التيار القومي العربي .. مهمات مستجدة !

تتأسس النظرة الاستعمارية ( الصهيونية – الاقليمية ) في المرحلة الراهنة تجاه الوطن العربي على ضرورة استغلال الزمن العربي الانحطاطي القائم والواقع العربي المشظى لتحقيق الفكرة الاستعمارية الاستراتيجية باستئصال الهوية والماهية القومية وتفتيت الأقطار العربية وتقسيمها بالطرائق الاستعمارية المعروفة إلى ملل ونحل وأقليات وشعوب ودويلات وكانتونات ومحميات متعادية، باعتبار ذلك المقدمة الأمثل لترسيخ ودوام الهيمنة على الوطن العربي ونهب ثرواته وإخراجه عملياً من التاريخ، وإعطاء الكيان الصهيوني فرصة التجذّر والتمدد والدوام والاستقرار .
وكانت هذه النظرات والخطط الاستعمارية قد أجفلت واستثيرت وحارت في الذي جرى بشكل مباغت ومتسارع في بعض الأقطار العربية من انتفاضات جوّالة نهاية عام 2010، إلا أن ما جرى بعدها من صراعات وتداعيات كارثية رسخ لديها فكرة الاستعصاء العربي وتعذّر دقرطته وتغيّره وضرورة إجهاض هذه الانتفاضات وإبعادها وحرفها عن مهماتها الحقيقية وتحويلها إلى ثورات مضادة ومقتلات وتمزقات تتيح لها تنفيذ الفكرة الاستعمارية الاستراتيجية الآنفة بكل عناصرها، وأنشأت بذلك المشهد المرغوب لتنفيذ مآربها ووجدت تسويغاً استثنائياً لمشروعها الكبير في هذا اللامعقول العربي الذي تجاوز كل الحدود، وخلق العديد من الانجراحات في الذات العربية وولد حالة من اليأس المطبق .
كانت الاستجابات العربية محدودة إن لم نقل معدومة أمام هذا الشر الاستعماري المستطير، واندغمت القوى القومية في هذا اليأس والخمود على الرغم من الموجبات الكثيرة والمتعددة لدى أصحاب الفكرة القومية وقوى النهضة العربية للتعرض لهذا الزلزال والتصدي لتداعياته، وملاقاة هذا الفراغ التفسيري للحالة العربية الراهنة بإيجاد ذهنية ردّ ومقاومة، وطرح أفكار وخطط استنهاضية ايجابية تقلص وتحاصر حالة اليأس وتخلق موقفاً وإرادة جماهيرية تتصدى لهذا الانحطاط والتمزق، وتبقي شعلة الاستجابة والتحدي قائمة وحيوية.
كان بيد القوى القومية والنهضوية ولا يزال مشروعاً قومياً نهضوياً تأسس على دراسات وفكر عقلاني، وصاغته قوى وتيارات عربية مختلفة ومجتمعة على فكرة النهضة ووضعته قيد التفكّر والاشتغال بعد أن جعلت أفكارة جامعة وقابلة للمؤالفة والتراكم واختارت عناصره بدقة ليكون برنامجاً للأمة وقوة دافعة للتوحد وخلق التفاهمات بين القوى النهضوية الحيوية في الأمة، وحددت هذه العناصر : بالوحدة والعدالة الاجتماعية والديموقراطية والاستقلال والتنمية المستقلة والتجدد الحضاري، واعتقدت بما راكمته وعرضته من تحليلات وشروحات وما قدمته من تفاصيل ومفردات أن هذه العناصر قد تشكل مرجعية للتفكير القومي العربي الجديد وقد تجمع المفرّق وتعيد للأمة الأمل وتخرجها من حالة الالتباس والضياع .
وأشرّ بزوغ هذا المشروع على أن هناك إرادات وتطلعات وقوى عربية موازيه لا تخضع للسائد الانحطاطي، بل تطمح دائماً إلى اجتراح البديل وتعمل على التوفيق بين قوى الأمة لكي تقوم بمسؤولياتها التاريخية ولكي تفتح الآفاق المسدودة وتخرج الأمة من حالة الهمود إلى حالة الاستجابة وتوليد المشاريع المضادة للمشاريع الاستعمارية.
إلا أن التعامل الجماهيري مع هذه الرؤى كان محدوداً وضعيفاً وأدى إلى جعل هذا المشروع وهذه الخطط الاستنهاضية نخبوية لا تقوم إلا بوضع أفكار مجردة أمام عقل الإنسان العربي دون العمل على ترسيخها وتجسيدها وتوظيفها في خلق ذهنية إيجابية تقاوم التراجع والانحطاط، وتقف بالمرصاد للمشاريع الاستعمارية المندفعة بقوة ووحشية لتحقيق أهدافها التفتيتية الافتراسية .
ولأن الحالة العربية الراهنة وما يعتمل فيها من اضطرابات وصدامات وتصدعات وما يحيط بها من مخاطر وتخوفات وما يتخلق بداخلها من لا معقولية ومستجدات أصبحت تتطلب ما هو أكثر من الخطط والمدونات، وتستدعي التقدم بأفكار نظرية وعملية مستجدة وعاجلة والدعوة إلى حوار عربي – عربي، وإنتاج مجادلات حيوية استنهاضية وتفاهمات يكون في مقدمتها استبصار ما يحدث بطرائق مغايرة وغير تقليدية، وإنشاء خطاب عقلاني استراتيجي وتشخيصات وتعريفات للحالة والوقائع السائدة وعناصرها وأسباب دوامها ، وتقديم رؤية تتضمن كيفية المحافظة على الهوية والماهية القومية، وكيفية المحافظة على الوحدة الوطنية داخل الأقطار، وكيفية التصدي لمشاريع التقسيم الاستعمارية المنتظرة، وإعادة الانسجام والتواؤم الشعبي في المجتمعات العربية، ومناهضة الدعوات التكفيرية والطائفية ، وتجديد الحديث عن الرابطة القومية وأهميتها في خلق حالة من التماسك إزاء فشو الدعوات الانفصالية والطائفية والأقلوية وغيرها من العصبيات التحتية المفرّقة والمستجيبة للخطط الاستعمارية.. إنها باختصار دعوة إلى ثورات في التعليم والسياسة والثقافة والاقتصاد تضع المجتمعات العربية على أرضية عقلانية وعصرية تدرك التحديات والخيارات المطلوبة في المرحلة الراهنة والمستقبلية، وتضع الأمة على مدارج التطور والتقدم والنهضة.
إذن امام القوى القومية والنهضوية في الوطن العربي السعي إلى إنشاء المرجعيات الجمعية، وصياغة الرؤى الكلية ووضع التعريفات القومية الجديدة التي تبقي الأمة في حالة استقرار فكري وتجدد دائم، في الوقت الذي يتوجب عليها استدخال هذه الرؤى في الوعي العربي الشعبي المأزوم وتحويلها إلى برامج وتفاصيل لوقف التراجع والانهيار، وخلق حالة من الوعي الايجابي لدى الإنسان العربي يبقيه دائماً في مدار الاستبصار الخلاق والقدرة على توليد الادراكات والاستجابات الفاعلة، ويزيح من أمام ناظريه ووعيه الغشاوات والعماءات، ويبدد حالة اليأس والانسحاق والإنهدام التي تلبست عقله ووجدانه وأفقدته القدرة على التوازن .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى