ومتطلباته وأبقت في المجال أثقالاً من الهواء والهياكل وخفة الوزن ودواماً للحياة بلا معنى .

وكان لابد ( وفقاً للضرورات الوجودية والتاريخية  وليس من باب الرغبات والأمنيات ) أن يتولد من هذا التصحر فضاء جديد للتفكير والاستبصار والتدبير ومنهج تاريخي نهضوي للتعامل مع الزمن المبدد والتاريخ المفرغ من المعاني إذ لا يصح ولا يستوي أن تصمت الأمة وأن تسكت عن هذا الموت البطيء والعيش الجارح  ، وكان لابد أيضاً من لحظة إدراك قومية البعد والمجال وحركة نوعية تأخذ على عاتقها إثارة الأسئلة والاحتجاج على حالة الفراغ والتردي والبحث والحفر عن مسببات التراجع وموقف الفرجة الذي نحياه ونحن نسير نحو الانقراض  ، وكان لابد مهما تلبد الأفق وحاقت بنا النوائب أن يبدأ زمن النقد والتجديد والتغيير والمراجعات .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى