رداً على مقال استيفن والت حول انهيار النظام الليبرالي

يرى هذا المفكر الأمريكي أن النظام اللايبرالي قد بدأ يتهاوى. وأنا أُوافقه على ذلك. بَيْدَ.. أنه يذكر أسباباً لهذا التهاوي لا يُسلّم بها…إذْ يرى أن أمريكا ألْزمت نفسها بتوسيع مجال الحكم الديمقراطي, والتخلص من المستبدّين,وترسيخ السلام الديمقراطي,وتبعاً لذلك الدخول في سلام عالمي.

– أقول: والصحيح أن أمريكا لم تلزم نفسها بذلك لصالح الشعوب, وإنما لكي تتجانس الشعوبُ معها , شكلياً فقط, لكي يسهل عليها قياد هذه الشعوب,وإلاّ.. فلماذا السفراء الأمريكان – الذين يمثلون وجهة نظر بلادهم في كل دولة- يضغطون على القادة في كل بلد له شكل ديمقراطي لا جوهر ديمقراطي, كي ينصاع إلى طلبات السفير الأمريكي, في إدارة بلادهم؟ لو كانت أمريكا لايبرالية مع الشعوب التي تهيمن على قادتها .. لما ألْزمتهم بما تراه, بل لاكتفت بتقديم وجهة نظرها , من ناحية استشارية, من دون إلْزام .

فأين الديمقراطية في هذا الإلزام؟ إنها دكتاتورية مُرّة المذاق.وهذا خلل عميق في ديمقراطية الغرب, لأن الغرب يكيل بمكيالين, ويتصرف تصرّفيْن متناقضين: تصرف مع الداخل الغربي, وتصرف يكاد يكون مناقضاً مع –الآخر!! وهذا انحراف – في الفكر وفي المنهج-و ما جعل كل الحضارات السابقة تنهار إلا هذا الانحراف في الفكر والمنهج.لأن طبيعة الإنسان والكون كلّه مستقيمة , بشكل عامّ, وكل سلوك بشري ينحرف عن هذه الفطرة المستقيمة ينتهي إلى الانهيار.. لأن الفطرة –حقّ وعدل, وكل ما فارق الحق والعدل ينتهي إلى الانهيار..في البدْء – عند رأس الزاوية الحادّة – يكون الانفراج قليلاً لا يكاد يُلحظ ,فيقبل الناس هذا الانحراف, ولكنه مع تمادي انحراف الخطّ المنحرف عن الخط المستقيم : خط الفطرة, و خط الحق والعدل ..يضحي الانفراج ملحوظاً لكل ذي عينين .فتسقط الادعاءات والتبريرات والدجل على الناس , فينقلب السحر على الساحر الدجال , فينفضّ عنه الناس.

وصدق الله العليم إذْ يقول -: ( ولا يَحيقُ المكرُ السّيّءُ إلا بأهلِهِ ) فاطر- 43.. وفي الأمثال قالوا : (مَن حفرَ حفرةً لأخيه – وقعَ فيها).

وقول الله العليم السابق يعني أن المكر يُصيب الممكور به, ولكن إصابته للماكر أشدّ وابلى, والذي حفر حفرة لأخيه, أو من يظهر له الإُخوّة, قد يقع فيها من حُفرت له , ولكن إصابته تكون أخفّ من إصابة من حفر الحفرة…

وهذا .. ما جرى في كل الحضارات التي سادت, على انحراف , ثم بادت. إذْ هاجمهم قوم هم أقوى منهم وأشدّ.. فدمّروهم , واستقروا مكانهم . ولكن بغَوْا كما بغى سابقوهم , فغزاهم من دمّرهم.. وهكذا دواليْكَ…وفي القريب الذي عشنا طرفاً منه كانت بريطانيا العظمى لا تغيب عن مستعمراتها الشمس ,فلانحرافها عن الخط المستقيم.. تقوّض نفوذها , وأمست دويلة , يزيدها ضعفاً أنها خرجت من الاتحاد الأوربي, لأن الانفراد تقزيم وضياع .

وهكذا كان التشرذم في العالم الإسلامي, بعد القرن الثالث الهجري , إذ ْ تحول إلى دويلات لا تستطيع أن تمضيَ في صُنع حضارة , أو أن تردّ لمعتد ٍ غارة… وهكذا تشرذمت الأندلس , عندما انتهى فساد الحكم فيها إلى منتهاه ,إذْ تـحولت إلى ما سُمّيَ –ملوك الطوائف- كلّ مدينة دولة , ولذا استطاع سكان الأندلس الأصليين أن ينقضوا على هؤلاء الملقبين يالملوك, وكل منهم منصّب نفسه ملكاً على قرية.

وهذا فساد أعظم, وأن يستولوا عليهم , مدينةً بعد مدينة, من دون أن يفكر أشباح الملوك هؤلاء من أن يوحّدوا أنفسهم تحت إمرة حاكم واحد, لكي يتمكنوا من مقاومة الآخرين!! وما كان لهم أن يتوحّدوا , وما كان الله العادل ليأذنَ بذلك , وهم ظلَمَةٌ تنكبوا طريق الحق والعدل.. ولذا قال فيهم الشاعر الأندلسي: ( مما يزهّدُني في أرض أندلسٍ—– تلقيبُ مُعتضدٍ فيها ومعتمدِ)-( ألْقابُ مملكة ٍفي غيرِ موضعِها —– كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة َ الأسدٍ ).

أما أمريكا .. فهي آيِلة إلى مآل كل الظالمين, في التاريخ الذين انحرفوا عن الحق والعدل.فعلى مدى عقود سينفرط الْتئام ولاياتها وستتحول إلى دويلات, كلّ دويلة على خلاف مع الدويلات الأُخر!!وهم ليسوا بِدْعاً في مجرى التاريخ… – – أمام ما سبق ..أين الحكم الديمقراطي الحقّ في كل العالم الثالث الذي تهيمن عليه أمريكا؟سوى قيام أنماط شكلية لا تمثل حقيقة الديمقراطية , وحقيقة الحرية, ولاحقيقة الحق والعدل .

إن العالم الثالث لا يفهم الحرية إلا أنها حرية الحاكم…فكل من يخالفه فهو معارضة , في الاستعمال اللفظي, ولكنه , في حقيقة الأمر , يعدّه عدوّاً لحكمه !!- فهذا هو ما علمته أمريكا حكام العالم الثالث من الديمقراطية, وما وراء ذلك فصور جوفاء لا مضمون وراءها.. ثم أمريكا ,إذا تخلّصت من مستبدين – كما يقول.. والت..فإنما لكي تأتيَ بمذعنين, لا لأنداد في الرأي والتصرّف.

أما ترسيخ السلام فهو, عندها, ترسيخ الاستسلام لإرادتها وأوامرها, ومصالحها, غيرَ عابئة بمصالح هؤلاء الأغراب!!- إن المفكر الواقعي ابن خلدون يقول : إن الظلم مُؤذنٌ بخراب العمران. وظلم أمريكا هو الذي سيؤدّي إلى خرابها.. وإلا- ما حقها بقتل شعب العراق على يد- بوش الابن- وتحويله إلى طوائف متناحرة, يقتل بعضها بعضاً – مكان تلك الحرية التي زعمت أنها جاءت بها الى العراق؟؟ما حقها بإشاعة تلك الفوضى الخلاقة , بزعمها, التي دمّرت الشعوب العربية , في العراق وسورية واليمن وليبيا ؟؟ ما حقها بأن أطلقت أيدي –إيران- التي قررت أن تثأر لنفسها من –قادسية سعد ابن أبي وقاص-تلك القادسية التي خلّصتها من عبادة – النار- وأدخلتها في عبادة الله ؟؟- أطلقتها في المشرق العربي تتأمر , وتسعى كأمريكا إلى فوضى تجزّئ المجزّأ.

– -بعد الذي تقدم –نناقش ثلاثة أفكار-للمفكر الأمريكي والت- بإجمال :فالقول (بأنه بين عامي-2000-و- 2015-تهاوت الديقراطية في -27- بلداً..) – الردّ عليه هو –أولاً- هي ليست ديقراطية وإنماهي شكل مرقع للديمقراطية- كما لا يخفى على عاقل. وثانياُ-لأن هذه البلدان أحست أنها أصبحت مطية , ليس أكثر , لنظام حكم منحرف عن الحق يسمي نفسه ديمقراطياً ( ومنحرف جدّاً عن الحق في نظامه الاقتصادي الرأسمالي- الذي قد نكتب عنه في مرة أخرى ), مع أنه نظام ظالم مستبد مع الدول الأخرى. ثم يقول – والت : ( فإنه من الصعب فهم- لماذا ينظر القادة الصينيون والروس إلى الجهود الغربية , لنشر القيم اللايبرالية باعتبارها تهديداً,أو لماذا اتخذت خطوات عديدة لإحباطها؟).

أقول: أولاً- الصينيون والروس.. أصحاب نمط آخر من التفكير, ومن البديهي أن يقاوموا النمط المخالف.( مع أن نمط تفكيرهم استبدادي أكثر من اللايبرالية- في رؤيتي–أنا- المستقلة).وثانباً- هم يرَوْن عيوب اللايبرالية المدمرة لحرية الشعوب , ولآمالها في الاستقلال الحقيقي, لا الشكلي. ثم.. واضح أن –والت- منحاز لحضارته, فهو أحد أبنائها, وإلا لرأى ما نرى –فيما سبق فيه القول, وما يراه كل شخص يفكر.. ولكن, من أين لم ينظرون بعيون – حـُول ٍ أن يروْا الأشياء على حقيقتها .

ولذا .. فالأحول قد يرى المائل – معتدلاً . ولْيُسألء في ذلك هؤلاء الحول! ويقول –والت: ( يمكن للايبراليين أن يتحدثوا عن كل ما يريدونه حول أهمية التسامح, وفضائل التعددية الثقافية. ولكن الواقع هو أن مزج الثقافات في سياسة واحدة لم يكن يمضي أبداً على نحو سلس أو بسيط ).

أقول : هنا , لعل الكاتب ينتقد الحديث عن أهمية التسامح, وفضائل تعدد الثقافات- لأن هذا الحديث مجرد تنظير,ولذا فالغرب ,في الوقت نفسه, يسعى بقوة وإصرار, لدمج كل الثقافات في ثقافته, ولا يتسامح, حقاً,مع الحكومات التي تسير في ركابه. هذا قول صائب, إذا كان الكاتب قد قصده. وإلا.. فإنه تناقض وقع فيه.وعلى كلا الأمرين.. فإن رأينا أن الغرب يستعلي على الآخرين بثقافته, ويعتبرها الثقافة المركزية, وكل ما عداها من الثقافات فمجرد هوامش على النصّ, ويستعلي بلايبراليته ويطلب من الدول التي تسير في فلكه أن تتمسك بشكلانية الديمقراطية .

مع أن شكلانية الديمقراطية تضرّ ولا تنفع, لأن كل تقليد يستحيل أن يحمل كفاءة الأصل , على أن الأصل الديمقراطي الغربي –مُطّ- عندهم حتى لامس أطراف الفوضى, من الناحية الاجتماعية, ومن جهة أخرى ولج( وليس لامس فحسْبُ) إلى أعماق الكتاتورية , بنظامه الرأسمالي الذي جعل خمسة بالمئة يحتازون –خمسة وتسعين بالمئة من ثروات العالم, أما الخمسة والتسعون من البشر , فليس يتلهّوْن إلا بخمسة بالمئة. وهذا نظام لا تقبل به طوائف القرود !!.

والحق عندي..أن محاولة إلْباس كل الثقافات عباءة اللايبرالية جهل, حتى لو كانت اللايبرالية غير منحرفة, فكيف, وهي منحرفة؟ لأن البيئات كما تؤثر في الألوان  تؤثر في الطباع والأخلاق والأفكار والمشاعر والأحاسيس, وما ينتج عن كل ذلك من قول أو فعل.

ولذا.. يستحيل  تأطْيرُ كل الناس ضمن ثقافة واحدة . قال تعالى: ( ولو شاءَ ربُّكَ لجعلَ الناسَ أُمّةً واحدةً, ولا يزالونً مختلفينً إلا من رحمَ ربُّك ولذلك خلقًهمْ ) هود-118 –

غير إن هذا الانحراف لا يحملني على أن لا أرى شيئين : الأول-أنه يجب الاستفادة من كل –حكمة- لأنها –كما قال رسولنا العظيم: ضالّةُ المؤمن, حيثما وجدها أخذها—على ألا يؤدّيَ ذلك إلى الذوبان في الأفكار الأخرى والحضارات الأخرى, فنحن.. لنا حضارتنا الخاصة بنا , ورؤيتنا للإنسان والكون والحياة.

ولذا.. وجب علينا أن نهضم كل ما يُعجبنا من فكر الشعوب الأخرى , وعلمها, وأساليب حياتها , ومناهج تفكيرها…الثاني أني لا أتغافل عن أن كثيرأ من المهاجرين إلى بلاد الغرب , من العرب والمسلمين.. يتقوقعون على أنفسهم, فلا يتمكنون من أن يساهموا في بناء الحضارة والإنسان .

ومثلاً واحداً على ذلك أُرسله: وهو أن غطاء وجه المرأة التي تتشبث به بعض نساء المسلمين في الغرب- ليس له أيّ أصل في الإسلام, ( وكلمة –الحجاب –في آية – الأحزاب- ذات الرقم 53- لا تعني, بحال من الأحوال –غطاء الوجه,وإنما الحجاب, فيها , هو الستارة المسدولة على باب البيت, حتى لا يدخل الرجال على النساء, في بيوتهنّ , من دون استئذان,وهنّ غير محتشمات, في مجتمع لا يزال أقرب إلى البداوة, لم تعرَف فيه الأبواب المحكمة الإقفال, في معظم البيوت).

أجلْ.. ليس له أصل, وإنما كانت تلبسه البدويات في الصحراء, وقايةً من حرارة الشمس التي تحرق الوجوه,ومن غبار الأرض التي تسفيه الرياح, ووقاءاً من لفح البرد في الشتاء, وعواصف المطراللاطمة للخدود .

ثم .. لأن عصور الانحطاط .. انحطت بها همم الرجال وفكرهم ,( وإلا لما سُمّيت –عصور انحطاط) فقد صبّوا بلادة انحطاطهم على النساء, لأنهنّ ضعيفات القوى البدنية, ومعيار القوة في عصور الظلام هو –القوة البدنية. ولذا اختلق الظلاميون الكذابون لغطاء الوجه – أحاديث نسبوها إلى الصحابة ورفعوها إلى رسولنا –صلى الله عليه وسلم- وشفتاه الشريفتان لم تنطقا بها, والصحابة بعدّ, لم يقولوها, لأن –الصحابة َالصحابة َ الذين تربّوْا على يديْ الرسول المعصوم لا يكذبون.

وإنما وجد هؤلاء الكذابون أسانيد في كتب الحديث فنسجوا على غرارها, كذباً وزوراً!!وإلا فليأتـِني أبرعُ مقلديهم , اليوم, بحديث واحد في هذا الشأن ليس في رواته, راو ٍ ضعيف أو أكثر. ولست أنا الذي أصفه بالكذب بل يصفه بالكذب أولئك السابقون الذين جرّدوا أنفسهم لهذا الأمر,فأحسنوا, وخدموا العلم, في كتب كبيرة عن الضعفاء, ورد في كل منها ما لا يقلّ عن ألفيْ راو ٍ كذاب.

وإن الشيخ ناصر الدين الألباني وجد في كتب السّنن الستة المشهورة –خمسة آلاف راو ٍ كذاب, والكتاب متداول معروف.( وأنا لي كتاب غير مطبوع , عنوانه: الزينة والحجاب- في الأحاديت والكتاب—لم أترك شيئاًفي هذا الموضوع إلا غربلته, ثم نخلته- فلم أجدْ ولا حديثاً واحداً في الحجاب ,أي: الحجانب كغطاء للوجه).

صحيص أن الغرب, بحكم ثقافته النحرفة المتعالية –زورانُ بهؤلاء العرب والمسلمين , ولكن لا ننكر أنهم هم سبب من أسباب هذا الزوران.

– وبعدُ.. فكل الذي قاله المفكر الأمريكي –ستيفن والت- هو –كما رأيت- لا يخرج على تبريرات, لا حقائق, لن تجديَ نفعاً في صدّ سيل الانهيار الذي سيجرف حضارة قومه البعيدة عن الفطرة , وعن الحق والعدل.

وكنتُ أريد أن أتناول جانباً واحداً , هو أغفله, مع أن الداء الكامن فيه لا يقل عن الداء الكامن في عروق- لايبرالية أمريكا, والغرب , عامّة,هذا الجانب قد أشرتُ إليه, آنفاً, هو: النظام الاقتصادي الرأسمالي المدمر للكرامة الإنسانية والنفس الإنسانية والمدابر لقول الله العليم الخبير , عن أقوات الأرض.. ( وقدّرَ فيها أقواتَها في أربعةِ أيامٍ , سواءً للسائلين ) فُصّلت-10, أي: إن الأقوات التي قدّرها الله القادر في الأرض تكفي كل الناس, على تفاوت بينهم, من دون أن يجوع أو يعرى أحد…لولا أن الأنظمة الجائرة كالرأسمالية, والجشعين من بني البشر قد احتكروا الأموال , واكتنزوها , ومنعوها الجياع والفقراء, ظلماً وعدواناً , بسبب الأنظمة الاقتصادية هذه الفاسدة.

ولكن –كما أسلفت- فقد أعود إليه في مقالة لاحقة.. لأن هذه المقالة طالت. والله المستعان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى